فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: مجزرة بيت لاهيا إمعان في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ونتيجة للفيتو الأمريكي    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وهم الاستقلال والحرية مع الاستبداد والتبعية
نشر في أخبار اليوم يوم 27 - 07 - 2012


بقلم: الدكتور جيلالي بوبكر
ليس من العسر في كل عصر وفي كل مصر توصيف ظروف وعوامل نماء المجتمع ولوازم تطوّره وشروط ازدهاره على مستوى البحث العلمي والتقني باعتباره محرك عجلة النهوض واستمرار التغيير والتجديد في أيّ دولة متقدمة مثل دولة إسرائيل أو غيرها من الدول التي انطلقت منها النهضة الحديثة أو تلك التي التحقت بالركب الحضاري مؤخرا، وليس من الصعب كذلك وصف أحوال الانحطاط والتردّي على مستوى الفكر والعمل في أي بلد مأزوم ثقافيا واجتماعيا وحضاريا مثل بلدان المغرب العربي ومشرقه وسائر بلدان العالم الثالث في إفريقيا وآسيا وميزتها الأساسية التخلّف في الحياة عامة، بالرغم من توفرها على ثروة هائلة بشرية وطبيعية ولها امتداد عميق في التاريخ الثقافي والحضاري ولها من القيّم والمقومات التراثية ما يدفعها نحو السير في اتجاه المجد والتحضر.
لكنّ العسير والمتعذّر في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر وفي سائر العوالم المتخلّفة الأخرى هو إيجاد شروط التقدم العلمي وإنتاج لوازم التطور التقني والوصول بالمجتمع إلى التحرّر من سلطان التبعية السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية والأمنية للآخر، هذه التبعية بأشكالها المتعددة والعميقة والمتفاقمة باستمرار أنتجها فشل كل محاولات اليقظة النهوض بالأمة، وإخفاق كل مشاريع الإقلاع الحضاري، وهيّئتها محاولات الخلط المتكرر في الثقافة العربية والغربية الحديثة والمعاصرة فكريا وفلسفيا وسياسيا بين واقعين وعالمين مختلفين في الانتماء الثقافي والحضاري وفي القيّم والدلالات التي تقوم عليها الحياة على المستوى النفسي الشعوري وعلى المستوى الاجتماعي وعلى المستوى الروحي في علاقة الإنسان بالكون وبمدبّر الكون.
تباين طبيعي
إنّ التباين طبيعي قائم بين عوامل وظروف النهضة الأوربية الحديثة ومبادرات الإصلاح والنهوض العربي والإسلامي في العصر الحديث وإلى الآن، بين أمّة أروبية تاريخا وجغرافيا، أحدثت ثورة في وجه ماض مظلم في الكثير من جوانبه فلسفيا وعلميا، وفي وجه حاضر بائس تعس دينيا وخلقيا وسياسيا واجتماعيا، أمة تتطلع إلى مآل مُشرق مدنيا وحضاريا، فاستقر أمرها عند قيّم الحداثة والتحديث، عند تمجيد العقل والعلم والحرية والصناعة وأسر المقدس الخلقي والديني والتراثي في الحياة الشخصية وأحوالها من غير تدخله في الحياة السياسية والاقتصادية ومن دون اعتباره في الدولة المدنية العلمية العلمانية الحديثة، وبين أمّة أخرى لها تاريخها الخاص وقيّمها الخاصة، المقدس الأخلاقي والديني والتراثي روحها ومادتها محتواها وصورتها لما ينطوي عليه من عناصر قوّة وكمال في المنهج، أمّة أخذت من الأمم التي سبقتها وعاصرتها كما أعطت لأمم أخرى، والتراث لديها هو عصب الحياة في الماضي والحاضر والمستقبل، به تعيش وتحيا وتخطط للقادم، لأنّ فيه تجد جميع حاجاتها من دون العودة إلى غيرها، وهو الموقف الغالب على ثقافتها في مقابل مواقف أخرى شتى، أبرزها وأهمّها الموقف اللاّتراثي الحداثي وبجانبه الموقف التوفيقي داخل الثلاثية في تعاطي الأنا العربي الإسلامي الضعيف حضاريا مع الآخر الغربي المتحضّر.
