بوريل: مذكرات الجنائية الدولية ملزمة ويجب أن تحترم    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    أدرار.. إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    السيد ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صبار اليقين
نشر في الجزائر الجديدة يوم 03 - 03 - 2013


" ما الذي، فينا، يَنشدُ الحقيقة؟ "
نيتشه
ما الذي يشلّ العالم العربي – الإسلامي إلى هذا الحد؟ ما هي الكوابح؟ لماذا كل هذا التحنّط خارج التاريخ وبعيدًا عن مغامرات الإنسان في أنسنة العالم وتغييره؟ ما هذا الزمن الثقافي / العقليّ الراكد؟ ما هذا السّحرُ الذي يمثله الماضي عندنا، ولماذا لا تنتفضُ الثقافة العربية – الإسلامية السّائدة إلا باعتبارها قوة تحيين وإعادة إنتاج للماضي بصورة استيهامية وغير نقدية؟ لماذا كل هذا الخوف من العقل والنقد والانفتاح على أسئلة المعنى خارج مرجعية الأسلاف الذين لم يكن بمقدورهم – موضوعيا – أن يفكروا لزمننا؟ لماذا لا نستطيعُ أن نثق بالإنسان وبقدراته متى توفرت الحرية بدل الركون الأبديّ إلى مرجعيات أصبحت تنتصبُ حاجزا أمام فاعلية الإنسان العربي؟ لماذا تحضرُ الآلهة ويغيبُ الإنسان في كل خطاباتنا وقراراتنا السياسية وغير السياسية؟ لماذا ينتعش اللاهوت ويعلو الصّدأ دوما وجه الناسوت؟ لماذا نؤثر الزواج بالأبدية كلما جابهنا التاريخُ بالتحديات والأسئلة الجديدة والمآزق الوجودية؟ لماذا ظللنا نفكر – منذ نحو قرنين – من أجل الخروج من تأخرنا الحضاري ومُجابهة رُعب التاريخ وقد هجر خدر المُطلق، ولكن كان تفكيرنا دوما كالكتابة على الماء؟
أتساءلُ، أحيانا، مُستغربا: هل كان طه حسين وجبران خليل جبران وسلامة موسى عربا؟
من الصعب الاعتقادُ بأن أزماتنا وشللنا التاريخيّ ترجعُ إلى السياسة وألاعيبها وحدها. أزماتنا متعددة الأوجه؛ وأميلُ، شخصيا، إلى اعتبارها ذات أساس ثقافي بالمعنى الواسع. حتى الاستبداد السياسيّ الذي أصبح علامة على حضورنا في العالم، والعنف الذي يميز مُجتمعاتنا وردود أفعالنا – هذه كلها ترجع إلى بنيات سوسيو- ثقافية راسخة لم تتزحزح قيد أنملة منذ قرون. وأعتقدُ أنها ترتبط بالمُجتمع الأبويّ وعلاقات الإخضاع التي تميّزه، مع ما يُرافق ذلك من قيم كالفحولة وإخضاع المرأة والبنية الهرمية للعلاقات الاجتماعية وانطماس الفرد أمام سلطة التقليد.
قد أختلف – ولو جزئيا – مع من يعتقدُ أنَّ الدين سببٌ رئيسٌ لشلل المُجتمع العربيّ. الدين مظهرٌ ثقافيّ مهيمنٌ بكل تأكيد في مجتمعاتنا، وهو ما زال يُعتبرُ مرجعا مُطلقا في بعض الأحيان – فكرًا وتشريعا وقيما. هذا صحيحٌ. إلا أنَّ الدّين لوحده لا يكفي لتفسير هيمنة الأبوية في مُجتمعاتنا وسيادة القهر والعنف الاجتماعي ضد المرأة وضد حرية الفرد وتطلعاته المشروعة إلى الحرية بالمعنى الكيانيّ الشامل. الدّينُ، برأيي، يمنحُ الشرعية للوضع القائم، ويُبرّرُ بنيات القمع السائدة من خلال تأويلاته التقليدية التي تستعيدها فئات ترى فيه ما يعصمُها من التفكك في زمن التحديث المتوحش الذي يغمرنا. لذا أعتقدُ أن الدين عندنا غطاءٌ إيديولوجي يخفي إرادة قهر ترتبط ببنيات سوسيولوجية بطريركية – بدويّة لم يتراجع تأثيرها في حياتنا إلى اليوم.
هل يفرضُ الرجل العربي المسلم اليوم الحجابَ على المرأة طاعة لأوامر الدين؟ هل يُخضعها ويدعو إلى التضييق على تطلعاتها المشروعة إلى تحقيق ذاتها استجابة لنداء الدين والشريعة المُبلورة منذ قرون فحسب؟ أم يكشفُ هذا الأمر عن مستور سوسيو- بسيكولوجي يتمثلُ – من خلال رغبة الهيمنة على المرأة - في الدفاع عن موقع الفحل الذي عرف تراجعا كبيرًا منذ مُحاولات بناء الدولة الوطنية العربية الحديثة؟ أليس في انتشار التدين التقليديّ / الشكليّ عندنا رغبة في الانتقام لقيم المُجتمع البدويّ والريفيّ القائم على هيمنة الفحل ومركزيته في كل مناحي الحياة؟
إنَّ العربي المسلم، اليوم، لا يدافعُ عن الدين عندما يقهر المرأة ويدعو إلى عدم المساواة بين الجنسين، وإنما يدافعُ عن موقعه الموروث وامتيازاته التقليدية المُهدَّدة بالزوال، وهذا في فعل نوستالجيا بائسة تحلمُ باستعادة فردوس الهيمنة الذكورية على الفضاء الاجتماعي.
