صديقي الكبير ألبير، رأيتني مدفوعا إلى مُخاطبتك مُباشرة بنوع من المُحاورة التي أريدُ أن أقول فيها كلاما كثيرًا بينما تلتزمُ فيها، أنت، بالصمت الذي طالما سحرك ورأيتَ فيه جوهرَ العالم. رأيتني مُلزما، أيضا، بمُعانقة وحدتك الصعبة العالية، ومُحاولة الاقتراب من صَحوك القاسي الذي تلفعتَ به في مفازة الوجود منذ أشرفت على تراجيديا الحياة قبل قرن من الزمان. لعلك تتذكرُ جيّدًا صديقي، وأنت تدلفُ العصرَ، كيف أنَّ الحياة لم تكن جاهزة لاحتضانك أو هدهدة أحلامك. لعلك تتذكرُ مسرحَ العالم الخائب الذي استقبلك بالصخب والعنف، وبيأس حضارة فاوستية أطلقت من قمقم تاريخها ماردَ العنف بشكل غير مسبُوق. لم يمنحك هذا المسرحُ الوحشيّ الدَّامي الوقتَ الكافي لتغتسلَ، من جديدٍ، بشلال الغبطة الكونية المُتفجر من عناق الشمس والبحر على شواطئ تيبازة. لم يمنحك العصرُ فرصة الدخول في هارمونيا صوفية مع الأشياء تُعيدُ ابتكارَ غنائية السَّعادة البسيطة المُرتبطة بالأرض والجسد، والمُتحرّرة من ميراث الآلهة المُنسحبة، كرها، من مسرح العالم وأقداره. أخاطبك، صديقي الكبير، بعد مُرور قرن على مجيئك لتفتحَ عينيك وعقلك على عصر قاتم حرَّر براثن الوحش التاريخيّ من قفازات حداثة ظلت تعتقلُ تطلعاتنا وأحلامنا بسرديَّاتها المُتآكلة. أخاطبك وأنا أدرك مقدارَ رباطة الجأش التي كان على جيلك أن يتحلى بها من أجل أن يُحرِّرَ المعنى والقيم النبيلة من مهاوي العدمية التي فغرت فاها. لقد كان عليكم أن تُعيدوا بعث أدوار ”الجميلة والوحش” في طبعة تذكّر بالتراجيديا القديمة. لقد كان عليكم أن تجابهوا وحشَ العالم بما يكتنزهُ القلبُ من بداهة النبل والشجاعة والظمأ إلى العدالة والحقيقة. وأنا، شخصيا، لا يهمني أن أعرفَ لمن كانت الغلبة. الغلبة لم تكن تستهويك أبدًا، على ما أظن، بقدر ما كان يتملكك الإصرارُ على المُجابهة. أليس كذلك؟ ولكن، على ما أرى، كان يعني لك الشيءَ الكثير أن يخلعَ عليك بروميثيوس بُردتَهُ التي تحملُ رائحة البطولة الإنسانية وهي تقاومُ وضعا أعمى لا يُطاق. أعرفُ صديقي، بالطبع، أنك كنتَ وريثا لحضارة حملت معولها منذ بداية العصور الحديثة في فعل تخريبٍ مُنظم لنظام المعنى الذي أرست دعائمَهُ التقاليدُ اللاهوتية. لقد كان على الحداثة الظافرة، آنذاك، أن تطردَ الآلهة من المشهد وأن تُحرِّرَ المعنى من السماء القديمة التي يبست أوصالها وأصبحت ”فارغة” كما تُعبِّر. لقد استعادَ بروميثيوس أمجادهُ عند أجدادك الذين قذفوا بالإنسان في أتون تجربة القتل المُحرِّر الذي جعل ساحاتِ العصر تمتلئ بجثث الآلهة. وكان لفاوست أن يُكمل التجربة بأن يزاوج بين رغبة المعرفة وإرادة القوة التي مثلت