ما زاد في تعميق الأزمة وتفاقمها الفكر القائم على العلاقة الثنائية التصارعية بين الأنا وذاته من جهة حيث صراع القديم مع الحديث في فكرنا العربي الإسلامي وبين الأنا والآخر من جهة ثانية، بين الاستعمار والاستقلال، بين الحرية والاستعباد، بين الجهل والعلم، بين الحضارة والتخلّف، بين الغنى والفقر، بين القوّة والضعف، بين الحرب والقمع والفساد من جهة وبين السلام والأمن وحقوق الإنسان والمدنية والتطور من جهة أخرى، بين العقلانية والعلمية والعلمانية والتنوير من ناحية وبين الفكر الخرافي والسحر والرأي والهوى والاختلاف المذهبي والطائفي إلى حدّ العداوة والاقتتال من ناحية ثانية، هذه العلاقة بين طرفين متناقضين لا يقوم أحدهما إلاّ على أنقاض الآخر عرفت تشكّلها في الوعي الثقافي للأنا والآخر معا تاريخيا وفكريا وسياسيا، فمن الحروب الصليبية، إلى الاستعمار الحديث وموقف العروبة والإسلام من ذلك منذ القديم إلى الآن، إلى استمرار بنية العلاقة الراهنة المأزومة وتركيبتها المختلة بين العرب والغرب، بين قويّ متسلط بكل أسباب الجبروت والطغيان، وبين منهار ضعيف متهيّب مقهور ومغلوب على أمره، مولع بتقليد الغالب رغبة ورهبة، خوفا وطمعا، ناهيك عن مساهمات وأفاعيل الثقافة الحداثية الغربية، وانتشارها من خلال الغزو الفكري والثقافي، وتأثيراتها السلبية الغالبة في فكرنا الحديث والمعاصر بالسلم والحرب معا، في إطار العولمة وبمقتضى النظام الدولي الجديد، خاصة ما أحدثه الاتجاه الذي يسعى إلى تحديث فكرنا العربي الإسلامي الراهن وتغريبه -من غير اعتبار لعناصر هويتنا وخصوصياتها التاريخية والثقافية- من تمزق وتشتت، أعاد شعوبنا إلى ما كانت عليه أوروبا في عصورها الوسطى السوداء المظلمة من جهل وتناحر واقتتال.
سيادة ضعيفة
إذا كانت شعوبنا العربية ثارت في وجه الاستعمار الحديث لنيل استقلالها واسترجاع سيادتها، وضربت للعالم أجمع في التاريخ أجمل وأروع الأمثلة بالملاحم والبطولات والأمجاد في العطاء الثوري والنضال التحرري وتجسيد معاني الحق والعدل والاستقامة في قمّتها وطلب الحرية في جميع أبعادها متحدّية أكبر قوّة طاغية آنذاك بعدّتها العلمية والتقنية وبعددها وبدعم الشرعية الدولية لها ظلما وعدوانا، هذا ما عرفته شعوب المغرب العربي وشعوب سائر البلاد العربية، ومنها الشعب الجزائري الذي رسم بثورته المجيدة المظفرة أكبر ملحمة في التاريخ الحديث ما تزال وتبقى إلى الأبد أنموذجا في الكفاح والمقاومة والنضال ضد الظلم والاستعمار والاستدمار، لكن السيادة بعد الثورات التحررية جاءت ضعيفة والاستقلال جاء منقوصا لانحراف مسار الثورة بسبب الثورة المضادة، فاسترجاع الحقول مع استمرار احتلال القلوب والعقول أسر الحقول بما وبمن فيها، وصار الاستعمار غير مباشر بعدما كان مباشرا، وأصبح الأمر أبلغ صعوبة وأشدّ خطرا مما كان عليه في السابق، إذ لا يمكن الحديث عن سيادة وعن استقلال وعن حرية وعن كرامة إلاّ في جانبها الصوري لا الكامل المكتمل غير ناقص ولا منقوص، فأرض فلسطين مغتصبة وأرض العراق محتلة وغيرها كثير، والثروات مسلوبة، ولعل أكبر تحدّ تحرير الأرض، أرض فلسطين، تحدّي تاريخي وعقائدي وإنساني. كما لا يمكن الجمع بين سيادة واستقلال دولة ما سياسيا واقتصاديا واقتصادها ريعي تعيش على تصدير الطاقة واستيراد الغذاء وكل مستلزمات الحياة، وليس لها الحقّ في اتخاذ قراراتها السياسية بحرّية وسيادة، حتى ثقافتها صارت مهزوزة ومغزُوة من قبل ثقافات الأمم المتقدمة الغازية في إطار العولمة ومن منطلق انقسام العالم إلى مركز وأطراف.
