إنّ معيار الكفاءة في عرف التّحكيم هو معيار علميّ وواقعيّ ومنطقيّ وليس شعارا يُتغنّى به أو مسحة للتّزيين تخدع النّاظرين. إنّ كرم توكّل على العربكرمان بامتياز؛ كرم من عربيّة وكرم من أنثى؛ وإنّه لحقّ أُخذ بالحقّ؛ وإنّه لتتويج للعرب عن جدارة وصعود مستحقّ إلى المنصّة للمرّة الخامسة وإن كان ضئيلا؛ شكرا جزيلا لك أيّتها المتوكّلة الكريمة بجيّدك وبجودك على وطنك بجائزتك؛ وشرف للصّحافة وشرف للعفّة ننتظر كلّ عام تتويجا يشرّف العقل العربيّ، وهو يقول بملء فيه للعالم: ”أنا أيضا أفكّر”؛ كما شرّفت جميلة آسيا قارّتها شرّفت أيضا السّمراوتان إفريقيا؛ ثلاثتهنّ وصلن مصافّ المجد الحضاريّ بنضالهنّ الهادئ؛ ويكفيهنّ فخرا أنّهنّ ضدّ الحرب والعنف والكراهية والتّمييز من أجل السّلم واللّطف والحبّ والمساواة. الأرض العربيّة في آسيا تتكلّم رأيا.. الأرض السّمراء في إفريقيا تنطق رأيا؛ الأرض اليمنيّة الخليجيّة واللّيبيريّة تتكلّم معا نوبل، إنّ جائزة نوبل للسّلام عام 2011 لا تزال تدوّي في أسماعنا؛ هي سمفونيّة أبدعها العرب وإفريقيا وعزفنها أنامل البارعة توكّل كرمان والباهرتان اللّيبيريّتان إلين جونسون سيرليف ومواطنتها ليما غبوي.. صنعت بنات حوّاء الرّأي باعتزاز؛ وصنعت السّلام بفخر بغية تعايش أبيض بين النّاس لا يكدّره اللّون الأحمر والأسود؛ ويرفرف حمام الزّاجل عاليا في سماء صافية ناقلا رسائل المحبّة والوئام والأمان بين البشر مدوّنة بحروف تزغرد ”لنا رأي أيضا”. بتفوّق ثلاث من الجنس اللّطيف بجائزة نوبل للسّلام مناصفة؛ قلن في صمت أنثويّ مسموع وباهر: ”السّلام تصنعه الأنثى أيضا أيّها الذّكر؛ السّلام لا يصنعه الأقوياء بالسّلاح بل يصنعه الضّعفاء بالسّلام؛ كفاية حروب؛ لأنّ السّلم أقوى من الحرب؛ وأبلغ لسانا منها؛ وأعدل للنّاس؛ وأشرف للأمم الّتي ترقى برجالها ونسائها معا”. إنّ تكريم أيّ جهد هو ثمرة من ثمرات النّجاح؛ ونهج للوصول إلى التّفوّق؛ وهو مفتتح مسار واعد نحو بناء حضاريّ منشود. نحن لا ننتظر من الشّعوب مدنيّة مادّيّة فحسب؛ بل ننتظر حضارة جميلة بجواهر مرصّعة على جبين الأمم كافّة تشرق يمينا وشمالا؛ وتؤتي أكلها حيث تشاء؛ تفخر بها الإنسانيّة جمعاء؛ لأنّنا نحسن الفرز بين المعرفة الّتي تنتج المدنيّة والمعرفة الّتي تنتج الحضارة؛ وفي كلّ خير ونفع وسعادة لكن بدرجات متفاوتة. إنّ الحضارة تقوى بالعلوم والمعارف والتّكنولوجيا لكنّها لا تستوي ولا تبقى إلّا بالقيم النّبيلة، ثمّ إنّ أيّ عقل بشريّ في هذا الكون الفسيح هو مشروع عالم مستقبلا إن أدرك المعرفة– كلّ المعرفة- وملك أدوات البحث العلميّ واجتهد أكثر في تخصّص واحد؛ وإنّ أيّ شبر من الأرض هو ساحة خصبة لإنجاب أيّ حضارة إنسانية راقية ولو بعد حين. وممّا لا شكّ فيه أنّ التّغيير الحضاريّ الّذي تتمنّاه الأمم يُبنى على منهجيّة علميّة؛ جليّة المبادئ؛ بيّنة المعالم؛ ناصعة الوسائل؛ واضحة الأهداف.. النّبيل يصبو دائما إلى إنارة دروب النّاس في هذه الحياة كي تضيء أنوار الحقّ والحرّيّة والعدل والمعرفة والأمان والجمال والحبّ كلّ المعمورة. نظلّ نرحّب كلّ آن بأيّ اكتشاف علميّ أو ابتكار أو اختراع أو تطوير مهما يكن صاحبه؛ ونؤكّد بيقين أنّ العلم والإيمان لا يختلفان؛ وأنّ دين اللّه يدعو إلى اقرأ؛ ويدعو إلى اكتب؛ ويدعو إلى اعرف؛ ويدعو إلى نافس.. اللّه علّم الإنسان ما لم يعلم؛ واللّه يعلم- كلّ العلم- أنّ المعرفة سبيل المدنيّة وسبيل الحضارة. حريّ بنا أن ندعو إلى تكريم العلماء والباحثين في المحافل العالميّة والإقليميّة والوطنيّة؛ وأن يُبرز دور ورثة الأنبياء عبر التّاريخ؛ وأن تُعزّز الأبحاث والدّراسات بما تحتاجه من دعم مادّيّ ومعنويّ؛ وأن يُنسب الفضل لأهل الفضل. إنّ كوكبة العلماء الّتي تقود البشريّة نحو المعرفة تستحقّ منّا كامل إكبار وإجلال تقديرا لجهود بذلوها من أجل تسهيل الحياة على النّاس في مناحٍ شتّى؛ وهو فضل ما بعده فضل؛ يجب ألّا يُمحى من الذّاكرة الفرديّة والجماعيّة في الأوطان كافّة.. في الجزائر مثلا؛ تبقى شعلة ابن باديس والإبراهيميّ وابن نبيّ ملتهبة في قلوب عشّاق الحرّيّة واللّسان والفكر، وكلّها أنوار وأيقونات معرفيّة ثابتة أنجبت صفّ علماء فذّ قادر على صناعة التّفوّق الحضاريّ في أيّ لحظة.. نِعم المعلّمون ونِعم التّلاميذ. إنّ نيل جائزة نوبل هديّة وخدمة جليلة يقدّمها أهل الإبداع للإنسانيّة؛ والحصول على جائزة نوبل هو اعتراف مميّز وفخر عزيز لمجد بارز يظلّ يحلم به الباحثون والمجتهدون والمبتكرون. زبدة القول؛ نجدّد الدّعوة إلى الأكاديميّة السّويديّة لتحكيم عالميّ نزيه وفق آليات وأدوات التّحكيم العلميّ لا السّياسيّ؛ وأن تبتعد عن شبهتي الانتماء والولاء من باب النّصح ليس إلّا؛ وأن تدحض بالأدلّة ما يُتداول من حين لآخر بشأن مكافآت دون إنجاز؛ وهي جوائز مجاملات دون جميل أو لدواعٍ سياسيّة بحتة؛ سؤال يطرح نفسه: أيّ سلام صنعه شيمون بيريز وإسحاق رابين وباراك وأوباما؟ وأيّ سلام صنعته كثير من المنظّمات الدّوليّة ال 15 الحاصلة على جائزة نوبل للسّلام حتّى الآن؟ آخر المتوّجين منظّمة حظر الأسلحة الكيميائيّة؛ بأيّ حقّ تنال جائزة نوبل للسّلام هذه السّنة؟! إنّها جائزة دون ملح! جائزة لا طعم فيها؛ جائزة بنكهة الحنظل لأنّها على أشلاء الأبرياء؛ جائزة فيها نصب وجرّ في الوقت نفسه! أولياء ضحايا الغوطة الشّرقيّة كانوا أولى بالجائزة من أيّ طرف في نظري لأنّ ضحايا الغوطة كشفوا الغطاء عن المجرم بامتياز؛ وكشفوا عن السّلاح باقتدار وهم سلميّون ضعاف لا قوّة لهم إلّا حبّ الوطن والحرّيّة والعزّة والكرامة؛ لذا وجب حصول ذويهم على الجائزة بجدارة. الفريد ألفريد لم يرد جوائز نوبل مغلّفة بالدّيناميت ولا بالدّم ولا بالدّموع؛ بل يريدها مغلّفة بمداد طاهر وبرأي جاهر، كأنّي أرى الصّفاء لونا وحيدا يتوشّح به المخترع دون بقيّة الألوان؛ وهي صحوة عالم بعد انقشاع ضباب تحتاجها الشّعوب في مراجعاتها يوميّا وليس سنويّا لمن أراد تفوّقا لا نجاحا فقط.. التّراجع لا يعني التّأخّر؛ والتّقييم هو بداية التّقويم. هل نبتلع المرارة مرّة أخرى ونضرب أخماسا في أسداس ونقول: حضرت الجائزة وغاب السّلام؛ أم نرجو سلاما حقيقيّا دون جوائز يعمّ ربوع الأرض بما رحبت؛ ونفرح بكوكب خالٍ من أيّ سلاح نوويّ أو كيميائيّ أو غيرهما يضرّ البشر والشّجر والحجر؟ إنّ النّزاعات بين الدّول والمجتمعات والطّوائف تزداد بين الفينة والأخرى؛ واتّسعت رقعة البؤر الحمراء والسّوداء بفعل الكيل بمكيالين من قِبل الهيئات الدّوليّة والاستبداد والفساد والظّلم والجهل والأمّيّة والفقر؛ انظروا إلى آلات الحروب والاضطرابات والفتن تحصد البشر حصدا؛ والحقوقيّون يرصدون ذاك رصدا؛ ونزهاء الإعلام يسردون ذلك سردا؛ لا ندري عن أيّ سلام يتكلّمون ولسان السّلام فصيح . هل تقهقر الحسّ الإنسانيّ لدرجة صمت منظّمات دوليّة على جرائم ترفضها الشّرائع السّماويّة والتّشريعات الدّوليّة وضمائر الإنسانيّة؛ كفاية إراقة دماء؛ وكفاية كذبا على ذقون البشر! والحقّ نقول؛ يجب أن يشمل نزع الأسلحة كلّ الأسلحة وكل الدّول وأيّ كيان في العالم دون استثناء؛ وألّا يُقايض البقاء في الحكم وتدمير الأوطان واغتيال إرادة الشّعوب بجائزة تفوح رائحتها سياسة المصالح على حساب سياسة السّلام! كي لا تفقد نوبل وميضها العلميّ وتحافظ على دورها لخدمة المعرفة ونشر السّلام مثل ما تتطلّع إليه البشريّة ننتظر تحسينا آنيا لأداء الأكاديميّة عبر ميثاق تحكيميّ نزيه؛ ونأمل أن يزول شكّ الكثيرين باليقين؛ ويصير سرابا فقط حتّى لا يتشبّث به فاشل أو مغرض؛ وندعو الباحثين وأصحاب الرّأي إلى تنافس شريف وإن لم يحصلوا على الجائزة. نقول لهؤلاء وأولئك وللجنة التّحكيم: لا عنصريّة في الجائزة؛ دعوا نوبل للنّبلاء حقّا. [email protected]