إكسيرًا للإنسان الغربيّ وهو يفقدُ العلوّ ويشهدُ، بأسى كبير، انهيار الغائيات الكلاسيكية. هكذا اكتمل العرضُ الذي بلغ لحظاتِه الأكثر تراجيدية- وأنت يُقذفُ بك في هذا العالم– مع اندلاع حربين عالميتين كشفتا عن سقوط العالم الغربيّ في وحل تاريخ فقد البريقَ ولم يعُد سردية تروي قصة انعتاق الإنسان من آلة الاستلاب العملاقة. ولا يسعُني هنا، صديقي، إلا أن أسجّل إعجابي الكبير بمواقفك وأنت ترفضُ عدمية العصر اليائسة وهي تطلقُ أكثرَ الرغبات تدميرًا وبربرية من عُقالها في ظل غياب مرجعيات مُتعالية تُحدّدُ الوجهة والهدف. لا يسعُني إلا أن أعجبَ بانتصارك للإنسان والعدالة أمام تاريخ أريدَ له أن يكون إلها للأزمنة الحديثة ومطهرًا يقودُ إلى جنة موعودة تحدثت عنها بعض الإيديولوجيات الأثيرة في عصرنا. صديقي الكبير الروائي ألبير كامي، لقد أنكرت على عصرك– وهو يفتكُ بالآلهة ويُطيحُ بالعلوّ– أن يُعيدَ تمثيل دور الآلهة. لقد دافعت عن براءة العالم والإنسان أمام ميراث ثقافة الخطيئة، ووقفتَ في وجه كل مُحاولات العقل الفلسفيّ الحديث الرَّامية إلى تنصيب التاريخ إلها جديدًا أو مطهرًا يُحمّلُ الإنسان مسؤولية الخضوع والانسحاق تحقيقا لإرادة عليا وانتظارًا لصباحاتٍ قيل إنها سوف تُغني. ولكن لم يكن من المُمكن أن تُغنّي، كما نعرفُ جميعا، تلك الصَّباحاتُ من وراء القضبان أو في مجاهيل الغولاغ الرَّهيبة. يُعجبني كثيرًا دفاعك عن الحياة أمام التاريخ، ودفاعك عن العالم أمام سرديات القوة. يُعجبني دفاعك عن شمس الحاضر- الطافحة بجنون الغبطة ونتوء الوعي بالحرية تحت السَّماء الفارغة- أمام وعُود الجلادين بخلاص كنتَ تدركُ، جيّدًا، أنه لن يكونَ إلا قناعا للآلهة الجديدة. ربما لم يكن عصرنا، فعلا، مُكتنزا بغبطة بروميثيوس ونُبله العالي الذي دشنَ عهدَ الإنسان ونهاية استبداد الآلهة. ربما خمدَ أوَارُ الرغبات الفاوستية قليلا بعد مُغامرات الإنسان الغربي منذ أيقظ الوحش النائم في غابة العصر. هذا ما دفع بك صديقي، على ما أعتقدُ، إلى أن ترى في سيزيف تجسيدًا لأسطورة العصر ورمزا لكينونة ورثت حطامَ الحضارة ووجه الحداثة القاتم. لقد حملتَ صورة سيزيف في وجه الذين اعتقدوا أنَّ بإمكانهم أن يُقنعونا بتقديم الحاضر قربانا على مذبح النبوات الزائفة. لم تكن، صديقي، مأخوذا بالنبوات على ما يبدو وأنت المسكونُ بالشمس وضوء اللحظة التي تُتيحُ لك فرصة العلو والخلق في الصحراء. لم تكن تنتظرُ المجيء. كان همّك أن تتعهَّدَ وردة الخلق والإبداع في قلب اللاجدوى الفادحة. لم يكن الإنسانُ عندك وعدًا بالتحقق وإنما كينونة حاضرة حاولتَ جاهدًا إنقاذها من صراط المُبشرين الذين بدأوا المسير إلى