لا يمكن الحديث عن الحرية وعن حقوق الإنسان الاجتماعية والسياسية والمدنية وعن المجتمع المدني وعن الحضارة في ظلّ الأنظمة السياسية العائلية والأبوية المتوارثة العسكرية والأمنية التي تكمم الأفواه وتقيّد الحريات الفردية والاجتماعية، وتمارس أبشع صور الاستبداد السياسي والقمع الفكري والقهر الاجتماعي والإرهاب البوليسي، تتفنن في ممارسة الاستبداد والفساد، أنظمة متسلّطة على شعوبها تسلبها حقوقها وتنهب خيراتها ولا يسوءها التخلّف ولا يقلقها انحطاط حياة الفرد والمجتمع، دأبها وديدانها ليس هو إيجاد مشاريع تنهض بالفكر وبالاقتصاد وبالثقافة وبالعلوم وبالتكنولوجيا على سبيل الاقتداء بتوجّه الأنظمة في البلدان المتطورة -الأمثلة كثيرة- بل همّها هو البحث عن مصادر الثراء وجمع المال وهدره لفائدة المصالح الشخصية والاعتبارات الآنية الذاتية الضيقة على حساب المصلحة العامة، وعليه لا يجوز وصف مثل هذه الشعوب بالسيّدة والمستقلّة، بالرّغم من كونها تمتلك مقوّمات بناء الدولة بالمفهوم السياسي الحديث والمعاصر، مفهوم ينبني على الوطن حتى ولو كان مغتصبا جزئيا أو كليا، وعلى المواطن حتى ولو كان مسلوب الحرية والكرامة وسائر الحقوق الأخرى في الداخل ومن الخارج، وعلى سيادة وهمية استمدتها سلطة معيّنة تدعمها قوى خارجية لخدمة مصالحها على المدى القريب والبعيد معا، سلطة استبدادية مجرمة تقمع شعبها وتنهب خيراته، وتعمل لصالح مخططات أجنبية، لا تبدي إلاّ المعسول من الخطاب بنفاق سياسي مفضوح وبمكر مكشوف.
إنّ سيادة الدولة في المفهوم السياسي المعاصر للدولة ارتبطت بنوعين من السيادة والسلطة، نوع أركانه كاملة وشروطه غير منقوصة سياسية واقتصادية وعسكرية أمنية يتجسد في حق النقض في هيئة الأمم المتحدة، ويتجسد في قوّة الردع والتعزير التي تمارسها دول الناتو فرادى ومجموعات، كما يتجسد في التطور الاقتصادي ومن وراءه التطور العلمي والتكنولوجي، بحيث أصبحت أوروبا الغربية وسائر بلاد العالم سوقا للمنتجات اليابانية، حتى أنّ البلدان المتقدمة في مستوى الولايات المتحدة الأمريكية وفي فرنسا صارت مستعمرات يابانية تجاريا بالنظر إلى حجم التبادل التجاري الياباني وبالنظر إلى جودة السلع اليابانية وتفوّقها على غيرها من المنتجات الصناعية، أما النوع الثاني الذي تظهر به سيادة الكثير من دول العالم وبنسب متفاوتة أركانه منقوصة وشروطه ليست مكتملة، فالدولة متخلّفة في جميع جوانب الحياة، والسلطة غير مستقرة وتابعة لقوى أخرى تحركها حيث تشاء، والشعب مهزوز في استقلاله ومسلوب الحرية والكرامة، وليس من السيادة سوى الاسم والشعارات والرموز، علم وعملة وقسم وطني، سيادة صورية بحتة، تمثيلها في المحافل الأممية شكلي، معرّضة للمخاطر في الداخل ومن الخارج في أي وقت، لا حول ولا قوّة لها، هو حال دول العالم الثالث منقوصة السيادة، بحيث نجدها جميعا تعاني الاستبداد والتبعية، وكل دولة قائمة حاليا منقوصة السيادة هي في حرب أو خرجت من الحرب أو تستعد للدخول في حرب أخرى، وهي هشّة في كيانها معرّضة للتقسيم والتشتت والانهيار في أي وقت.