هل يُمكنُ أن تترسّخ الحداثة في مُجتمعاتنا دون تحطيم رأسيْ تنين التخلف والقمع: أعني الفحولة وغيابَ الفرد؟ خارج هذا المدار وما يتعلقُ به من تحليل لبنيات المُجتمع الأبويّ وآلياته في إعادة إنتاج ذاته وتأبيد قيمه لا أرى أية جدوى من مُمارسة التفكير في عالمنا العربي.
لماذا لا يستطيعُ العربي المسلم أن ينتصرَ لحرية الإنسان الفرد وكرامته أو لحرية المرأة وضرورة انعتاقها من موروث مؤسسة الماضي؟ لماذا يُسيطر عليه، دوما، هاجسُ الخوف من الحرية بمفهومها الشامل؟ لأنها، رُبَّما، وعدٌ بزلزال سيأتي على أركان المعبد القديم. أو لأنها لن تكونَ إلا إيذانا بانهيار عالم لن يجد فيه الفحلُ موقعه وسلطته التقليدية. لا يفكر العربي – المسلم بالحرية إلا كما كان يفكر نيرون بشأن روما: ما يجبُ أن نطهّر العالمَ منه بالنار المُقدَّسة.
يبدو لي، أحيانا، أنَّ السّؤال عن فشل المدينة العربية والقيم المدينيّة بعامة، وتراجعها أمام انتقام البداوة قيمًا وسلوكا - يجبُ أن يحُلَّ محلَّ سؤالنا عن مأزق الثقافة العربية السّائدة مُؤسّسيا واجتماعيا، وعن بنيتها العامة باعتبارها نظاما معرفيا يعيشُ مأزقه الخاص أمام العالم الحديث.
تريدُ أن تعرفَ جوهرَ الثقافة وقيمتها يا صديقي؟ ابحث، إذا، عن تصوّرها للجنة كيف هو. هل تعرفُ ما هي جنة الحداثة مثلا؟ إنها – بمعزل عن كل تصور ميتافيزيقي أخروي – كامنة في هذا العالم من خلال تحققها التاريخيّ في صورة انعتاق للإنسان من ارتهانه في قوى الماضي. جنة الحداثة، إذا، هي الحرية: استقلال العقل – حرية الفرد – تحرير المعنى من مرجعية اللاهوت. ولكن هل تعرفُ ما هي جنة العربي المُسلم؟ إنها، تحديدًا، ما يلبي غريزة التملك والمتعة لا غير. الجنة عندهُ مكانٌ يسمحُ بالتملك والاستمتاع الأبديّ ولا مكان فيها للتفكير في الحرية والإبداع. الجنة عندنا هي حلمُ الفحل البدويّ حامل إرث الإقامة في الصحراء منذ قرون. الجنة عند العربي المُسلم ليست شفاءً من داء الزمنية وعتقا من محبس العالم فحسب، وإنما هي – بالأساس - حلمٌ بعهد يكونُ فيه الفردُ سلطانا يملك الجواريَ في الحريم. إنها حلمٌ يكشفُ عن مكبوت إيروسيّ جبار. كأنَّ الموت نفسهُ لا يُساوي بين الأحياء وإنما يُعيدُ إنتاج زمن اجتماعيّ سلطانيّ.
" لن أكونَ رجلا أبدًا، بل طفلا شاخ " يقولُ الكاتب الفرنسيّ العظيم، عاشقُ مدينتي بسكرة أندري جيد A. Gide في مُذكراته. أتخيّلُ أنَّ العربيّ المُسلم بإمكانه – خلافا لذلك - أن يقول: " سأجعلُ من فحولتي الدائمة انتصارًا على خطيئة الطفولة ".
" لا تولدُ الواحدة منا امرأة، وإنما تصبحُ كذلك ". صحيحٌ ما تقولين يا سيمون عن الجنس الذي هُيّئت له المكانة الثانية في المُجتمع. ولكنني أجد من الضروريّ أن أضيف أيضا: " لا يولدُ الواحدُ منا فحلا، وإنما يصبحُ كذلك ". إن المُجتمع الذي يستقبلُ الأنثى ويجعلُ منها امرأة تحملُ أعباءَ تاريخ القمع والإخضاع وقيم الدونية هو نفسه المُجتمع الذي يستقبلُ الذكر ويُنيط به سلطات موروثة تعيدُ إنتاج منظومة الوصاية الاجتماعية التقليدية. من هنا أعتقد أنَّ الأحرى بالنقد هو المُجتمع الأبويّ باعتباره مؤسّسة تنوءُ تحت أثقال الماضي، ولا تسمحُ بانبثاق الفرد الحر والمستقل والمُبدع.
