جنوبا على حدود الجزائر مع المغرب، على بعد حوالي ألف كلم من الجزائر العاصمة، التقينا في رحلة دامت 8 أيام بالكثير من المعالم، من تاريخ الوطن الذي يعود إلى مئات القرون، وبكثير من القصص القادمة من عمق واقع سكان منطقة الساورة، تحملنا ثلاث رسائل مشفرة، فهي هادئة رغم التهميش، كريمة رغم قلة الإمكانيات، ساحرة تغريك في التفكير في زيارتها، مرة واثنتين وثلاثا. ''أهلا وسهلا بكم في حضارة الساورة''، حيث اعتقل فرحات عباس، وتواصل القصور المشيّدة من طين تحدّيها للطبيعة منذ آلاف السنين. ''أهلا وسهلا بكم في حضارة الساورة''، حيث رقصت الفتاة ''هرو''، معشوقة الشيوخ والشباب في بني عباس، على إيقاعات ''المايا'' و''الهوبي''. بدأت رحلتنا التي كانت في إطار ملتقى علمي ببني عباس، تتقاطع مع سر وجود هذه المنطقة في عمق الصحراء الجزائرية. وقد كان أول من استقبلنا في بني عباس، وادي الساورة الذي بدا جافا وفصل الصيف على الأبواب، فهو يحكي الكثير عن تاريخ المنطقة. وكما يقال، فإنه واد لم يكن عصب الحياة فقط في المنطقة، وإنما أيضا خطا للتجارة التي مرّت عبره القوافل وسافرت القصص، يجذب نظرنا إليه بسرعة كأنه طريق عابر للقارات، كيف لا وهو الذي لقب زمانا ب''طريق الملح''، تتوسطه مدينة بني عباس، وامتداده من تمبكتو المالية إلى تلمسان، تصطف على ضفتيه حضارة ڤورارة وتيميمون وتوات، وفي جنوب بشار تمنطيط وبودة، القنادسة وتاغيت، تيدكلت وأولف. وتعتبر بني عباس وكرزاز أهم حضارات منطقة الساورة القادمة من القرن الرابع هجري، لهذا كانت المقابر التاريخية على ضفتي الوادي أكثر من المباني، تؤرخ لرحلة البدو الرحل في المنطقة، كما يقول لنا أحد الباحثين من المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ الذي رافقنا في الرحلة إلى منطقة الساورة: ''ترمز كلمة الساورة إلى صناعة الأسورة التي تشكل رمزا هاما من زينة النساء في المنطقة، وطريق الملح هو للتجارة التي تعبر من إفريقيا إلى شمال إفريقيا، ولم يكن الناس يستقرون إلا نادرا على ضفتي الوحدة قبل أن تستقر العديد من الحضارات، منها بني عباس''. مع دخولنا المدينة، نبدأ باكتشاف حب أهلها لتاريخهم، حيث الأقواس المتراصة على جانبي الطريق وفق الطراز المعماري القديم، تقف عاكسة نمط بناء قصر بني عباس وسط المدينة. بصمة في تاريخ الثورة التحريرية في منتصف رحلاتنا إلى بني عباس، يخجلنا تواضع شباب القرية، بوبكر وأصدقائه. فبمجرد أن علموا بهويتنا ، عرضوا علينا جولة إلى العديد من القصور التي لاتزال مهملة، رغم عبقها الأسطوري الضارب في عمق التاريخ. غيرتهم الشديدة على منطقتهم، دفاعهم ليستأجروا لنا سيارة تقلنا إلى قرية لوقارطه على بعد 70 كلم من وسط مدينة بني عباس، نسلم أنفسنا لكرم ضيافتهم، ونبدأ معهم رحلة نحو قصور الساورة التي لم يتم تصنيفها بعد. في الطريق، لم يتوقف بوبكر عن سرد تاريخ منطقة لوقارطه، يحدثنا عن أهميتها الاقتصادية والسياحية والتاريخية ونحن نتوغل باتجاهها بكل شوق، نشق الطريق نحوها عبر الحريشة، السهب ورابح، والبحيرة التي لاتزال مقصد الجمال والأغنام والماعز التي تتغذى من اليابس، كما نسجل في طريقنا حكاية شجرة الصلح وصراع القبائل، وقصة بنت حميدة التي هي على وزن قصص سعيد وحيزية، كما بدا لنا ذلك من ملامح أصدقاء بوبكر وهم يلمّحون إلى حساسية القصة، لما كانت تحمله من صراع بين القبائل بسبب المرأة. يستقبلنا القصر القديم في مدخل القرية بقبوره القديمة التاريخية، كان يبدو يتيما من السيّاح، ويتيما من اهتمام المسؤولين، رغم سحره وهو يغازل القصر الأحدث بمفهوم الأجندة الهجرية التي بنيت عليها قصور حضارة الساورة. يتميز قصر لوقارطه بأبراجه الستة التي