كرامة غائبة
إنّ الشعوب في مثل هذه الدول والأنظمة منقوصة السيادة لا سيادة ولا استقلال ولا كرامة لها، لأنّها تفتقر إلى أسباب الحياة الكريمة وتعاني مرارات العيش المهين، حيث الاستبداد والقمع والفساد في الداخل والاستعمار من الخارج، ولا يمكنها أن تتحرّر داخليا ومن الخارج إلاّ إذا تخلّصت من الاستعمار في صورتيه الداخلية والخارجية، وهذا لا يتم إلاّ إذا حدث التغيير في داخل كل نفس تعاني الاستبداد في الداخل ومكبّلة من الخارج. يقول تعالى:(إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم). سورة الرعد:الآية 11. إنّ عملية التغيير المطلوبة على المستوى النفسي وانتقالها إلى المستوى الاجتماعي، الانتقال من حراك انفعالي ذاتي فردي إلى حراك عام في الحياة الفكرية والثقافية عامة والسياسية والاجتماعية بطريقة سلمية وآمنة أو بطريقة عنيفة ودموية أو بالطريقتين معا، أمر لابد أن تتحقق شروطه تتكفّل بها الجهات الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، الملاحظ أنّ مثل هذه الشروط أوضاعها ليست متوفرة وظروفها غير مهيأة في أوساط شعوبنا العربية الراهنة -منذ عهد الموحدين- مهزومة الإرادة ومسلوبة الحرية والكرامة ولدى أنظمتها السياسية المخذولة التابعة لغيرها ولم تستمد شرعيتها من سلطة مواطنيها بل من جهات أخرى، فهي عبء وخطر دائم على شعوبها التي لا تنطلق في النهضة إلاّ بانفلات الذات من عقال الأسر النفسي الداخلي الانهزامي، ومن انكسار الإرادة في اتجاه انتصار الذات على نفسها ومن ثم انتصارها في المجتمع وانتصارها على المشكلات التي تعانيها وعلى سائر المخاطر التي تحدق بها من الخارج.
يظهر بوضوح أنّ الأنظمة الاستبدادية الفاشلة الجاثمة على شعوبنا العربية والقوى التي تدعمها في الداخل ومن الخارج ذات مسؤولية كبرى على الأوضاع الفاسدة التي آل إليها حال هذه الشعوب، فعالمنا العربي في مشرقه وفي مغربه يزخر بخيرات وثروات يُحسد عليها، فهو يتربع على موقع جيوسياسي هام وحسّاس جغرافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا يتوسط قارات العالم، وله طبيعة ساحرة وخلاّبة، يمتلك طاقة بشرية كبيرة وثروة طبيعية هائلة ومتنوعة، بقواه البشرية والطبيعية يقف عاجزا تماما عن النهوض من التخلّف والانحطاط، في وقت عرفت فيه شعوب أخرى النهضة والتقدم واستطاعت الجمع بين مورثها التاريخي الثقافي والحضاري والتطور العلمي والتكنولوجي التي عرفه عصرها، وهي شعوب تفتقر تماما إلى الإمكانات والطاقات البشرية والمادية التي يتمتع بها عالمنا العربي وتتمتع بها الشعوب الإسلامية عبر مختلف أصقاع المعمورة.