" الإسلامُ هو الحل " شعارٌ رفعته وترفعه فئاتٌ كثيرة عندنا أصبح لها موقعها السياسيّ وخطابها وقاعدتها الجماهيرية العريضة. ما دلالة ذلك؟ هُو أنَّ الإسلام التقليديّ سيبقى الحصنَ الأخير للفحل البدويّ أمام عالم يُفلت يوميا من مُناخ البداوة وروح القبيلة والطائفة وهيمنة الذكورة. سيبقى هذا "الإسلام" مرجعية شاملة تسوّغ لجمَ حركية المُجتمع والعقل وصبوات الإنسان العميقة. ستبقى الشريعة التي بلورها فقهاء العصور الوسطى الضامنَ الوحيد لإدانة الأرض باسم السّماء واعتبار التاريخ جاهلية جديدة. هذا يعني أنَّ رافعي هذا الشعار يُضمرون عنفا كبيرا أمام صيرورات العالم ويجتهدون في الإبقاء على حلم القمع الأبوي والوصاية باعتبارها تطهيرًا للعالم من "التقدم".
على هؤلاء أن يُدركوا جيّدًا أن الإسلام ليس حلا سياسيا أو حيلة ماكرة لفئات جرفها تيار التاريخ وتجارب التحديث رغم نقائصها، وإنما هو دينٌ وتجربة روحية وثقافة وحضارة كان لها أن تقدّمَ الكثير في الماضي. على الإسلام أن يستعيدَ وجهه الروحيّ وأن يتخلص من إرث البداوة الذي أصبح سمة على حضوره الشاحب والأهوج في العالم. على الإسلام أن يخرج من كونه ظاهرة سوسيولوجية تكشفُ عن أزمة تحديث فاشل وردّ فعل المُجتمع التقليدي على تفككه الخاص. على الإسلام أن يُفكر، جديّا، في كيفية استعادته لدوره الإنساني والحضاري بدل أن يبقى عبئا أمنيا على العالم المُعاصر.
كيفَ لثقافة تنتصرُ للأب والأبوية وقيم الإخضاع أن تفرضَ نفسها باعتبارها حلا لمشكلة الإنسان ومُشكلة الحضارة؟ كأنَّ بإمكان القفص أن يُمارسَ، يومًا ما، سحرًا على الطيور المُهاجرة. هذا وهمٌ. ما زلتُ أعتقدُ، شخصيا، أنَّ الحداثة زمنٌ ثقافيّ وحضاريّ خصيصته الأولى قتلُ الأب بوصفه مُؤسّسة وسلطة ورمُوزا وثقافة مهيمنة بقوة القمع.
المُشكلة في الظاهرة الدينيّة عندنا أنها ليست من الدّين في شيء. إنها إفصاحٌ فج عن رغائب أخرى أعمق في أغوار الذات الفردية والجماعية، تتلفعُ بشرعية المُقدّس كي تعلنَ عن نفسها: رغبة الهيمنة – رغبة الوصاية – رغبة تأكيد الذات بمحو الآخر – رغبة إخضاع المرأة – رغبة البحث عن إكسير يُشفي من دوار سبَّبهُ تاريخ يُصنعُ عند الآخر – رغبة دفن الرَّأس في رمال المُطلق بعيدًا عن ألم التحديق في اللحظة الفاشلة. الظاهرة الدينيّة عندنا هي، برأيي، نشيدٌ آخر للبجعة التي يرتفعُ صوتها بنشيد بائس لحظة موتها. فهل هذا هو الدين في عمقه؟ أعتقدُ أنَّ الدين يبقى – رغم كل شيء – تجربة ميتافيزيقية وكيانيّة كبرى ترومُ احتضان المعنى النهائي للعالم والأشياء، وربط الوجود العابر الهشّ المُعتم بالعلوّ والضوء.
العلمنة، وحدها، تستطيعُ تخليصَ الحياة الدينيّة من مرض العصر: الأصوليّة الدينيّة. إنَّ في العلمنة احترامًا للحرية الفردية التي بدونها لا يمكنُ أن يكونَ الدين إلا ظاهرة تكشفُ عن رغبة السيطرة والإخضاع وإدانة المُختلف باسم المرجعيات المعصومة. العلمنة وحدها تستطيعُ تخليص "شهوة المُطلق" كما يُعبَّر من إرادة القوة والهيمنة، وجعلها تجربة كريمة في احتضان لانهائية المعنى والسّفر الدائم خارج كل محدوديّة فكرية.
الدّينُ، في عمقه، توقٌ مُستحيل إلى المُطلق، ومُحاولة عالية تمثل دائما ذلك الفشلَ المقدَّس في احتضان ما يفلتُ من التاريخ والزمنية. لذا، أجدُني مأخوذا بتجارب المُتصوفة الكبار الذين جسَّدوا هذا التوق إلى عناق هارمونيا الكون عبر مواجيد أسطورية. أجدُني مأخوذا بإيكاروس العربيّ المُسلم وهو يتوسَّلُ المسالك الوعرة العالية إلى الشمس ثم يسقط مُحترقَ الجناحين.