تحمي البيوت، والمسجد المشيّد خلال القرن السابع هجري، يقول لنا أهل القرية إن القصر تعرّض لمحاولة للحرق من قبل الاستعمار خلال الثورة سنة 1957، بسبب البيت الذي يطلق عليه أهل القرية اسم ''بيت السياسي'' الذي كان يجمع فيه تبرعات للثورة، ولم تنتقل العائلات إلى الاستقرار في القرية الجديدة إلا مؤخرا، بينما لاحظنا وجود بعض العائلات، منها عائلة سليك سالم ومحمود يحياوي، الذين لازالوا يسكنون القصر في ظروف صعبة، ولكم أن تتخيّلوا كيف يسكن بشر القرن الواحد والعشرين قصور القرن الهجري، ومايزال القصر يجمع عائلات القرية في المناسبات والحفلات. في أفق القرية، يجلس جرف كراند بيلبيب، يحتضن واحدا من أخطر المعتقلات التي بناها الاستعمار الفرنسي، والتي قام باعتقال الشهيد فرحات عباس فيه، قبل أن يتم إطلاق سراحه في 16 مارس 1946 مع الإبقاء على مناضلي حزب الشعب الجزائري في المعتقل. في ذلك الوقت، كان يعتبر معتقل الخنيدق أكبر معتقل سياسي في الجنوب الغربي للجزائر، أقامه المستعمر وأضاف له مطارا وطريق السكة الحديدية التي تخترق سلسة جبال لوقارطه، على امتداد 40 كلم. نغادر القرية ومعنا الأساتذة والباحثين الذين رافقونا في الزيارة، لأخذ عيّنة من هذا التراث المادي واللامادي لتصنيف وتوثيق ودراسة منطقة الساورة، وقد ارتسمت ملامح الانبهار بكرم أهل قرية لوقارطه الذين استقبلونا كالملوك. يقول الأستاذ عبد الناصر بوردوز، باحث في الثقافة الشعبية بالمركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ: ''لوقارطه، سكانا وقصورا، مبهرة، خصوصا كرم ضيافتهم التلقائية، فتحوا لنا أبواب بيوتهم واستقبلونا برقصة الماية''. أهل المنطقة يحتفظون بعادات حياتهم التقليدية، ومن شدّة حبهم لعاداتهم، قدموا لنا نماذج خاصة من رقصاتهم الشعبية، كالرسمة والهوبي، وقاموا بعرض طقوس تلبيس العروس. موغل.. هنا حدود الجزائر المسافة بين قصر عباس وقصر موغل مئات الكيلومترات، وهي بسيطة وفق أجندة الصحراويين الذين يبدأ معهم حساب عناء السفر بعد ألف كلم. يحكي لنا مرافقنا من الموكب الرسمي الذي قادنا إلى أسرار مدينة موغل أن القصر الذي نزوره بعد ترميمه، لا يشكل إلا جزءا بسيطا من سحر المنطقة المزخرفة بالجبال الصخرية التي تفصل الجزائر عن المغرب، كان يحاصرها خط موريس ولاتزال بعض أسلاكه شاهدة على وحشية الاستعمار الفرنسي. كانت وجهتنا بهدف التعرّف على شكل قصر موغل، بعد أن صرفت وزارة الثقافة على ترميمه حوالي 700 مليون من صندوق 5 ملايير سنتيم التي خصصت لترميم 6 من أهم القصور التاريخية في بشار، منحت منها 900 مليون سنتيم لترميم قصر القنادسة. وقد تحوّلت القصور إلى مرتع للدواب والمواشي قبل عملية الترميم، خصوصا بعد أن ضربتها فيضانات 2008 التي أدت إلى تخريب أجزاء كبيرة من القصور في بشار. يستقبلنا باب السمر الذي يقودنا نحو الساحة العمومية لقصر موغل، حيث كان أهل القرية يديرون شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية، ويجمعون ''التويزة''. تلك العادة التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع والخامس هجري، لاتزال من العادات الهامة للمنطقة، ساهمت خلال 11 قرنا في توفير مهر الكثير من فتيات المنطقة. وقد بدا القصر، بعد عملية الترميم أكثر جمالا، كما أكد لنا أهل القرية الذين تحدثوا عن عزوف السيّاح، وضرورة تنظيم وزارة السياحة لرحلات جماعية للسيّاح لزيارة هذا المعلم التاريخي وتفعيل نشاطه. هرو.. معشوقة فحول شعراء المنطقة التقينا في رحلتنا أيضا بشيخ تجاوز سنه ال70 سنة، ولكنه يغني لنا بكل فخر ويتغزل بأيام الشباب. جالسناه لدقائق على راحة أرصفة بني عباس قرب الفندق الذي أقمنا فيه، كان يجلس