إنّ سرّ تقدم هذه الشعوب في مقابل تخلّف شعوبنا هو أنّها أخذت بالأسباب الحقيقية للتقدم لا الصورية والمزيّفة، وجمعت شروط النهوض انطلاقا من الفرد الذي هو نواة الجماعة وانطلاقا من الأسرة التي هي الخلية الأساسية في شبكة الحياة الاجتماعية، وانطلاقا من العمل كفكر ووعي ونظر وشعور، وكممارسة وتطبيق وتنفيذ وأداء وإنجاز، وكأخلاق وآداب، وكنتائج ومنجزات مادية ومعنوية، في أيّة فئة عاملة شغّيلة، وفي أي قطاع من قطاعات المجتمع، الفنون والعلوم والتكنولوجيا والسياسة والاقتصاد وسائر ميادين الحياة، وكان للتربية والتوجيه والتكوين الدور الرئيسي والقيادي في التمكين لليقظة الفكرية والمعرفية والنهضة العلمية والمنهجية والمادية والتقنية وجميع ما يلزم لبناء المركبة وما تحتاجه من طاقة للانطلاق والإقلاع، وبما أنّ العصر الراهن يتميّز بطابعه العلمي والتكنولوجي وبتوجّهه المادي وبميله القويّ نحو البحث عن شروط وأسباب الراحة المادية، من دون اعتبار للجانب الروحي والخُلقي في حياة الإنسان، أصبح محرك النهوض وشرط التطور وأساس تقدم الشعوب والأمم المعاصرة من غير مُنازع البحث العلمي والتقني، ولا يمكن لأيّة أمّة أن يستقر حالها في اتجاه التطور الحضاري بالمفهوم المعاصر وفي الواقع خارج دائرة البحوث والدراسات في مجال العلوم والتقنيات المختلفة، لأنّ العامل العلمي والتقني يمنح الأمة الاستقرار ويردّ لها سيادتها المنقوصة وكرامتها المهدورة، لاّنّ بين تطور البحوث العلمية والتكنولوجية وصناعة القرارات في الدولة علاقة سببية وحتمية.
غلبونا بالعلم
في وقت صار فيه معيار التقدّم والتخلّف يتحدد بحجم ميزانية البحث العلمي والتكنولوجي، وبعدد العلماء والباحثين الأكفاء العاملين، وبعدد مراكز البحوث والدراسات في الطبيعيات والتقنيات والإنسانيات والاجتماعيات، وبمستوى الأداء والمردود لدى الباحثين في مختلف العلوم النظرية والتطبيقية، وبمدى استثمار البحث العلمي في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من طرف السلطة الحاكمة، أصبحت أمم العالم تُعوّل على الجامعة وعلى مراكز البحوث والدراسات في مختلف التخصصات بدون استثناء، وإن كانت الكفّة تميل في اتجاه العلوم الدقيقة والعلوم التجريبية والتكنولوجية، ففي دولة إسرائيل الغاصبة لأرض فلسطين القامعة للشعب الفلسطيني، الممثلة للإجرام في أعلى صوره والمروق عن الشرعية الأخلاقية والدينية والسياسية والقانونية، يجد هذا كيان كل الدعم والسند من أمريكا ومن غيرها من الدول التي تتوفر على لوازم التقدم العلمي والتكنولوجي، فلم تُفوّت فرصة الاستفادة من البحث العلمي للتمكين لها كدولة تمارس الاحتلال والقمع والاستبداد والمروق عن الشرعية، دولة غير مرغوب فيها، استطاعت أن تمتلك العلوم والتكنولوجيا وتكسب ثقة حلفائها تربط مصالحها بمصالح حلفائها وتؤمّن كيانها لتصبح أقوى دولة في المنطقة، تتمتع بالاستقلال والسيادة والتنمية.
أصبحت إسرائيل بحق النموذج العصري الذي أدّى فيه البحث العلمي دوره الرئيسي في نقلها إلى مصف البلدان المتقدمة وهي دولة فتية وناشئة، صارت البحوث والدراسات وسائر أنشطة البحث العلمي والتكنولوجي في الجامعات والمعاهد والمراكز الإسرائيلية من أقوى وأكثر البحوث عددا ونوعا في العالم، لامتلاك إسرائيل لوازم التقدم العلمي والتكنولوجي، تمثّل ذلك في احترام العلم والعلماء وتقدير البحث، وتوفير العدد الكافي من فرق ومخابر البحث المتخصصة والمتكاملة، وتشجيع هيئات التدريس الجامعية على الانخراط في البحث العلمي وإعداد وإجراء التجارب العلمية والتقنية وتخصيص ميزانية معتبرة تفي بأغراض البحث العلمي والتقني ومن غير انتقاص لأغراض إدارية أو تنظيمية، فهي تحتل المرتبة الرابعة في العالم في أنشطة البحث العلمي وتنشر أكثر من أربعين بحثا علميا معترف به دوليا.
