انتقلت الجريمة في المجتمع الجزائري من الشارع إلى الأسرة، حيث لم تعد لغة الحوار والاتصال وسيلة لحل مشاكل العائلة الواحدة، وإنما حل محلها استعمال القوة والعنف، لتكون مصيبة العائلة اثنتان، فتبكي فراق فرد دفنته وآخر زجّ به وراء القضبان. لتسليط الضوء على الظاهرة، استضافت “الخبر” ممثلين عن الدرك والشرطة لتشريح الأسباب والكشف عن آخر الأرقام. أجمع ضيوف ندوة حول “الجريمة في الوسط الأسري” على أن المجتمع الجزائري يعيش أزمة أخلاقية، حيث تزعزعت قيمنا في غياب الوازع الديني و"استقالة” الأسرة من دورها في التربية والتنشئة الاجتماعية، “فالعائلة الجزائرية اليوم تحصد ما زرعت على مدى سنوات”. قالت الأخصائية النفسانية بفرقة حماية الأحداث للدرك الوطني، بوكعولة زهرة، أن ظاهرة العنف في العائلة الجزائرية لم تولد من العدم، فتغيير المعايير الأخلاقية يؤثر على السلوك ويولّد العنف الذي ساهمت التحولات التي عرفها المجتمع في تناميه، وفي مقدمتها تفكك العائلة الكبيرة إلى نواة صغيرة لا تجمع إلا الزوجين والأبناء. وأضافت النفسانية أن الطفل اليوم لا يعرف الحدود التي لا يمكن تجاوزها، لكنه لو أدرك أنه هناك عقاب على الممنوع لتوقّف، ولما تطورت الأمور وخرجت عن السيطرة. وأردفت قائلة: “في الماضي كانت العائلة موسعة يتدخل فيها جميع الأفراد في تربية الأبناء بطريقة سليمة، لكن الأسرة اليوم تجزأت والأولياء استقالوا عن أداء مهمتهم الأساسية وهي التربية. وهو نفس ما ذهب إليه الملازم الأول في مديرية الشرطة القضائية، سعد الدين زناتي، الذي أبرز أن “تكوين بعض الأسر خاطئ في الأساس”. موضحا: “هناك أشخاص غير مؤهلين لتأسيس أسرة والتكفل بمسؤولية الأبناء، فعندما يكون الفرد عاطلا عن العمل أو منحرفا ويعاني من اختلال في الشخصية فماذا ننتظر من هذه الأسرة؟”. من جهته، قال الملازم الأول من مديرية الشرطة القضائية، طالب حكيم، أن الكثير من الجرائم في الوسط العائلي تحدث لدوافع تافهة، والسبب حسبه “الجهل، الانحطاط الأخلاقي، غياب الوازع الديني والكثير من العوامل المتداخلة”. وتوقفت ممثلة الدرك الوطني عند العوامل الخارجية التي ساهمت أيضا في تغيير قيم مجتمعنا “ فنحن أمام غزو ثقافي وفكري أثّر في تنشئة الجيل الجديد”. وعن الدور الذي يمكن أن تلعبه المدرسة في التنشئة، قالت المتحدثة إذا كانت القاعدة مهتزة، في إشارة منها إلى الأسرة، فلا يمكن أن ترسخ المدرسة قيما جديدة. من جانب آخر، أشارت النفسانية إلى أن العائلات الجزائرية تعيش تحت ضغط كبير. موضحة: “كل عائلة حالة في حد ذاتها، وإذا تغلغلنا فيها وجدنا أنها تعيش تحت ضغط كبير، وهذا سيولّد الانفجار في يوم ما”. والعنف داخل الأسرة يأخذ عدة أشكال، فهناك العنف الجسدي الذي يمارسه الأزواج ضد زوجاتهم، الآباء ضد أبنائهم وكذا الأشقاء، وقد يصل إلى القتل، غير أن الجرائم التي تأتي في الصدارة هي الضرب والجرح العمدي. واعترف ضيوف “الخبر” أن ضحايا العنف في المحيط الأسري أصبحوا يبلغون عن الجرائم المرتكبة ضدهم، غير أنهم سرعان ما يتراجعون. وحول هذه النقطة قال الملازم الأول زناتي: “عند وقوع الفعل يتنقل الضحية إلى المراكز الأمنية لإيداع شكوى، لكن الأغلبية لا يعودون بعد أن نطلب شهادة العجز، والأمهات في مقدمة هؤلاء، فأغلبيتهن يتراجعن ويسحبن الشكوى ضد الأبناء تجنبا للفضيحة ومراعاة للعادات والتقاليد”. وأكد منشطو ندوة “الخبر” أن الجرائم داخل الأسرة ترتفع في المناطق الريفية على عكس المناطق الحضرية، وذلك بسبب تفشي الأمية. واستدلت المختصة النفسانية بقضية وقعت تفاصيلها لعائلة بمنطقة جبلية في ولاية جيجل، أين كانت الجدة التي تعدت الثمانين من العمر، تتعرض للضرب المبرح من مختلف أفراد العائلة، والغريب في القضية أن أحد الجيران هو من أخطر مصالح الدرك التي فتحت تحقيقا.
الآباء الضحية الأولى الاعتداء على الأصول، أحد أكثر أشكال الجرائم المرتكبة في المحيط الأسري، وعند الحديث عنها يتبادر إلى الأذهان أن الأم هي الضحية الأولى للعنف الممارس من طرف فلذات الأكباد، لكن الواقع غير ذلك. وحول هذه الفكرة، قال الملازم الأول في مديرية الشرطة القضائية، سعد الدين زناتي، أن القضايا المعالجة في الميدان تبيّن أن الأب هو الأكثر تعرّضا للعنف والجرائم التي يرتكبها الأبناء.
