تقدم «الخبر»، في صفحة تيارات مساهمة للدكتور محمد العربي ولد خليفة، رئيس المجلس الشعبي الوطني، تتعلّق بالتحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة في الجزائر والمنطقة الأفرو عربيّة. 1- مدخل شهد العالم، في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية القرن الواحد والعشرين، سلسلة من التحولات المتسارعة، شملت الهياكل والبنيات، وأثّرت بأشكال مختلفة في الأفراد والجماعات، وجعلت الحاضر يتحوّل إلى ماضٍ في لحظات، كما أصبح من العسير استحضار ما فات من الأحداث والأفكار والاختراعات، قبل بضع سنوات، أما استشراف المستقبل وما هو آت، فهو مغامرة وسباق بين الراهن والتوّقعات. ليس في النية الخوض في مدلول الهوية والجدل القديم والجديد حولها، وخاصة إذا أضيف إليها وصف الوطنيّة فقد توصّل عالم الاجتماع البريطاني ج.أوستن، في دراسته المنشورة سنة 1961، بعنوان «الحقيقة»، بعد مناقشة عدد كبير من المقاربات الفلسفية وفي علوم الإنسان والمجتمع، إلى أنه لا جدوى من تعريف الهوية، وأن المعطى الثقافي هو ثابتها المتغيّر، ولذلك فإنّ ما «هو هو» أو ما هو نفسه لا يعرف (to auto idem). ومن المفارقة أن يؤدي تزايد ظواهر العولمة والنمذجة الثقافية من الدول المركزية التي تقود الحداثة، منذ ما يزيد على قرنين، إلى نقيضها، أي إلى الانكماش أو البحث عن الأصل، أو التخوف من الآخر ورفض أسلوبه في الحياة، والاهتمام بحدود ما هو مقبول أو مرفوض حسب العادات والتقاليد، أو بسبب الوازع الديني أو التجنيد السياسي والإيديولوجي. نشير هنا إلى مسألة الحجاب في الجزائر لغرض التوضيح، وليس لأي حكم قيمي، فعندما أغرت سلطات الاحتلال الفرنسي مجموعة من النساء بنزع الحجاب، أو «الحايك» بكل أشكاله وألوانه، وحرقه تحت كاميرات الإعلام وتصفيف المستوطنين وقوات الشرطة والجيش، تمسّكت النساء، من كل الأعمار، بارتداء الحجاب أكثر من قبل، فقد أدركوا أن الأمر لا يتعلّق بتحرير المرأة من ضغط الدين والتقاليد، بل كان هدفه الحقيقي هو منع المجاهدات والفدائيات من إخفاء السلاح والرسائل والتموين الموجّه للثورة، وفي سنوات السبعينيات تعايشت من يلبسن الحجاب مع غيرهن ممن فضلن السفور ونزع الحجاب. وكان الكثير من الناس يرون، في شوارع العاصمة والمدن الكبيرة، التخلّي التدريجي عن «الحايك» لمن هن أقل من خمسين سنة من العمر، أما في عقد التسعينيات وما بعده فقد ساد لبس الحجاب، وهو ما كانت ترتديه أغلب الأمهات في البيت، ويرى البعض أنه نتيجة لموجة الإسلام السياسي، ويرى البعض الآخر أنه ردّ فعل ثقافي مجتمعي على التغريب الذي يسمّيه المفكر الإيراني المعارض الدكتور طاهري المرض الغربي (Occidentose) والنسوانية التحررية (Féminisme) التي ظهرت في غرب أوروبا والولايات المتحدة. كما يسود في بعض مناطق الجزائر التعلّق الشديد بإظهار التميّز وخصوصيات الهوية المحلية، إما باعتبارها مسلكية عادية، أي غير دفاعية أو صراعية، وإما باعتبارها آلية دفاعية ضد الذوبان في الآخر، وراءه تجنيد سياسي وإيديولوجيّة متشدّدة. وإذا كان الباحث الإستراتيجي الأمريكي صمويل هنتنغتون قد أكد، في دراسته، أن صدام الحضارات لا مناص منه، فإن الأديب اللبناني أمين معلوف قد حذّر من إنذارات حرب الهويات الشاملة داخل البلد الواحد وبين مختلف البلدان، ما سيؤدي إلى ضمور الثقافة الإنسانية و»القيطوية» المفروضة أو الاختيارية، وهو ما يؤدّي إلى إضعاف الإنسان لأفضل ما عنده، وهو عقله وروحه ووجدانه (دراستنا المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية 2007)، ومن بين دلائل الخوف من الآخر أو كراهيته