لقد اهتمت دولة إسرائيل بالبحث والباحث فكفلت لهما المال الكافي وهامش الحرية البيداغوجية والأكاديمية الكافي، وتخلّت كليا عن كل مظاهر الفساد الإداري والبيروقراطية في فضاء البحث العلمي في الجامعة وخارج الجامعة، وعملت على نقل أيّة مبادرة بحثية علمية وتكنولوجية من البلدان المتقدمة، وحرصت على تشبيب وتجديد الطاقات البشرية الباحثة حتى لا يبقى البحث بين أيدي عناصر قديمة قد تضر بالبحث أكثر مما تنفعه، وتبنّت فلسفة تقوم على البراغماتية وسياسة تعزز التكوين المتواصل والتدريب المستمر في مجال البحث، وتقاطع منطق الإقصاء والتهميش، وتمنع هجرة الأدمغة، وتشجع العلماء والباحثين المتفوقين على الهجرة إلى إسرائيل.
الجدير بالذكر أنّ البحث العلمي في إسرائيل مثلما هو في أيّ دولة متقدمة محترمة له نفوذه السياسي، ودوره في رسم فلسفة نظام الحكم وسياسة الدولة واستراتيجيات البناء الاجتماعي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعسكريا وأمنيا، فالسلطة تتخذ قراراتها على ضوء نتائج البحوث والدراسات العلمية، لأنّ الإيمان راسخ بأنّ البحوث العلمية توفّر الجهد والوقت في إصابة الهدف المنشود، الأمر الذي أدّى إلى تزايد كبير في أعداد مراكز البحوث والدراسات السياسية والإستراتيجية العامة والخاصة داخل إسرائيل والاشتغال مع مراكز أخرى خارج إسرائيل، وصار أمن دولة إسرائيل المحاطة بالأعداء من كل جهة بيد ما ينتجه البحث العلمي والتكنولوجي.
فساد..
أما أوطاننا فهي تعاني الفساد الإداري والبيروقراطية والجهل والأمية والتخلّف بشتى أشكاله في المدرسة وفي الجامعة وفي سائر المؤسسات التربوية والتعليمية المحسوبة على العلم وعلى البحث العلمي، فلا سياسة راشدة للتربية والتعليم والتعلم، ولا تكفّل حقيقي وكاف ماليا وبيداغوجيا، ولا يوجد تأطير يتمتع بالكفاءة العالية، ولا تحكّم في التخصصات العلمية والتكنولوجية، ولا استقلال في التأطير البيداغوجي والإداري، بحيث لا يمكن الاستغناء عن التعاون بل عن التبعية للغير، ولا وجود لمراكز بحث في العلوم والتكنولوجيا ولا مراكز بحوث ودراسات إستراتيجية سياسية وعسكرية، وإن وجدت فتُعدّ على أصابع اليد الواحدة، وليس لها سوى الاسم، مقطوعة الصلة بما يجري في العالم من مستجدات، وبما يجري في المجتمع، ولا نفوذ لها في سياسة البلد ولا سلطان لها في اتخاذ القرارات التي تهمّ الأمّة وواقعها ويومياتها، لأنّها وجدت صوريا ومن أجل خدمة أغراض خاصة لا غير.
ففي بلادنا لا فلسفة واضحة ولا إستراتيجية مدروسة ولا سياسة محكمة ولا منهج مضبوط للبحث العلمي والتقني، كل شيء فيه متروك للارتجال والعفوية والفوضى والرأي والرأي الآخر، فلا مكان للإبداع لأنّه لا محلّ للحرية عامة في الرأي والتعبير، ولا محلّ للحرية الأكاديمية والبيداغوجية، وأساس البحث العلمي باعتباره محرك النمو والازدهار والإبداع الناتج عن كشف وتفعيل واستثمار الطاقات والمواهب الفردية والجماعية في إطار الحرية وتكافؤ الفرص في التعليم والعمل والبحث العلمي والتكنولوجي، الكل منقسم على حاجاته فمنّا المولع بالسلطة والمولع بجمع المال والمولع بالنسوة والمولع بممالئة الآخر، والمولع بالنفاق الحزبي والسياسي، لكل شأنً يُغنيه عن الاهتمام بالشأن العام وبالمصالح العليا للمجتمع ويُغنيه عن الشعور بالمسؤولية تجاه الدين والوطن والأمة، كلً يعيش لنفسه لا يبالي بغيره إلاّ في حدود ذاتيته ومصالحه الفردية، وما يقال عن حال البحث العلمي يقال عن بقية جوانب الحياة عامة في مجتمعاتنا العربية وغيرها في العوالم المتخلّفة، فهل يجوز لنا الحديث عن الحرية وعن الاستقلال وعن السيادة وعن الكرامة في ظلّ الفساد والاستبداد والتبعية.
