شهد العالم، في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية القرن الواحد والعشرين، سلسلة من التحولات المتسارعة، شملت الهياكل والبنيات، وأثّرت بأشكال مختلفة في الأفراد والجماعات، وجعلت الحاضر يتحوّل إلى ماضٍ في لحظات. كما أصبح من العسير استحضار ما فات من الأحداث والأفكار والاختراعات، قبل بضع سنوات، أما استشراف المستقبل وما هو آت، فهو مغامرة وسباق بين الراهن والتوّقعات. يظهر تسارع وانتشار تلك التحوّلات على المستويات المحلية، داخل كل بلد، وعلى المستوى الجهوي والدولي، فقد أصبح العالم كلّه شبكة متداخلة ومترامية الأطراف من العلاقات السببيّة، من الصعب أن نعزل فيها العلّة عن المعلول، وأن نميّز بين السبب والنتيجة، فقد يؤدي اضطراب في بلد في أقصى الأرض إلى مضاعفات قارية، وقد يكون لفتوحات معرفية وتكنولوجية تأثيرات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية على كل سكان المعمورة. لقد أدى تسارع التحولات إلى ''كثافة'' متزايدة للحاضر، لم تكن معهودة قبل بضعة عقود، غير أن تلك الكثافة لا تَنْسخ ولا تمْسح الذاكرة الجماعية، والتجربة التاريخية للأمم والشعوب، إنّها إن صحّ التعبير تزاحمها في مساحتها التاريخية، والذهنية والسلوكية، بلا انتظار ولا استئذان، فهي لا تعترف بمقياس التقادم لتنضمّ إلى الأعراف والتقاليد، وتتبوّأ مكانها في المتصل الحضاري والثقافي للمجتمعات، الذي يُعرّفه عالم الاجتماعي بورديو(1930 - 2002) برأس المال الثقافي وما يسميه َُِّّّىقفب، أو فعالية المعطى الثقافي في الحاضر. إذا أمعنا النظر في كثير من الأفكار والمواقف، على المستويات الوطنية، والدولية، لدى العديد من الساسة والباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية والمنابر المؤثرة في الرأي العام، وخاصة وسائط الإعلام والاتصال، نجد أن الماضي القريب والبعيد حاضر فيها وفعّال. إنه ماضٍ لا يقتصر على السنوات والعشريات فحسب، بل يمتدّ أحيانا إلى عدة قرون، هل ننسى مثلا أن حضارات البحر الأبيض المتوسط قد شهدت حكمة وأساطيل الإغريق وملاحمهم العسكرية والشعرية، وساد فيه الرومان والبيزنطيون ثم بادوا، وأشرقت على جنوبه وجزء من شماله أنوار الإسلام، وعرف، أيضا، حروبا عالمية تُخفي اسمها مثل الحروب الصليبيّة ضدّ من سمّوهم فرسان الله، وأن الكولونيالية قد دمرت، منذ حوالي قرنين، الكثير من ثقافاته، ونفائس تراثه، وعاثت في جنوبه شرّا وفسادا؟؟ 2- من الحيرة إلى اليقين لطالما أرّقتني تساؤُلات أعيدها كل مرة، ولا أجد لها جوابا شافيا: أين نحن من أمسنا البعيد والقريب؟ هل في حاضرنا ما نرضى عنه وما هو ؟ وهل فيه ما نغضب منه ونرفضه وما هو؟ كيف سيكون غدنا في الجزائر وفي المنطقة العربية والإسلامية؟ وكيف سيكون حال إفريقيا بعد ستة قرون من الغزو والاستعباد والتمزيق؟ هل ستحرر شعوبها من الخضوع لسيد الأمس واليوم؟ ما هي مؤشرات الوعد؟ وما هي إنذارات الوعيد؟ هل بالإمكان أن تتسامح القلوب، ويبدأ حوار حقيقي بين الثقافات والحضارات بلا استعلاء ولا أحقاد؟ هل بالنظر إلى الظلم والأنانية؟ هل حقا هناك من يؤمن بوحدة الإنسانية في المنشأ والمعاد؟ هل تتجدد تلك الوحدة الكبرى التي فكّر فيها الإسكندر المقدوني ثلاثة قرون قبل الميلاد وكوفيشيوس حكيم الصين، ودعا لها القرآن الكريم متوجها إلى كل البشر ''إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم''؟ نُقرّ بأن تلك التساؤلات تتجاوز جهد فرد واحد، في وقت تتراكم المعارف والتقانات في بنوك المعطيات، والمراكز الوطنية والدولية للدراسات الإستراتيجية، وتعمل فيه مراكز البحث المزوّدة بالمخابر الضخمة وتقانات المعلوماتية والرصد على مدار الساعة بالأقمار، التي ترصد كل ما هب ودبّ على سطح الأرض وجوفها وأجواز الفضاء، تعمل تلك المراكز على حساب كل الاحتمالات المُمْكنة وغير الممكنة، ووضع سيناريوهات قد لا تخطر على بال شخص يحصل بمشقة على شذرات أو متناثرات من خزان المعرفة الهائل، يقيم في حي، كان من أرياف العاصمة، وأصبح اليوم في قلبها. من بين تلك التساؤلات، فإن أكثر ما يُؤرقني كمواطن عايش بعض الأحداث الجسام، وهو شاب في أوائل العشرين من العمر في مستهل الستينيات، هو واقع الجزائر ومستقبلها في الأمد المنظور، فقد كنا، على يقين، حتى أوساط الثمانينيات أن شعبنا ولد من صلب ثورة كبرى أعطت للوطنية الجزائرية بعدها الإنساني، وصمدت أغلبيته الساحقة بصبر وشجاعة أمام حرب التدمير الشامل والسّلخ الثقافي الجهنمي، لأكثر من قرن، لن يكون أبدا عرضة للانكفاء والانفراط، ويُصبح في رأي البعض مجرّد مخبر للصراعات الدموية. ومن المفارقة أن يكون الإسلام، وهو الجامع الأول لكل الجزائريين والمرجع الأقوى لوحدتهم والوقود المحرك لصمودهم ولنضالاتهم، أن تكون عقيدة التوحيد والوحدة من عوامل الفتنة وتهديد كيان الدولة والمجتمع. في البداية هل كانت الاستفاقة بطيئة؟ أم أنها لم تحدث أصلا؟ هل كان تصحيح ما تبيّن أنه خطأ في التشخيص ووصفة العلاج قد اقتصر فقط على الأعراض؟ في المسألة أقوال ولأصحابها أدّلة وأنصار. ولا ريب أنّ المعالجة البعيدة النظر التي بادر بها رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، كانت هي طريق الخلاص لفكّ الاشتباك المهلك لتعود الجزائر إلى مسار الدولة الصاعدة وليس الفاشلة، وللحضور الفاعل على المسرح الدولي، وقد تم تحليل بعض عوامل تلك المحنة ومضاعفاتها على الدولة والمجتمع في دراسة عن الأزمة المفروضة نشرت سنة 8991. كان الكثير من شباب الستينيات ومطلع السبعينيات على وعي بمصاعب البناء الوطني، في بلد عانى من إبادة حوالي الثلث من سكانه، ومن سياسات الأبارتايد المُتخفي وراء اسم قانون الأنديجينا، وكان على وعي أكثر بأهمية الديمقراطية ودولة القانون والحريات، لتكون الجزائر وفيّة لأفضل الرجال والنساء في ثورتها وهم شهداؤها الأبطال، في بلد استأصلت فيه الكولونيالية كل معالم الدولة، مهما كان اسمها المشابه لبلدان أخرى في المنطقة (وهو الاعتداء الذي سيكشف عما جاء بعده)، وسجنت مجتمعه المدني في المخابئ، وتباهت لقرنين بالحرية والمساواة والأخوة بمسرحية اسمها فيما يتعلق بالجزائر التزوير الأكبر من قِبل بلد يُسمى الراعي لحقوق الإنسان والمواطن! ولكن، وهنا لا بد من لكن، كيف تُمارس الديمقراطية في بلد تعرّض لتخريب في العمق، استأصل الاستعمار كل مؤسساته؛ وأباد نخبه، وأذلّ شعبه المعروف برفض الظلم ومقاومة الإذلال. بلد خرج من حرب ضروس و87% من الجزائريين الذكور من الأميين و97 % من نسائه من الأميات، وأربعة أخماسه في المسغبة؛ أو على عتبة الفقر؟ أين نرتّب الديمقراطية في القائمة الطويلة للأولويات؟ هل يمكن القول، الآن، إنّ الديمقراطية أولوية في حدّ ذاتها؛ يتوقّف إنجاز الأولويات الأخرى على تطبيقها، واختراع نموذجها الملائم لتجربتنا وواقعنا الثقافي والسياسي؟ الجواب إنّ الحاضر ليست فيه قطيعة بالجملة مع الماضي، ولا استمرارية ميكانيكية لكل تجاربه وممارساته، في غمرة تلك التساؤلات كنا على قناعة، مثل كثير غيرنا، أنّ تحرير الشعب والوطن يسبق الأولويات الأخرى، وهو المفتاح إلى الحقوق الأخرى الفردية والجماعية والمواطنية التي تشارك وتحاسب. 3- العالم الفاعل وعالم الخدمة التابعة في المنطقة العربية والإسلامية، شهدت العقود الثلاثة الأخيرة مزيدا من الانقسام والتشرذم، وانتقلت بلدانها من الرومانسيّة الحالمة بالوعْد، والواعدة بالحلم، إلى واقعية الانبطاح، ومنها إلى الخدمة التابعة لمراكز القرار الدولي.وشهدت قضية فلسطين السّليبة نهاية قرن مأساوية، وتوشك أن تكون أندلس العرب والمسلمين المفقودة مرّة أخرى، بسبب العجز والتواطؤ. في شطري العالم العربي والإفريقي، وهما الجزء الأكثر إصابة بالأمراض المزمنة في العالم المعاصر، مثل التخلف والتبعية الطوعية والاستبداد، فإنّ الكثير من نخبه المثقفة والسياسية تنساق أكثر فأكثر نحو الانغماس في الطائفية والنزاعات العرقية والتفاخر بالخدمة التابعة لمراكز الهيمنة الأجنبية، ولم يبق، في أغلب بلدانه، سوى ذكريات عابرة عن مكاسب حركة التحرر الوطني ونضالاتها من أجل الحرية والتقدم، والعدالة الاجتماعية وتكاد تمسحها هواجس الأمن والصراعات على المواقع، وضعف التحكم فيما يخبئه المستقبل من احتمالات قد تطرأ داخل أوطانها أو من خارجها. تناسى العديد من الساسة والنخب المحيطة بهم، ومعهم نجوم صنعهم إعلام الأورو والدولار، ومعهم بعض شيوخ الفتنة المتخصّصين في فتاوى التضليل باسم الدين، وحسب الطلب، فضلا عن منظمات بينية فقدت وظيفتها منذ أمد بعيد، تناسوا جميعا أن بدايات العدوان على المنطقة كانت باسم المسيح، ثم باسم التمدين ونشر التحضر، وهي، الآن، تحت رداء الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكأن الديمقراطية يمكن أن تستورد مثل الثياب الجاهزة وأدوات الزينة والإلكترونيات، وتقدم هدية مجانية من بلد لآخر، وينبغي أن ننتظر قبل نهاية العقد الحالي هل سيزهر الربيع؟ أم سيكون حلقة في مسلسل الأوهام ويحمل بصمات صنع في (َى ملفح).. هناك من الوقائع والأدلة على أنّ الساحات الإفريقية والعربية تغرق أكثر فأكثر في الانفعالية وردود الفعل اللفظية والتمزق الداخلي، بل والاحتراق بنيران الطائفية والعرقية والعودة إلى مجادلات سقيفة بني مساعدة ''منّا رجال ومنكم رجال'' بلا مشروع ولا قضية تستحق التجنيد والتضحية، سوى التباهي باستيراد منتجات حداثة الغير، وهو يسعى لما بعد الحداثة، ويخدعه ما يسميه ادوارد سعيد وهم الحداثة، ويأتي خبراؤه، وحتى حماته منذ وفاة الرجل المريض (الخلافة العثمانية) وخبراؤهم لبناء جسر أو تشييد فندق، وتعقبهم جيوش لفضّ النزاعات القبلية والتفتيش على مضاعفات الانقلابات التي يقوم بها عسكريون في رتبة صف ضابط لم يحصل على مرتبه الشهري من الخزينة المفلسة، بسبب فساد التدبير بسبب الجهل والغباء، وسوء التسيير بسبب الأنظمة الشمولية وسلطة المال المنهوب وغياب سلطة القضاء الركن الأول للحكم الراشد. وبينما تتجمع في العالم المتقدم- أوروبا- أمريكا اللاتينية - جنوب شرق آسيا، كتل قارية تعمل على التقليل من عوائق التعاون، وتسعى إلى التقليل من الحواجز أمام الاقتصاد والتجارة والتنسيق فيما يتعلق بالمصالح المشتركة، تتزايد في المنطقة العربية والإسلامية، والعديد من بلدان إفريقيا مصاعب التعاون وبؤر الصراع التي غرستها الكولونيالية، وأذكى نارها التخلف وضعف الحكم الرشيد، وتجد فيها القوى الغربية جسرا مفتوحا للتدخل وفرض إملاءاتها بسهولة وسلب ثرواتها وتأبيد الوصاية عليها. يبدو عالم الرخاء وراء المتوسط والمحيط وعلى الواجهة الإشهارية أكثر رحمة، وأوسع صدرا وضيافة، على الرغم من أزماته وتزايد سطوة اليمين المتطرف، ولكن من هو اليمين غير المتطرف؟ وماذا بقي من اليسار بعد وفاة السوفيات بعد شيخوخة مبكرة ومن دون تأبين! وتزداد شرائح كبيرة (باستثناء بلدان السداسي الخليجي بسبب صادراتها الضخمة من المحروقات، مقارنة بعدد السكان) فقرا ويأسا وتهميشا، وتظهر للساسة، وأجهزة الأمن المختصّة أشبه ببراكين على وشك أن تقذف باللهب في كل اتجاه، وتأتي على القليل من الأخضر، انطلاقا من أحزمة البؤس التي تُطوّق المدن، وكأنها ياجوج وماجوج، في انتظار أول شرارة لتقذف بكل ما في صدورها من يأس وغضب وتمرّد! في شمال العالم وضعت الحرب الباردة أوزارها، ولكن الاستعداد للحرب التكنولوجية، هو اليوم على أشده، وليس ذلك بغريب، فقد أحصى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة، في العقد الأول من هذا القرن، أن من بين 2860 أسبوع مرّت منذ تأسيس الهيئة الأممية في شبه جزيرة مانهاتن، لا توجد سوى ثلاثة أسابيع لم يحدث فيها نزاع مسلّح، وأن 99% من الحروب دارت على رقعة العالم الثالث بقاراته الثلاث الإفريقية والأسيويّة والأمريكية اللاتينيّة، وأن من بين تلك النزاعات ما تجاوز ثلث قرن من القتل والتدمير المتبادل بين الجياع وضحايا الأوبئة، في إفريقيا بوجه خاص. يتبع.. د. محمد أبوطارق (باحث جامعي)