أضحى انتشار الجرائم في مجتمعنا يشكّل أرقامًا قياسية مخيفة تهدّد كيانه، وقد بدأت صيحات التّحذير من استفحال هذه الظواهر بالدعوة إلى تفعيل عقوبة الإعدام- القِصاص- كعقوبة ردعية، للحدّ من هذه الجرائم. لم يشرّع اللّه عزّ وجلّ العقوبات بغرض تعذيب خلقه، بل هو سبحانه أرحم بخلقه منهم، فقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} البقرة:361، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رحمة اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر:35، فالشّرع الحنيف يريد بالنّاس الرّحمة، ويضيّق في تطبيق العقوبة، ويتشدّد في إثبات بعضها. فأساس العقوبات في الإسلام (القِصاص) يُستوحى من الآية الكريمة {ولكم في القِصاص حياة يا أولي لعلّكم تتّقون} البقرة:971، أي التساوي بين الإثم المرتكب والعقوبة الرادعة. فقد عبّر القرآن عن العقوبة بالمَثُلات فقال اللّه تعالى في عقابه الأمم السابقة {ويستعجلونك بالسيِّئة قبل الحسنة وقد خَلَت من قبلِهِم الْمَثُلاَت}، أي إن العقوبات مماثلة للذنوب والآثام، فالعقوبات الإسلامية، عامة، تقوم على المساواة بين الجرم والعقوبة، ولذلك تسمّى ''قِصاصًا''. وجاء تشريع الإسلام لفريضة القصاص حتّى لا تنتشر الفوضى والاضطرابات في المجتمع، وبيَّن أنّ كلّ إنسان مسؤول عمّا ارتكبه من جرائم، وأنّ عليه العقوبة وحده، ولا يتحمّلها عنه أحد. إذ إنّ إطلاق لفظ ''القِصاص'' في الآية الكريمة: {ولكم في القِصاص حياةٌ يا أُولي الألباب لعلّكم تتّقون} على العقوبة فيه حكمة تتضمّن المساواة بين الجريمة والعقوبة، حتّى يبقى مانعًا قويًا للجريمة، وبذلك يحيا المجتمع حياة هادئة. والنّظام الجنائي في الإسلام يهدف لحفظ الكليات الخمس، الّتي لا تقوم الحياة ولا تستمر من دونها وهي: حفظ النفس وحفظ الدِّين وحفظ العقل وحفظ النَّسل وحفظ المال، وأي جريمة هي اعتداء على إحدى هذه الكليات، فقد شرعت كافة العقوبات في الإسلام للمحافظة عليها. وتعدّ التّدابير الوقائية إحدى أنظمة الإسلام، حيث يقوم على تهذيب النّفوس وتطهير الضمائر، حتّى تحجم عن الإقدام على أيّ جريمة قد تقطع أواصر الأخوة بين جميع أفراد المجتمع، لأنّ الوازع الديني هو خط الدفاع الأوّل ضدّ الجريمة بجميع صورها، فكلّما كان الفرد مُحَصّنًا به كان مراعيًا لحرمات اللّه وحرمات النّاس في سرّه وعلنه، كما إنّ تطبيق المنهج الوقائي الإسلامي هو الوسيلة الّتي بها يتحقّق الأمن والأمان للجميع. وتتمثل هذه التدابير في الأحكام الشّرعية الّتي جاءت بها الشّريعة الإسلامية، وفي تطبيقها يكمن الأمن والأمان والاستقرار الّذي ينشده كلّ مجتمع، لأنّها شملت كلّ جوانب الحياة، فهي تقوم على حماية الإنسان وصيانته من كلّ ما يوقعه في الإثم، وجُلّ هذه التدابير وردت على سبيل الوجوب، باعتبارها أحكامًا شرعية مخاطب بها كافة أفراد المجتمع، وهي قائمة على الأمر والنّهي. وقد انتقدت نخبة من أفراد المجتمع مساعي السلطات لإعادة تفعيل عقوبة الإعدام- القِصاص- بزعم أنّ القِصاص ليس عقابًا بل انتقامًا، وأن غاية القوانين الإصلاح وليس الانتقام، وهذا غير صحيح، لأنّ الإنسان إذا عرف أنّه إذا أقدم على قطع يد شخص آخر، مثلاً، فإنّ يده ستقطع، فإنّه لَن يقدم على هذا الفعل، ما يتحقّق معه منع الجريمة، وليس زيادتها كما يدعي هؤلاء. ويثبت القِصاص باعتراف القاتل، أو بشهادة رجلين يُعرَف عنهما الصّلاح والتّقوى وعدم الكذب؛ يشهدان أنّهما قد رأيا أو شاهدا القاتل وهو يقتل، فإن ثبت القتل بالشّهادة وجب حدّ القصاص على القاتل، فإن عفَا عنه أولياء القتيل، أو بعضهم؛ لا يُقام عليه الحدّ، وعليه دفع الدية، ويُقتل القاتل بالطريقة الّتي قُتل بها؛ قال تعالى: {وإن عاقبتُم فعاقِبُوا بمِثل ما عُوقِبْتُم به}. ولا يحقّ لأحد إقامة القِصاص إلاّ الحاكم أو مَن ينوب عنه، فلا يحلّ لولي القتيل أن يقتل القاتل حتّى لا تنتشر الفوضى. ع. ف