فراديسهم الوهمية بالدَّوس على الجماجم. ربما لم يفهمك الكثيرون وأنت تعدُو وسط الخراب مُحاولا إنقاذ وجه الإنسان، يُحاصرك جنونُ الدَّعوات إلى الخلاص من حاضر احتضنتَهُ رغم عذاباته ويباس عُوده. كان عليك أن توجّهَ حرابَ النقد لفلسفة التاريخ المُعاصرة وهي تقودُ موكبا مهيبا من أجل بناء صرح قيصر الجديد في مملكة العدمية التاريخية. لم تفعل الثورة التاريخية شيئا آخر غير إنتاج الدولة الشمولية وسفح دم الحاضر على مذبح اليوتوبيا الجديدة. رأيت في ندَّاهة التاريخ إغراء لم يقُد إلا إلى عالم الاستعباد والخضوع ولم يكشف إلا عن عالم الرعب الذي حبلت به عدمية العصر. كانت الفاشية والإيديولوجية الثورية الشمولية واقفتين على مسرح واحد وتُمارسان خيانة منظمة ومنطقية لروح التمرُد الأصيلة في ذات الإنسان. لم تستطع أن تقبلَ بسحق الإنسان مهما كانت المُبرِّرات. لم تقبل بالجريمة. كنت شاهدًا على الجريمة التي مهَّدت لها فلسفاتٌ نصَّبت نفسها وكيلة على السَّير الحسن لملحمة التاريخ الباذخة وهي تُدجن الإنسانَ وتصعدُ به إلى جُلجلة المحو انتظارًا لشروق لبسَ قناعَ غودو كما نعلم. لم يفتنك انتظارُ الأرض الموعودة وظللت تفضلُ التحديق في لحظتك، موقنا كسيزيف أنَّ الخلاصَ في احتضان اللامعقول واللاجدوى ومُمارسة فن السَّعادة الصَّعب. لقد كنتَ بهذا المعنى، صديقي ألبير، الوعيَ النقديّ لمرحلة صاخبة أرادت– من وراء شعارات الثورة والتقدم– الإجهاز على الحاضر المليء وإدانة الحياة باسم اليوتوبيا. كنتَ نصيرًا للتمرُد الذي ظل يقدحُ شررَ الحياة في رماد الأزمنة ويُؤكدُ طاقة الخلق ونفسَ الكرامة عند الإنسان. كنتَ صوتا يلهجُ بالعدالة والحرية تحت السَّماء الفارغة والتي سرعان ما امتلأت بآلهة فانية أرادت خنق كل تطلع إلى العدالة باسم الحتمية التاريخية وإنقاذ الإنسان من الاغتراب. هذا ما جعلك تعتبرُ الثورة التاريخية سقوطا مُدويا لطاقة التمرد في أحبولة الأمل الزائف، وارتماءً في أحضان إرادة القوة. هذا يعني إن كان التمرد كوجيتو يؤكدُ الوجود وجدارة الحياة بنفسها، فإن الثورة التاريخية مثلت كوجيتو آخر يرتكز على إثبات الوجود من خلال فعل القتل المنظم. لقد رأيت الجلاد يختبئ في رحم الثورة وينتظرُ لحظة تحولها إلى دولة وسلطة. رأيت في ثنايا الشمولية وعدًا بمحو التعدد والاختلاف، وشرَكا يتربَّصُ بطائر الحياة والحرية. رأيت الغولاغ في النظرية التي دعت إلى تحرير الإنسان. وهنا، صديقي، أتفقُ كثيرًا مع من رأى في مواقفك البصيرة نقدًا لم نتفطن إلى أهميته إلا مُؤخرًا بعد فقدان العقائديات المُتصلبة بريقَها أخلاقيا وسياسيا.