تكشفُ الظاهرة الدينيّة الأصولية - من خلال انتشارها السوسيولوجي الواسع – عن رغبة حارقة في البحث عن انتماء يُعيدُ للعالم دفئه الأوّل، وعن أشكال تقليدية من التضامن نجابهُ بها عالما عرف تفككا واقتلاعا ثقافيا ورمزيا جعل بوصلة المعنى والاتجاه تتحطم. هذا ما يجعلنا نرى في الإسلام، اليوم، ملاذا لفئات اجتماعية عريضة فشلت الدولة الوطنية العربية في نقلها إلى الحداثة بصورة متزنة كما يرى البروفيسور الراحل محمد أركون بحق. الأصولية الدينيّة، في معناها الأعمق، مُحاولة عنفيَّة يائسة في جعل العالم امتدادًا للذات التي لم تواكب زلزال التحديث في أبعاده المُختلفة.
هل أكونُ مُخطئا إن قلتُ إنَّ المرأة هي وعدُ الثورة والحرية الوحيدُ في عالمنا العربي – الإسلاميّ؟ إنها الرّهانُ الأكبرُ الصامتُ، إلى اليوم، كبُركان خامد ينتظرُ يقظته من جديد ولحظة إجهازه على يباس حياتنا ومُؤسّساتنا المُهترئة. المرأة، وحدها، تكتنز بعبق الثورة الآتية لأنها المُهمَّش بامتياز في مُجتمعاتنا التي تقومُ على مركزية الذكورة - كما لاحظ الرَّاحل هشام شرابي بحق.
لا يستطيعُ الفحلُ العربيّ المُسلم أن ينوبَ عن المرأة في فعل ثوريّ يعبّرُ عن تطلعاتها إلى الحرية والكرامة والمُساواة، لأنه لا يفكرُ إلا في الدفاع عن آخر حصون هيمنته على الفضاء الاجتماعي وعن سيادته على المرأة نفسها من خلال لجوئه إلى قوة المُقدّس الدينيّ في هذا المجال. سيبقى العنفُ الرمزي في شكله الشرعي - الدينيّ وسيلة الفحل العربي المُسلم في إضفاء الشرعية على أفعاله القمعيّة اليائسة من أجل وأد كل تطلع مشروع للمرأة العربية.
أنتظرُ، بشغف كبير، تأنيث العالم العربيّ وانبلاجَ فجر صيغ أخرى للحياة تنهي أزمنة نرجس العربي الذي فقد، بكل تأكيد، جماله وإعجابه بنفسه. أنتظرُ أن يجريَ ماءُ الأنثى في شجرة حياتنا اليابسة ماحيًا حضور الصحراء، ومُؤثثا وحدة الفارس المُتعب من مطاردة المُطلق خارج مدارات الحب وانخطافات الجنس وإشراقاته.
أهمّ ما يُميّز الهامش المقموع هو كونه معينا لا ينضبُ لطاقة التمرّد والهدم والتهديد الدّائم لقلعة الواقع القمعي. الهامشُ هيولى مُمكنات تبحثُ عن صورتها خارج نموذج المعقولية السّائدة في لحظة تاريخية معينة وضمن ثقافة مُحدّدة. الهامشُ جنونٌ مُبعدٌ من جنة المركز المُهيمن. من يمثلُ هذه الهامشية التي تنضحُ مُمكناتٍ واعدة في عالمنا العربيّ؟ المرأة أم الفحل؟ من الواضح أنَّ الفحل التقليدي ما زال يُمثل المركز المُهيمن وسطوة نظام القمع والتدجين. إنه نموذجٌ في إرادة المحافظة على معقولية الواقع الذي يضمنُ له سيادة مادية ورمزية على المرأة. إنه العقل لا الجنون. إنه أداة التسويغ لا الثورة. إنه الاستئنافُ لا البدء. بينما المرأة ما زالت تمثل جنونَ التطلع إلى ما يبدو مُستحيلا، ورغبة في الحرية باعتبارها بداية لفعل تخريبيّ مُغتبط وطفوليّ. الفحلُ شيخوخة العالم والمرأة وعدٌ دائمٌ بشبابه. هُو الحكمة وهي الرغبة. أفهمك الآن جيّدًا، صديقي الكبير أدونيس، وأنت تؤكد: " الحكمة شيخوخة الرّغبة ".
تكمنُ خصيصة الثقافة الأبوية، تحديدًا، في التأسيس لمشروعية الإخضاع باعتباره نظاما يعصمُ العالمَ من الانهيار والفوضى والسّديمية. وتكمنُ فعالية نظام عمل هذه الثقافة في جعل الفرد يُطالبُ بعبوديته بوصفها حقا، وفي جعل المرأة تدافعُ عن دونيتها الاجتماعية وتقبلُ بها باعتبارها وضعا طبيعيّا. وفي هذا ما يُشيرُ إلى أنَّ الثقافة، كل ثقافة، تجتهدُ في الاستئثار بمفهوم للطبيعة يُبرّرُ مُجمل أشكال النبذ والاستبعاد والتهميش التي تمارسها.