إنّ المجتمعات في البلاد العربية الراهنة لا تتبارى كغيرها في البلاد المتقدمة في البحث العلمي والتكنولوجي، ولا تنافس في العمل والإنتاج كمّا وكيفا، ولا تتسارع في اتجاه التفوّق في المدنية والتنظيم واحترام القانون والتألّق في سماء التحضّر والتطور، بل تجتهد في الإنفاق على الاحتفالات والمهرجانات ببذل المال وهدره عبثا وهي في أمس الحاجة وأشدّها إلى كل درهم أو دينار يُنفق في غير موضعه، وتغدق الأموال على المسابقات لتسمية النجوم في مجال الطرب والرقص والغناء الفاحش، ففقداننا لاستقلالنا ولحريتنا واحتقار العالم لنا لما نصنعه بعلمائنا وبالعلم وبالبحث العلمي وهو أصل كل مجد وسؤدد في الدنيا وسبيل الخلاص والسعادة في الآخرة.
وهذه وصية الشيخ عبد الرحمان شيبان يوصي بها وهو على فراش الموت: (رسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يعود الفضل في تأسيسها إلى العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله، في الجزائر والعالم، العمل على نشر أصول المجد في الدنيا والسعادة في الآخرة وهي الدين والعلم والعدل والشرف والوحدة، وهي تضمن الدين كله، والذي حين نحافظ عليه فقد حافظنا على كلّ شيء، فحافظوا على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تضمنوا هذه الغايات بحول اللّه تعالى).
أزمة أخلاقية وإيمانية
فالخزي والعار والخذلان والمذلّة والمسكنة وغيرها ممّا عرفته شعوبنا المحسوبة على العروبة والإسلام من تخلّف وانحطاط في الفكر والسلوك والعمل وفي الآداب والأخلاق مردّه إلى أزمة أخلاقية وإيمانية بامتياز، وليست أزمة طاقة بشرية أو ثروة طبيعية أو نقصا في العقل والعلم أو انعدام مؤسسات وماديات، بل المشكلة في بلادنا تكمن في احتقار الإنسان للإنسان وإهانته وقمعه إلى أقصى حدّ، واحتقار باني المجد والعلا، واحتقار بناة الحضارة أهل الفكر والعلم والدين، وصدق عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين قال: (إنْ استطعت فكن عالماً، فإنْ لم تستطع فكن مُتعلِّماً، فإنْ لم تستطع فأحبّهم، فإنْ لم تستطع فلا تبغضهم).
أما العالم العربي فلازال غارقا في الفردانية والأنانية واللّفظية والاستهلاكية المادية والفئوية والطائفية والعنصرية والشقاق والنزاعات الدموية والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والفساد والاستبداد والأنظمة الأمنية البوليسية وكل ما من شأنه أن يقتل شرطي التحضّر وهما الإبداع والحرية. فإلى متى نبقى نعيش أوهام الحرية والاستقلال والسيادة والكرامة والعزّة، ونتغنى بأمجاد وبطولات وتضحيات الماضي، ونذكر مآثر الآباء والأجداد، شعراء وأدباء وعلماء ومفكرين وفلاسفة وثوار وثورات ونهضات وحضارات، ونحن غرقى في محيط التخلّف من أخمص القدمين إلى فروة الرأس، نحيا الاستبداد والفساد في كافة جوانب حياتنا، ونعيش في تبعية عامة للغير الغالب فهو يغذّينا ويأوينا وهو ولي نعمتنا وملاذنا. وإلى متى نبقى نمارس الدعارة السياسية والثقافية ونتاجر بالنفاق والكذب والزور وتشويه الحقيقة ومحاولة حجب الشمس وإخفاء نورها بغربال مثقوب مع أنفسنا ومع غيرنا. وإلى متى نبقى نحيا على إرث الماضي، نبكي على الأطلال، نذكر ونمجّد مآثر الأولين. إلى متى نبقى أمة تستهلك ما لا تنتج، ولا تنتج سوى الفساد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.