أينما ارتأى له خاطره. بعد أن طلبنا منه أن يحدثنا عن ثقافة الموسيقى لمنطقة الساورة، ردّد لنا قائلا: سيري يا هرو ما عليك دية أنا ووجهي نسبلوا على الوجايب لم تكن تلك الكلمات مجرد شعر ملحون، بل هي حكاية الفتاة ''هرو''، معشوقة شيوخ المنطقة التي توارثها شباب المنطقة جيلا بعد جيل، والتي تنسج واحدة من أهم الحكايات لبني عباس. ويقول لنا البروفيسور محمد تحريشي، الدكتور بجامعة بشار وابن حضارة الساورة، إن الغناء والرقص في الساورة جزء مهم من التراث اللامادي للمنطقة، فالرقص كان ولايزال يجمع سكان المنطقة في عقود الزواج والمناسبات والأفراح بكل أشكالها، فالعائلات البشارية بمنطقة الساورة لاتزال متمسكة بالكثير من الرقصات والعادات الاحتفالية المتأصلة، كالألبسة التقليدية التي تظهر بها العروس على طلقات البارود، كما أن الرقص في حضارة بني عباس فسحة للغزل واختيار فتاة الأحلام أحيانا، في ظل غياب ثقافة الاختلاط لطبيعة المجتمع المحافظ، بينما كانت تتكفل لمسات الرقصة، من ''الحيدوس'' و''الهوبي''، بمنح فرصة للشباب الراغب في اختيار عروسه في المناسبات التي تحكي تاريخها كلمات أغاني الرقصات التي يطلق عليها أهل المنطقة ''المايا'' و''الأهاليل''. تاغيت.. الواحة البرتقالية كانت وجهتنا ما قبل الأخيرة منطقة تاغيت، وقصورها القديمة والواحدة الممتدة على ربوع الرمال ذات اللون البرتقالي، تقابلها جبال صخرية متراصة كأنها عمل هندسي من صنع البشر. بعد 7 أيام من الإقامة في حضن حضارة الساورة، لم يعد مشهد كرم الضيافة غريبا، وقد اعتدنا روعة وحفاوة الاستقبال في كل وجهة. أما في تاغيت، فقد رسمت الطبيعة صورة سحرية للمكان، كما تتميز تاغيت بكثير من القصور المصنفة وغير المصنفة، وقد استفاد القصر الكبير لتاغيت من عملية ترميم قبل زيارتنا له. القصور في تاغيت تشبه المجمّعات السكانية العتيقة بأزقتها الضيقة، وكلها لها تاريخ عريق منذ القرن الرابع والخامس هجري. وخلال زيارتنا لتاغيت، تعرّفنا أيضا على إبداعات شباب المنطقة، كما التقينا الرسام صالحي فوضيل، ابن المنطقة الذي قام بإعداد متحف تاغيت من الرمل، وجعله مدرسة للشباب في المنطقة. وتعرّفنا على الشاب بن جراد عبد المجيد، 22 سنة، الذي كان ينسج لوحات فنية بتقنية كركامي، تعلمها عن طريق الأنترنت بعد دردشة مع أحد الشباب من الفيتنام. اللوحات أبهرت وزيرة الثقافة التي وعدته بأن يكون له معرض في العاصمة، يقربه من الجمهور العريض. كما التقينا بإصرار الفتاة في تاغيت التي تواصل النشاط الجمعوي بقوة، وتحاول وضع بصمتها في المجتمع عبر جمعية صدى الفتاة. ضاعت الجوهرة من عقد السياحة التهميش يحاصر العديد من المعالم النادرة في منطقة الساورة، فالفنادق هجرها السيّاح، والجمعيات السياحية التي تنشط في المنطقة تحاول، عبثا، البحث عن مصدر رزق من السياحة التي ضربت بقوة في الفترة الأخيرة، كما يؤكد لنا العديد من المرشدين السياحيين: ''لم تعد هناك سياحة في المنطقة، وما زاد الطين بلة أحداث تيڤنتورين''. إلا أن حال متحف بني عباس يسجل حضورا متميزا بين المعالم المهمّشة في منطقة الساورة، العمال الثلاثة الذين يشرفون على المتحف آلمهم حاله، كما يقول لنا كبير العمال هناك: ''المتحف أصبح متحفا داخل متحف''. وقد تعرّضت جدرانه للانهيار، بينما لايزال الديوان المحلي للسياحة التابع للمديرية الولائية للسياحة مغلقا منذ 2011 ''المتحف الذي أسسه باحث روسي يدعى بن شيكو، واسترجعته الجزائر سنة 1974 مع تأميم المحروقات وأصبح تابعا لوزارة التعليم العالي، كان يضم عشرات الطيور والحيوانات النادرة، لم يعد إلا أطلالا، ومركزه للبحث العلمي لازال عاجزا عن نفض الغبار عن مقتنياته العلمية''.