لا أقبلُ بأيّ مفهوم للطبيعة إلا ذلك الذي يحصُرها في الرغبة.
سيخلو العالمُ، حتما، من إرادة الثورة إن خلا من الرغبة. الرغبة مفهومة على أنها فيضٌ من الذات على العالم، وحنينٌ عميقٌ إلى أنسنة الوجود وعناق المُطلق عبر الآخر. الرغبة فقرٌ إلى وحدة تتحقق فيها ماهية عليا تتجاوز التناقضات والطلاق مع العالم. الرغبة جسرٌ إلى، وليست منتهى. هذا ما يجعلُ من الثورة، مثلا، رغبة في تجاوز عالم غير إنسانيّ الوجه جسديا وفكريا، اجتماعيا وسياسيا.
ولكن ما تكونُ "ثورة" تفتقرُ إلى رغبة الأنسنة وتجاوز الاستلاب في الواقع القمعيّ؟ ما تكونُ "ثورة" تدعو إلى التطهُر من أحلام الإنسان العميقة، واستعادة أزمنة بائدة كان فيها الإنسانُ مُنشدَ الظل في كورس المعبد المُقدَّس؟ ما تكونُ "ثورة" يقودها هاجسُ إعلان البراءة من العالم لا هاجس تجاوزه وتغييره؟ ما تكونُ "ثورة" تحلمُ بفراديس الوصاية والأبوية وهيمنة الذكورة واستعادة مجد السّماء الآفلة؟ هذه الأسئلة وغيرها تجعلني أعتقدُ أنَّ حصادنا من "الربيع العربيّ" يجبُ أن يكونَ موضع نقاش ونحنُ نشهدُ عودة الإسلاميّين بقوة إلى المشهد السياسيّ.
هل يُمكنُ أن يكونَ المناضلُ الإسلاميّ، اليوم، ثوريا؟ بمعنى آخر: هل يحلمُ هذا المناضلُ بعالم جديدٍ يتجاوز، كليا، العالم المُستنفَد بوصفه عائقا أمام أعمق الصَّبوات والتطلعات؟ هل يملكُ هذا المناضل فكرًا نقديا يتيحُ له أن يكشفَ عن بنيات القمع والاستبعاد والنبذ في الواقع السوسيو- سياسي العينيّ وفي الخطاب السائد على السّواء؟ هل يملكُ هذا المناضل وعيا جدليا يجعله قادرا على احتضان نار المُمكن النائمة في غابة الرَّماد كحسناء تنتظرُ الفارس الذي سيُحرّرها؟ أم – خلافا لذلك – يحلمُ هذا المناضل بالعودة إلى الماضي وقد أصبح مطهرًا تغتسلُ فيه حياتنا من خطيئة السقوط في التاريخ؟
من الواضح أنَّ المناضل الإسلاميّ المعاصر ليس ثوريا بالمعنى الحديث لأنه يرى الكمال في الماضي. إنه وصيّ على سيادة المرجعية ولجم احتجاجات الحاضر. إنه شاهدٌ على انحراف التاريخ وابتعاده عن ضوء الأصل وسقوطه في العماء. فكيف يكونُ ثوريا؟ إنه صاحبُ نوستالجيا يتوقُ إلى جنة الكمال الذي تحقق في الماضي التدشينيّ. بينما الوعيُ الثوري – في أبسط تحديداته – هو حلمٌ بوضع يتجاوز الماضي المُستنفَد بالكشف عن مُمكناته كما يكشفُ البُرعم عن الزهرة التي تولدُ منه باعتبارها نفيا له.
ترتبط فكرة الثورة بفكرة التقدم لا بنوستالجيا الأصل وكمال الماضي ومرجعيته. ترتبط بالتاريخ وقد أصبحَ مجالا لتحقق التحرّر الشامل. ترتبط بمركزية الإنسان وقد استعاد فضائل بروميثيوس مُعلنا تمرده البهيّ على الآلهة. لذا، كانت الثورة وعيا ارتبط بالحداثة وشهد النور في "عصر الأنوار " تحديدًا ولم تكن، يوما ما، إدانة للتاريخ باعتباره سقوطا.
على الفكر الإسلاميّ أن يُسهمَ في نقد العالم المعاصر والكشف عن أزماته العميقة، لا أن يستمد جدوى وجوده أو أهميته وفعاليته من استخدام لغة العصر التي هي، دوما، مدار مُناقشة ومراجعة نقدية في ضوء تجارب العالم المعاصر. فما معنى أن نقول اليوم، مثلا، عن الإسلام إنه ثوريّ؟ إنَّ فكرة الثورة ذاتها لم تعد تملك ذلك السّحر الذي كان لها في بدايات القرن العشرين، وهي اليوم في قلب النقاش الذي يفضحُ بنيتها الفكرية الاستبدادية وتجاربها التاريخية الكارثية كما هو معروف. على الإسلام أن يتخلص من رغبة مُحاكاة العالم من جهة أولى، ومن رغبة التماهي مع الماضي من جهة أخرى ليكونَ قادرًا على أن يشكل إضافة للعالم على مستوى الروح والقيم وسؤال المعرفة.