وإبعاده جدران العزل والفصل بين الأمم والجماعات والدول، والتلويح بالعقاب أو الانتقام لمن يتجاوز الخطوط الحمراء، وهي جملة يحدّد طرف واحد، وهو بالطبع الأقوى، العقوبات الناجمة عنها. إذا أمعنا النظر في كثير من الأفكار والمواقف، على المستويات الوطنية والدولية، لدى العديد من الساسة والباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية والمنابر المؤثّرة في الرأي العام، وخاصة وسائط الإعلام والاتصال، نجد أن الماضي القريب والبعيد حاضر فيها وفعّال. إنه ماضٍ لا يقتصر على السنوات والعشريات فحسب، بل يمتدّ أحيانا إلى عدة قرون، هل ننسى مثلا أن حضارات البحر الأبيض المتوسط قد شهدت حكمة وأساطيل الإغريق وملاحمهم العسكرية والشعرية، وساد فيه الرومان والبيزنطيون ثم بادوا، وأشرقت على جنوبه وجزء من شماله أنوار الإسلام، وعرف أيضا حروبا عالمية تُخفي اسمها مثل الحروب الصليبيّة ضدّ من سمّوٌهم فرسان الله، وأن الكولونيالية قد دمّرت منذ حوالي قرنين الكثير من ثقافاته، ونفائس تراثه، وعاثت في جنوبه شرّا وفسادا؟؟
2- من الحيرة إلى اليقين لطالما أرّقتني تساؤُلات أعيدها كل مرة، ولا أجد لها جوابا شافيا: أين نحن من أمسنا البعيد والقريب؟ هل في حاضرنا ما نرضى عنه وما هو؟ وهل فيه ما نغضب منه ونرفضه وما هو؟ كيف سيكون غدنا في الجزائر وفي المنطقة العربية والإسلامية؟ وكيف سيكون حال إفريقيا بعد ستة قرون من الغزو والاستعباد والتمزيق؟ هل ستحرر شعوبها من الخضوع لسيد الأمس واليوم؟ ما هي مؤشّرات الوعد؟ وما هي إنذارات الوعيد؟ هل بالإمكان أن تتسامح القلوب، ويبدأ حوار حقيقي بين الثقافات والحضارات بلا استعلاء ولا أحقاد؟ هل بالنظر إلى الظلم والأنانية. هل حقا هناك من يؤمن بوحدة الإنسانية في المنشأ والمعاد؟ هل تتجدد تلك الوحدة الكبرى التي فكّر فيها الإسكندر المقدوني، ثلاثة قرون قبل الميلاد، وكونفشيوس حكيم الصين، ودعا لها القرآن الكريم متوجها إلى كل البشر «إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»؟ نُقرّ بأن تلك التساؤلات تتجاوز جهد فرد واحد، في وقت تتراكم فيه المعارف والتقانات في بنوك المعطيات والمراكز الوطنية والدولية للدراسات الإستراتيجية، وتعمل فيه مراكز البحث المزوّدة بالمخابر الضخمة وتقانات المعلوماتية، والرصد على مدار الساعة بالأقمار التي ترصد كل ما هب ودبّ على سطح الأرض وجوفها وأجواز الفضاء، تعمل تلك المراكز على حساب كل الاحتمالات المُمْكنة وغير الممكنة، ووضع سيناريوهات قد لا تخطر على بال شخص يحصل بمشقة على شذرات أو متناثرات من خزّان المعرفة الهائل، يقيم في حي كان من أرياف العاصمة، وأصبح اليوم في قلبها. من بين تلك التساؤلات فإن أكثر ما يُؤرقني كمواطن عايش بعض الأحداث الجسام، وهو شاب في أوائل العشرين من العمر في مستهل الستينيات، هو واقع الجزائر ومستقبلها في الأمد المنظور، فقد كنا على يقين، حتى أوساط الثمانينيات، أن شعبنا وُلد من صلب ثورة كبرى أعطت للوطنية الجزائرية بعدها الإنساني، وصمدت أغلبيته الساحقة، بصبر وشجاعة، أمام حرب التدمير الشامل والسّلخ الثقافي الجهنمي، لأكثر من قرن، لن يكون أبدا عرضة للانكفاء والانفراط، ويُصبح في رأي البعض مجرّد مخبر للصراعات الدموية، ومن المفارقة أن يكون الإسلام، وهو الجامع الأول لكل الجزائريين والمرجع الأقوى لوحدتهم والوقود المحرّك لصمودهم ولنضالاتهم، أن تكون عقيدة التوحيد والوحدة من عوامل الفتنة وتهديد كيان الدولة والمجتمع. كان الكثير من شباب الستينيات ومطلع السبعينيات على وعي بمصاعب البناء الوطني، في بلد عانى من إبادة حوالي الثلث من سكانه، ومن