كثيراً ما تستيقظ بعض الأسئلة بمجرّد أن يسقط مسؤول في كلام سرعان ما يُحرّك المياه الراكدة التي تحاصر واقعنا الفكري. وأنا أحيل إلى ما ورد على لسان أحد المسؤولين في الحكومة الجزائرية على أنّ الأمم لا تتقدّم بقصائد الشعر. وقد قال ما قال، ونجم عن هذا الخطاب ردود أفعال كثيرة بين ساخر ومستهجن ومشجّب. لكن في اعتقادي أنّ ما قاله هذا المسؤول على هشاشته قد استطاع أن يوقظنا من سباتنا الفكري، على الأقل لننتبه إلى مكانة العلوم الإنسانية في المجتمع الجزائري، ومكانة الأدب بكلّ فنونه في حياة الجزائريين. لا ننكر أنّ التطوّرات الحاصلة في العالم اليوم هي من ثمار الانفجار العلمي الهائل الذي فتح العقل الغربي على ممكنات أخرى للوجود لم يكن لأحد من قبل أن يتخيّل بإمكانية تحقيقها، لكنّنا ومع ذلك نُخطئ لمّا نعتقد أنّ ما يُنتج التطوّر هي العلوم التجريبية: كعلوم الطبيعة والرياضيات والفيزياء والإلكترونيات.. إلخ، أمّا نصيب الشعر أو الأدب فهو نصيب المتخلّفين الذين تخلّفوا عن الركب الحضاري. أعتقد أنّ التطوّر لا يأتي من هذه العلوم الطبيعية ولا حتى من العلوم الإنسانية والآداب، إذ لابدّ أن نتأمّل المسألة من زاوية أخرى؛ فالتطوّر يأتي بالدرجة الأولى من وجود سياسة علمية وفكرية وثقافية في المجتمع، فقد نأخذ على سبيل المثال العلوم التجريبية ونعلّمها في بيئة لا تملك وعيا بالقيمة الاجتماعية والحضارية للمعرفة فلن تجدي نفعا، بل ستكون مجرد هيكل فارغ من الداخل، عاجزة عن الإنتاج؛ هنا، لابد أن نسائل واقعنا الجزائري: لماذا لم نستطع أن نبني مجتمعاً معرفياً يقوم على قيم الإبداع والمبادرة؟ أريد أن أتحدث عن الإنتاجية الفكرية التي هي أساس الإنتاجية الصناعية، فلما غلقنا المنافذ على حرية التفكير أدّى هذا إلى خلق دينامية صناعية ضعيفة جدا، تكاد لا تكفي لسد حاجات فئة قليلة من المجتمع، لذا كانت الموارد الطبيعية هي رأسمالها الحقيقي بدل الإنسان، وينسى الجميع أنه لولا ملكة الخيال والجنون الجامح للمبدعين لما استطاع الإنسان أن يخترع مركبة تقلّه بسرعة الصوت إلى أبعد نقطة في المجرة. لا نملك إذن أي تصوّر لمجتمع المعرفة، وما هو موجود من مؤسسات علمية من حيث الظاهر يعزّز أكثر فكرة أننا فعلا ننتمي إلى مجتمعات الاستهلاك، لأنّ حتى المخابر العلمية والجامعات تستهلك المال العام لكن دون أن تحوّله إلى استثمار حقيقي في الإنسان. ونعجب أنّنا لا نستطيع أن نجد حلاّ لأبسط مشاكلنا، كأن نخلق نظاما جامعيا أصيلا يراعي خصوصيات البنية الإثنية واللغوية والاقتصادية والأخلاقية للجزائريين بدل استيراد نظام "ل.م.د". يجب أن نتساءل، ونوجّه هذه الأسئلة للمسؤولين: ما هي إستراتيجيتهم في ترسيخ المعرفة في المجتمع الجزائري؟ ما مكانة العالِم و الأديب، والفنّان والفيلسوف والمعلّم والمثقف في مجتمعنا؟ لماذا تهجر كل هذه العقول إلى الخارج لأدنى فرصة تتاح لها؟ فإذا كانت العلوم الإنسانية على حدّ تعبير هذا المسؤول، وأعتقد أنّ الكثيرين في المجتمع يشاطرونه الموقف نفسه للأسف، لا تصنع الحداثة، فالمشكلة ليست في هذه العلوم، لكن في هؤلاء المسؤولين الذين عجزوا عن بناء مدرسة وجامعة عصريتين ترسّخان المبادئ العظمى للحداثة والمعرفة ولقيم الإنسان. هؤلاء، وللأسف الكبير لا يملكون تصوراً سليماً لدور المعرفة في المجتمع، وكأنّ البوارج البحرية التي تغدق علينا بخيرات العالم كافية لتنوب عن العقل والتفكير. لكي نتطوّر صناعيا واقتصاديا وعلميا لابد كخطوة أولى أن ننتبه إلى الإنسان، أن نفهمه قدر المستطاع، وهذا طبعا من مهام العلوم الإنسانية، ومن المهمات الأساسية للآداب؛ فالأدب ليس غراميات فقط كما قال ذات يوم الرئيس الراحل هواري بومدين، الأدب أكبر من كونه تعبيرا عن نزوات العشاق في محنهم العاطفية، ربما هذا ما سوّقناه من صورة للأدب في المجتمع، حتى صارت صورة الأديب مرادفة للمجنون الهائم في حب خرافي. لا، بل الأديب هو الوحيد الذي يملك أيضا القدرة على تحرير الإنسان من كل مخاوفه، الذي يمنحه القدرة على النظر العميق إلى الحياة، والخوض في التفاصيل الدقيقة للوجود التي لا ننتبه إليها. للأسف، أن السياسي عندنا يتحدّث عن المواطن الجزائري وهو لا يملك أدنى فكرة عن تركيبته الإنسانية، الجميع يتحدث وكأنهم يملكون معرفة كاملة وأكيدة عن الواقع والإنسان الجزائريين. يختزلونه فقط في كومة من الغرائز التي تبحث عن الإشباع، ولأنّ هؤلاء في منأى عن مراكمة هذه المعرفة، فما أشبه هذا المجتمع بكائن يسير على رأسه ويفكر بأطراف قدميه. [email protected]