مشى مع الجُموع في المسيرات حاملا لافتاتٍ تطالبُ بإسقاط النظام. احتلَّ معهم السَّاحات العامة منتظرًا رحيل رأس النظام الفاسد القمعيّ لينبلجَ فجرُ الحرية والكرامة والديمقراطية والمُواطنة. وأخيرًا، سقط النظام ورحلَ الرئيس. جاء العهدُ الجديد: ستحل الشريعة محلّ القانون الوضعيّ. ستنتصرُ الطائفة الغالبة الناجية. ستعلو الغبطة وجه السَّماء وتتزيَّنُ دروبُ الخلاص للمؤمنين الجُدد. سُحقا للمُواطنة والحرية والمُساواة. سُحقا للأرض: مَهدِ الفوضى والتعدّد والسقوط. عاد إلى بيته فرحا. رمى قناع فولتير الذي لبسهُ في الشارع ليوهمَ الجميع بأنه ثوريّ حقا. بداية، فكر في تحطيم محل لبيع الأشرطة الغنائية قبالة بيته، وقرَّر أن ينوبَ عن زوجته في الانتخابات القادمة.
ألا تكونُ كلمة "الجميع" هي نفسها كلمة "القطيع" مُهذبة؟
لا يكفي أن نقطعَ رأس الملك كي نقولَ إننا قمنا بثورة. السؤال الأساسيّ هو: من قطع رأس الملك؟
ما الإسلامُ اليوم؟ إرادة اعتقاد أم إرادة هيمنة؟ شبابُ الروح أم أبٌ لا يموت؟ بحثٌ عن الضوء في عتمة العالم أم حِنقٌ على العالم ؟ احتضانٌ للكينونة التاريخيّة وجسرٌ إلى اللانهاية أم تشرنقٌ ورغبة في الشفاء من دُوار التاريخ؟
أكبرُ انتصار للفكر، على ممرّ العصور، هُو خيبة اليقين الدَّائمة.
ما جدوى فكر لا يدفعُ بالمطلق دفعا إلى المُتحف؟
هناك تلازمٌ تاريخيّ بين ازدهار الفكر والإنسان من جهة، وشحُوب وجه المُطلق من جهة أخرى.
بإمكان المُفكر والمثقف النقديّ العربي أن يقول: سأكتبُ، رغم اللاجدوى الفادحة، على الماء...
أعمقُ سؤال وجوديّ قرأته هو للفيلسوف لودفيج فتجنشتين: "هل يحلّ عَيشي إلى الأبد أيَّ لغز؟".
سؤالٌ مرعبٌ يصيبُ الأبدية نفسها بالغثيان.
قولوا أيها الأصدقاء: هل رأيتم سيزيف يُعذبُ بحمل صخرة الحياة العربية التي تحترفُ الرَّتابة الأبدية؟ هل رأيتم ديوجين يحملُ مصباحه في ساحات المُدن العربية، تحت شمس النهار، باحثا عن شمُوسنا الأخرى الغائبة؟
يقول نيتشه في إنجيله العظيم "هكذا تكلم زرادشت": " يجبُ أن يكونَ في الإنسان شيءٌ من السّديم كي تولدَ منه نجمة راقصة ".
أعِرنا بعضَ سديمك يا فريدريك، فحياتنا صحراء يملأها ويخنقها صبَّارُ اليقين.
" الإنسانُ الفقيرُ يملكُ إلها غنيا " يقول أحدهم. والإنسانُ الذي يعيشُ على هامش التاريخ يملكُ ماضيا عظيما وكاملا.
أفاقَ، منذ قرنين، على جلبة وأضواء غريبة لم يعرفها منذ طفولته البعيدة في بيت الجبلاوي. أدرك كم كانت أيامُه صدئة في سالف الأزمان، وكم كانَ بيتهُ فقيرًا إلى خمرة الشمس. وهُو منذ ذلك الحين، إلى اليوم، ما فتئ يخصفُ عليه من ورق شجرة الأزمنة الحديثة ليسترَ سوءته.
هل يقدرُ الإنسانُ، حقا، على نسيان غودو؟ هل يقدرُ على احتمال عدم انتظار أيّ شيء يحملُ رائحة الخلاص؟
كان الخلاصُ بالحرية سِفرًا مُقدَّسا تنزلت به الحداثة بعد أن أحالت الآلهة على التقاعد. والآن – والتاريخ يغرقُ في اللاوجهة ويُضيع مفاتيح الخلاص الثورية – من أيّ حجر في الطريق سوف ينبجسُ الضوء؟
أحيانا، وأنا متعبٌ من العالم الشائخ، أحلمُ بالسكنى في جناح كونشيرتو كتبهُ موزار في يوم ماطر.