سياسات الأبارتايد المُتخفي وراء اسم قانون الأنديجينا، وكان على وعي أكثر بأهمية الديمقراطية ودولة القانون والحريات، لتكون الجزائر وفيّة لأفضل الرجال والنساء في ثورتها وهم شهداؤها الأبطال، في بلد استأصلت فيه الكولونيالية كل معالم الدولة، مهما كان اسمها المشابه لبلدان أخرى في المنطقة (وهو الاعتداء الذي سيكشف عما جاء بعده)، وسجنت مجتمعه المدني في المخابئ، وتباهت لقرنين بالحرية والمساواة والأخوة بمسرحية اسمها، فيما يتعلّق بالجزائر، التزوير الأكبر من قِبل بلد يُسمى الراعي لحقوق الإنسان والمواطن! لكن، وهنا لا بد من لكن، كيف تُمارس الديمقراطية في بلد تعرّض لتخريب في العمق، استأصل الاستعمار كل مؤسساته؛ وأباد نخبه، وأذلّ شعبه المعروف برفض الظلم ومقاومة الإذلال. بلد خرج من حرب ضروس و%87 من الجزائريين الذكور من الأمّيين و97 % من نسائه من الأميات، وأربعة أخماسه في المسغبة؛ أو على عتبة الفقر؟ أين نرتّب الديمقراطية في القائمة الطويلة للأولويات؟ هل يمكن القول الآن إنّ الديمقراطية أولوية في حدّ ذاتها؛ يتوقّف إنجاز الأولويات الأخرى على تطبيقها، واختراع نموذجها الملائم لتجربتنا وواقعنا الثقافي والسياسي؟ الجواب إنّ الحاضر ليست فيه قطيعة بالجملة مع الماضي، ولا استمرارية ميكانيكية لكل تجاربه وممارساته، في غمرة تلك التساؤلات كنا على قناعة، مثل كثير غيرنا، أنّ تحرير الشعب والوطن يسبق الأولويات الأخرى، وهو المفتاح إلى الحقوق الأخرى الفردية والجماعية والمواطنية التي تشارك وتحاسب.
3- العالم الفاعل وعالم الخدمة التابعة في المنطقة العربية والإسلامية، شهدت العقود الثلاثة الأخيرة مزيدا من الانقسام والتشرذم، وانتقلت بلدانها من الرومانسيّة الحالمة بالوعْد، والواعدة بالحلم، إلى واقعية الانبطاح، ومنها إلى الخدمة التابعة لمراكز القرار الدولي، وشهدت قضية فلسطين السّليبة نهاية قرن مأساوية، وتوشك أن تكون أندلس العرب والمسلمين المفقودة مرّة أخرى بسبب العجز والتواطؤ. في شطري العالم العربي والإفريقي، وهما الجزء الأكثر إصابة بالأمراض المزمنة في العالم المعاصر، مثل التخلف والتبعية الطوعية والاستبداد، فإنّ الكثير من نخبه المثقفة والسياسية تنساق أكثر فأكثر نحو الانغماس في الطائفية والنزاعات العرقية والتفاخر بالخدمة التابعة لمراكز الهيمنة الأجنبية، ولم يبق، في أغلب بلدانه، سوى ذكريات عابرة عن مكاسب حركة التحرر الوطني ونضالاتها من أجل الحرية والتقدم، والعدالة الاجتماعية، وتكاد تمسحها هواجس الأمن والصراعات على المواقع وضعف التحكم فيما يخبّئه المستقبل من احتمالات قد تطرأ داخل أوطانها أو من خارجها. هناك من الوقائع والأدلة على أنّ الساحات الإفريقية والعربية تغرق أكثر فأكثر في الانفعالية وردود الفعل اللفظية والتمزق الداخلي، بل والاحتراق بنيران الطائفية والعرقية والعودة إلى مجادلات سقيفة بني مساعدة «منّا رجال ومنكم رجال»، بلا مشروع ولا قضية تستحق التجنيد والتضحية، سوى التباهي باستيراد منتجات حداثة الغير وهو يسعى لما بعد الحداثة. وبينما تتجمع في العالم المتقدم- أوروبا- أمريكا اللاتينية - جنوب شرق آسيا، كتل قارية تعمل على التقليل من عوائق التعاون وتسعى إلى التقليل من الحواجز أمام الاقتصاد والتجارة، والتنسيق فيما يتعلّق بالمصالح المشتركة، تتزايد في المنطقة العربية والإسلامية، والعديد من بلدان إفريقيا، مصاعب التعاون وبؤر الصراع التي غرستها الكولونيالية وأذكى نارها التخلف وضعف الحكم الرشيد، وتجد فيها القوى الغربية جسرا مفتوحا للتدخل وفرض إملاءاتها بسهولة، وسلب ثرواتها وتأبيد الوصاية عليها.