أرقام مرعبة لكنها لا تعكس الواقع قدم منشطو الندوة أرقاما مرعبة عن الجرائم المرتكبة في المحيط العائلي، وتأتي في مقدمتها جرائم الضرب والجرح العمدي وسوء المعاملة، غير أنهم اعترفوا بأن الأرقام لا تعكس الواقع. وتكشف الأرقام أن العنف والجرائم المرتكبة ضد الوالدين في تزايد، ففي الثلاثي الأول من السنة الجارية أحصت مصالح الشرطة 4 جرائم قتل ضد الأصول. وسجلت المصالح الأمنية، الدرك والشرطة، في نفس الفترة 635 قضية ضرب وجرح عمدي ضد الوالدين. وحسب ممثلة الدرك الوطني تحتل ولاية سطيف المرتبة الأولى وطنيا في جرائم الاعتداء على الأصول. وتبيّن الإحصائيات أن النساء من أكثر ضحايا العنف العائلي، حيث كانت 2082 امرأة ضحية لاعتداءات الزوج، الأخ، الأب والأبناء. ويأتي الأزواج في مقدمة المتورطين في هذه الجرائم، إذ سجلت في الفترة 465 حالة اعتداء على الزوجات من طرف أزواجهن، و150 قضية تورط فيها الأبناء ضد أمهاتهم، و123 كان ورائها الأشقاء. واعترف المتحدثون أن هذه الأرقام لا تعكس الواقع بالضرورة: “لا تصل شكاوى نسبة كبيرة من ضحايا العنف الأسري إلى المصالح الأمنية، خاصة إذا لم تنته إلى إزهاق روح”.
أغلب من يمارسون العنف مختلون عقليا أو مدمنين اتفق ضيوف ندوة “الخبر”، على أن مختلف الجرائم التي ترتكب داخل الأسرة الجزائرية، أبطالها أشخاص مدمنون على المخدرات أو المهلوسات أو الكحول أو مختلين عقليا. وروت لنا بهذا الخصوص المختصة النفسانية بوكعولة زهرة، حالة شاب في ال 14 سنة، مدمن على المخدرات، كان يمارس العنف على أسرته خاصة الأب الفاقد لإحدى عينيه، هذا الأخير عندما حضر أمام مصالح الدرك تفاجأ بفلذة كبده يهدده ودون خجل أو خوف: “إذا لم تصمت سأفقأ عينك الأخرى”. وفي السياق نفسه، أزال الملازم الأول بمديرية الشرطة القضائية طالب حكيم الستار على قضايا راح ضحيتها في الغالب أحد الوالدين، وكان الفاعل فيها أبناء مختلين عقليا استعملوا أسلحة بيضاء في تنفيذ جرائمهم، وعوض أن يكونوا في مستشفى للأمراض العقلية للعلاج، احتضنتهم عائلاتهم، حسب محدثنا. القضية الأولى وقعت في شهر فيفري 2013، وراح ضحيتها الأب الذي قتلته ابنته المختلة عقليا. كما وقعت جريمتين أخرتين راحت ضحيتهما أم وأب ، وكان بطلها الابن المختل ذهنيا، وحمّل المتحدث مسؤولية هذا النوع من الجرائم إلى الأسرة التي لم تدرك خطورة احتضانها لأبنائها المختلين عقليا.
قتل الطفلة سندس.. جريمة عائلية عادت ممثلة قيادة الدرك الوطني بوكعولة زهرة الى جريمة قتل ارتكبت داخل إحدى الأسر الجزائرية هذا العام، ويتعلق الأمر بالطفلة سندس ڤسوم ذات الست سنوات التي لقيت حتفها على يد زوجة عمها في بيتهم العائلي الذي يجمع الأسرة الكبيرة والكائن بحوش قاسمي بالدرارية بالعاصمة. وحسب محدثتنا، فإن التحقيق أثبت أن الفاعلة ارتكبت الجريمة بسبب ما عانته أثناء مرحلة الطفولة، إذ قالت أنها كانت تعاني من معاملة شقيقها لها، الذي كان يحرمها من الخروج من البيت ويضربها، وهو ما ولّد في نفسيتها الرغبة في الانتقام. أما عن أسباب ارتكابها للجريمة التي راحت ضحيتها الطفلة سندس، فخلصت التحريات إلى أن الجانية أمّية، وكان لها بنت لا تعرف كيف تساعدها في مذاكرة دروسها، على عكس الطفلة سندس التي كانت تدرّسها والدتها، فوالدة الضحية متعلمة، الأمر الذي ولّد في نفسيتها نوعا من الحقد والغيرة وجعلها تفكر في الانتقام من ابنة شقيق زوجها، حيث نادت للطفلة في يوم الجريمة ومنحتها بعض اللعب لتكسب ثقتها، ثم قامت بخنقها وخبّأتها داخل خزانة غرفة نومها. وكانت الجانية تظن أنها ستنتهز أية فرصة للتخلص من الجثة خارج البيت، إلا أنه سرعان ما اكتشف أمرها، كما كشف التحقيق أن الفاعلة أيضا كانت وراء قتل شقيق الطفلة سندس الذي وجد جثة هامدة في فناء المنزل، وتم حفظ ملف القضية لعدم وجود أي دليل.