إنَّ رجفة اللامعقول التي لفحتك- قبل أن تُبلورَها فلسفيا- ظلت حساسية العصر الأولى وهو يقفُ على خرائب المعنى المُتهدّم بفعل الحداثة وانحرافاتها. وقد كان لإرادة القوة أن تتحرَّرَ من عقالها لتُصبحَ ينبوعا للقيم يُعيدُ سيرة الآلهة في لبُوس جديد. هذا ما أنكرتهُ على أهل عصرك والنازيين منهم تحديدًا. لقد كنتَ إيجابيا ولم تُبرِّر العودة إلى الغاب. ظللت تتمسَّكُ بالمعنى الوحيد الأثير لديك وسط يباب الحياة المُعاصرة التي فقدت العلو والجدارة: المعنى المُتفجر من قلب الإنسان. كان عليك أن تُجابه اللامعقول بالخلق وأن تجعلَ القلبَ ينبوعا للقيم انطلاقا من حسِّك الأخلاقي العالي، وذلك الظمأ الحارق إلى العدالة والحرية. كنتَ المُبشِّرَ بعالم إنسانيّ الوجه لا يتواطأ مع عالم الشقاء واللاعدالة الأبدية. كنتَ زارعَ الورد الوحيدَ في الجليد اللانهائيّ. ذهبتَ إلى الأقاصي ولم تفتنكَ نداءاتُ الآلهة العديدة وهي تتوقُ إلى الانبعاث والانتقام من شراسة ذئب الأنتروبوس التاريخيّ. تمسَّكتَ بقنديل الحب الإنسانيّ في ظلمة العصر، وعانقتَ الأرضَ الكريمة الحُبلى دوما بأعياد الشمس والبحر والجسد السَّكران بخمرة اللحظة. انحزتَ إلى الجسد ولم تقع– وأنت طائر البرية الحر- في أحبولة النظرية. لقد سَحرني وعيُك الحاد البادي في بعض أعمالك الإبداعية التي تسردُ نضال الإنسان ضد اللامعقول وتدعو إلى ضرورة التضامن البشريّ في مُواجهة عالم رمى عنه عباءة الغائية العلوية. فضلتَ التحديقَ في شمس اللحظة وضوء الفجيعة السَّاطع حيثُ لا مُجيرَ من صمت العالم وعبثية الكينونة إلا إرادة الخلق وتأكيد جدارة الإنسان بنفسه. لم تشأ أن يمُدَّ الإنسانُ يده إلى تفاحة السقوط في الأمل التاريخي الذي علم الطغاة إهدارَ دم الحاضر وقيادة القطعان البشريّة إلى أفظع الدركات. أعرفُ أنك كنتَ تقفُ على يباب العصر موقنا بالإنسان ورافضا لسطوة التاريخ وقد أصبح سماءً أخرى ولاهوتا دنيويا. رفضتَ أحجيات الجلادين وتحمَّلتَ غربة الأنبياء العُزّل مُعانقا عطيَّة الحياة الفادحة. كنتَ وفيا للإنسان والأرض، لصيقا بالشمس والبحر من الشرفة التي أتاحتها لك بلادي الجزائر. لم يكن الحاضرُ عندك معبرًا إلى الأعلى، وفضَّلت وجيبَ الحياة في الإنسان الواقعي على النماذج المُقترَحة في نظريات ملأت العصرَ بالصَّخب والضجيج مُشيحة بوجهها عن الحاضر المليء. سيزيفُ حاضرٌ دوما. هكذا تكلّمت صديقي الكبير. لا شيءَ يستطيعُ محوَ إيقاع الرتابة الأبدية. الوعيُ ناتئ كالصخرة المُدبَّبة والصحراءُ لانهائية. ولكنَّ القلبَ جائعٌ دوما إلى ما يمنحُ الأشياءَ ضوءَ المعنى وغبطة وجودٍ يعي ثمالة الحرية في عالم صامت. هكذا تكلّمت. سيكونُ الخلقُ والتضامن البشريّ يُنبوعين لمُجابهة اللامعقول. هكذا تكلّمت.