لماذا تغيبُ الأسئلة الكيانية الكبرى في عالم الإسلام؟ لماذا لا تتميَّز أسئلتنا بالجذرية اللازمة، وإنما ترتبط بكل ما يتعلقُ بالصّراع مع الآخر أو بتبرير فشلنا التاريخيّ لا غير؟ أين سؤال المعرفة؟ سؤال الفن والإبداع؟ سؤال القيم في عالم يشهدُ انقلابات غير مسبوقة في شتى مناحي الحياة؟ أين سؤال الحقيقة والتعالي في ضوء سطوة مرجعية التاريخ التي يبدُو أنها لا تخترق؟
كيف لثقافة ما زالت سجينة آليات التحليل والتحريم والتكفير أن تسحرَ العالم وتقنعَهُ كي يرى فيها خلاصه وهدايته في ظلمة الزمن؟ كيف لثقافة ما زالت تعتمدُ آليات العقل الفقهي التقليدي أن تشكل إضافة إلى العالم اليوم؟ كيف لثقافة لم تتخلص، بعدُ، من إرث البداوة وقيمها التقليدية أن تقدم إجابة عن مُشكلات الإنسان في العالم المُعاصر؟ كيف لثقافة ما زالت تستعيدُ حروبَ الماضي الطائفية وتعيشُ في زنزانة الانغلاق المذهبي القروسطيّ أن تسهمَ في النقاشات الدائرة حول حقوق الإنسان والمُواطنة والديمقراطية؟ كيف لثقافة لم تراجع نقديا – وبصورة جذرية – موروثها في ضوء فتوحات العصر المعرفية أن تطرحَ أسئلة المعنى بعيدًا عن هيمنة الماضي ومُشكلاته وإجاباته المُستنفدة؟
يبدو لي، أحيانا، أنَّ التحدي الأعظم أمام الإسلام اليوم يكمنُ في ضرورة تخلصه من أشكال حضوره التاريخية باعتبارها تجاربَ استنفدت وشرارة خمدت. على الإسلام أن يخلعَ أسمالهُ الثقافية ويدخل مفازة العالم المُعاصر عاريا من تاريخه الخاص كروحانية تتوثبُ من أجل إعادة التفكير في الغائية من مُنطلق غير مذهبيّ وغير دوغماتي.
ما قيمة الثقافة دون شِعر عظيم؟ ما قيمة السّكنى في عالم يعتقلهُ اليقينُ الديني أو الإيديولوجي؟ ما قيمة كينونة تاريخية تشبه "الغولاغ" وتقفُ حاجزا بين الإنسان والسؤال؟
أتحدَّثُ عن الشعر، هنا، باعتباره إقامة في الرَّماديّ وهجرانا لليقين الذي يُدجّنُ المعنى في الوضوح. أتحدَّثُ عن الشعر باعتباره سفرًا لا ينتهي إلى طفولة الأشياء قبل أن تصابَ بداء الكثافة، وباعتباره خلقا يمنحُ اللغة سلطة اللعب. أتحدث عن الشعر باعتباره جنونَ اللغة.
لا أدري لماذا تتوبُ الكلمة الشعرية العربية عن مُغامرة مدّ اليد إلى شجرة السرّ وتسقط دوما في عالم الأفكار المُشتركة. هل ورثت، هي الأخرى، توبة آدم؟
شاعرٌ تقليديّ روَّض اللغة وجعلها وسيلة خدمة عموميَّة: هو بيجماليون خائب. أراد أن ينفخَ الروح في التمثال الذي صنعهُ بيديه، دون جدوى. كان لي أن أرى لغتهُ عجوزا مُقعدًا أمام شاطئ الأبجدية.
ليست الطفولة جنة ضائعة. ليست فردوسا مفقودًا. إنها بداية وسؤال وبكارة. إنها مغامرة ولعبٌ خالق. إنها براءة من أكداس القراءات التي تُثقل كاهل العالم. لذا، تبدُو في الشعر رمزا يُتيحُ علاقة جديدة وثورية بالأشياء. إنها رحلة لا تنتهي إلى ينابيع المعنى التي تهدرُ تحت قشرة العالم. من هنا ليس شاعرًا من ليس طفلا كبيرًا.
تحدَّث الشاعر الفرنسيّ فيرلين عن "الأغنية الرَّمادية" في قصيدة له عن الفن الشعري. كان طفلا يحلمُ بالسَّفر إلى شفافية العالم والأشياء. كان يحترمُ ضبابَ الطريق ويُحاولُ الظفر بمرأى جمال حورية اللغة وهي تخلعُ ثياب كثافتها الاصطلاحية. لم يُغلق عينيه أمام مَهاوي الرحلة مُستنجدًا بعكاز القبيلة وتعاويذها.
أفاق الفكرُ مع خيوط الفجر الأولى فغنَّى شعرا؛ وتثاءبَ مساءً فتنهَّد عقيدة.
عاشت الثقافة العربية، طويلا، على الحلم بشعر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويُضربُ بالسياط في الساحات العامة.
سمعتُ، مرَّة، الفيلسوف جاك ديريدا يقول: " السرّ هو ما يُقاوم". ولكنه نسيَ أن يُضيف: " واليقينُ هو ما يسجنُ طائرَ المعنى".
ألا يكونُ الإنسانُ الأوَّل الذي حلم بالحقيقة، هو نفسهُ أوَّل من ابتكر السِّجن؟
ما زالت الدولة العربية – الإسلامية وصيَّة على الحقيقة ولم تفهم، بعدُ، دورها باعتبارها مُؤسَّسة معنيَّة – في المقام الأول – بحماية حقوق الإنسان وتأمين شروط العيش المشترك. ما زالت هذه الدولة تستنجدُ بالحقيقة الدينيَّة التي تمنحُها شرعيَّة لم تستطع اكتسابها بالعمل على الارتقاء بالحياة العامة أو تحقيق العدالة والتنمية الشاملة.