4- وجهان لعالم اليوم: الشر الأقصى والخير الأسمى وقد اعتبر أ.هوبزباون، وهو من أشهر فلاسفة التاريخ المعاصرين في بريطانيا، ويُعدُّ مع برتراند راسل وتوينبي من مؤسسي فلسفة الحضارة في العالم الحديث، اعتبر أن القرن العشرين هو أقصر القرون، ابتدأ، في رأيه، سنة 1914 وانتهى سنة 1991، وقد فصّل في كتابه الموسوعي «عصر النهايات القصوى» (The age of extremes,1994) ما تميّز به هذا القرن، وهو كثرة الحدود القصوى في الخير وفي الشر. - انتهى القرن بتتويج الديمقراطية وحقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية في كل أنحاء العالم، وأصبح أمثال فرانكو وسالازار وبينوشي وبول بوت معلّقين على جدار النبذ والعار، وتلاحقهم اللعنات حتى من أقرب أصدقائهم السابقين. هل كان أحد يتصوّر قبل عشرة أعوام، أن يعيش بينوشي، مدلل البيت الأبيض، بين آلام الاحتضار ومخاوف السجن والعار؟! هذه حمولة القرن الذي سمّاه المفكر البريطاني المذكور آنفا «موطننا الثاني»، لأن الأغلبية من النخب والساسة، ونسبة عالية من الجيل الراهن، عاشت على الأقل جزءا من نصفه الثاني، وتلك بعض امتداداته في مستهل هذا القرن.
5- التحوّل والتغيير: العملية ونقطة الارتكاز ننظر بعد الحصيلة الموجزة من الخير والشر لأقصر قرن عرفته الإنسانية في تاريخها المسجّل، ننظر في مسألة التحوّل الاجتماعي والتغيير السياسي التي يكثر الحديث عنها في بلادنا، وهي عند متابعة مجراها ومرساها من الخارج أشبه بعملية الأيض (métabolisme) التي تجري في جسم الكائن الحي في دورة الحياة من الميلاد إلى الهرم، أو في تعبير داروين، عالم الأحياء الشهير، تبدأ بالنشوء والارتقاء حسب قدرتها على التكييف، ثم الاندثار والفناء إذا عجزت عن ذلك. أولها الذات المثالية: التي تزرع الجماعة بذورها في الفرد وتصنع نفسها أيضا، ابتداء بالأسرة إلى العائلة الممتدة ومدى ما ينسب إليها من الشرف والمكانة، إلى المجتمع والأمة، وخاصة عندما تقارن نفسها بغيرها من الأمم وهنا تظهر أهمية تاريخها. ثانيها الذات الاجتماعية: وهي الصورة التي نرغب أن نكون عليها في نظر الآخرين أفرادا أو أمما، حيث نعيد النظر في صورتنا المثالية ونراها بعيون الآخرين في جوارنا القريب، وحسب ما يقوله عنّا العالم من حولنا. أما آخرها: فهي الذات الواقعية، وهي تقع في وضعية متحركة بين المستويين السابقين تقترب أو تبتعد عنهما، حسب الوضعية العلائقية للشخص أو الجماعة أو الأمة، وللتبسيط، أيضا، نذكر أن الفرد والجماعة في الجزائر يشعران بالظلم والتحقير والتهميش، بل والضآلة عندما يتذكّر كيف عاش عدد من آبائه طيلة ما يزيد على قرن تحت قهر الاحتلال الكولونيالي والأبارتايد المعروف باسم قانون الأندجين.. ولكنه يعود إلى إعلاء ذاته المثالية.. عندما يسترجع صمود الأغلبية من شعبه ومقاومته الطويلة وخاصة ملحمة الثورة. وقد تقوم وسائل الاتصال والإعلام بجانبيها، التقني الوسيط (Hard ware) والتقني (Soft ware)، بدور فعال في الدفع نحو التغيير أو إبطائه أو استبعاده، واستهداف المستويات الثلاثة السابقة للذات وعقد المقارنات مع الآخرين في بلدان أخرى. ويعرف المختصون في الفروع التطبيقية لعلم النفس الاجتماعي أن تصميم الاستقصاءات، أو الاستبيانات والاستفتاءات وقياسات الرأي العام، يمتزج، في كثير منها، الإيحاء والتمويه والاستدراج نحو الفرضية المرغوبة. يتبع..