أكبرُ عدو للإنسان العربي المُسلم، اليوم، هو الحقيقة.
ما معنى القول إنَّ نظاما سياسيا مُعيَّنا يمثل "الإسلام الصحيح"؟ وما معنى القول إنَّ فكرًا بعينه يمثل "الإسلام الصحيح"؟ وهل هناك "إسلام صحيحٌ" وآخر "خاطئ"؟ وما معنى الصحة والخطأ هنا؟ ما معيارهما؟ ومن يُحدّدُ ذلك؟ واستنادًا إلى ماذا؟
لنعُد قليلا إلى الوراء. من كان يُمثل "الإسلام الصَّحيح" في تاريخنا البعيد؟ عليّ أم مُعاوية؟ القدرية أم الجهمية؟ المعتزلة أم الأشاعرة؟ الفلاسفة أم المُتصوفة؟ ابن تيميَّة أم ابن رشد؟ هل هناك مرجعية مُطلقة تحدّدُ معايير الصواب والخطأ في هذا المجال؟ ألم تكن كل هذه التيارات والمذاهب والمواقفُ المُتباينة نتاجا للتأويل ولقراءات خاصَّة للنص الأوَّل؟ ألم ينشأ بعضها في ظل حرب سياسية دمويَّة من أجل خلع الشرعية على شهوة السلطة ونبذ الآخر المُنافس؟ أليس في هذا ما يدل على خطر استخدام الدين سياسيا بصورة تُبرّرُ العنف وتعطيه طابعا مُقدَّسا؟ أليس في هذا ما يُبيّنُ كيف أنَّ الحقيقة في يد الدولة والإيديولوجية تصبحُ أكبر عدو للإنسان، ومرجعية عليا يُسحق باسمها المُختلف ويُكفر كما نجدُ، إلى اليوم، في بعض بلداننا العربية بكل أسف؟
على الحقيقة أن تتحرَّرَ من السياسة لتصبحَ بحثا لا عقيدة. هذه هي العلمنة بكل بساطة. على الدين أن يتحرَّرَ من المُؤسَّسة التي تستخدمهُ أداة للسلطة في هيمنة الطائفة الغالبة وقمع المُختلف وقهر المرأة وإدانة الحرية والإبداع. الدينُ تجربة روحية تعاشُ وليس وصاية للزج بالحياة وغناها وتعدّديتها في اتجاه نمذجة الفكر والسلوك. على الدين أن يعيشَ لانهائية التأويل والبحث المُضني عن الضوء بعيدًا عن ألاعيب السياسة التي لا يهُمّها منهُ إلا ما يخدمُ ديمومتها أو يسترُ عورتها.
فِكرُنا الإسلاميّ المُعاصر: شيخ شبِقٌ يحلمُ بمجيء حوريَّات الماء من البحر الميّت.
كيفَ نُؤاخي بين غائية الدين وكماله من جهة، وهاجس البداية الدَّائمة من جهة أخرى؟ سؤالٌ قد يُدخل اللاهوتَ أغربَ المتاهات وأجملها. وقد يمسحُ الصَّدأ، أخيرًا، عن عكازه في البحث الطويل المُضني عن الضوء.
" العالمُ الآخرُ هو هذا العالمُ مُصحَّحا " يقول نيتشه. أيّهما، إذا، في حاجة إلى الآخر كي يوجد؟ الكمال أم النقص؟ الإله أم الإنسان؟ المُطلق أم النسبيّ؟
حقا، ما انتابني شعورٌ بالإعياء والتعب إلا تحوَّلت فلسفتي إلى حكمة، وأفكاري المُجنَّحة إلى طيور ميّتة.
الجسدُ يُفكر: هذه هي الحقيقة التي كانت الحضارة دائمة الهرب من مُواجهتها يا فريدريك. ظلت الحضارة سفينة سَكرى بتوقها إلى الجُزر البعيدة ناسية موجَ الرغبة الذي يحملها ويقودها.
جسدُ المرأة: اللانهائيّ مُتجليا، وكاشفا عن ضوءه وخبزه وخمره في النهائيّ.
العشقُ في أساس كل تصوّف وكل نزوع إلى حالات وحدة تردمُ الهوة بين الذات والعالم. العشقُ دروبٌ مُضنية إلى عالم يمحو التناقضات ويُنهي حالة شقاء الوعي وطلاقه مع الوجود. العشقُ ظمأ الغريب ونشيدُ غربته في مفازة العالم. العشقُ فعلُ اشتهاء لجنة الموت والتلاشي في الكل. العشقُ حنينٌ عميقٌ إلى البداية قبل أن نُصابَ بالهجرة والسقوط في المتاهة الكونية. يا للغرابة ! وجدتني أتحدَّثُ عن التصوف كما أتحدَّثُ عن فعل الحب مع المرأة. كيف لم أنتبه؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.