الشعر لم يعد ملزما بتناول قضايا كبرى زار الجزائر منذ سنوات وقاطع احتفالية "القدس"، ما عرّضه للنقد واتُهِمَ بالتعالي. يعود الشاعر اللبناني شوقي بزيع الذي التقت به "الخبر" في بيروت بلبنان، ليفتح الجرح ويتحدث عن الحادثة بالتفصيل، كما يفتح النقاش حول أهمية الشعر ومواكبته للأحداث العربية الحالية ويجيب عن أسئلة تتعلق بمكانة الشاعر في العالم العربي حاليا. زرتم الجزائر منذ سنوات وحدثت قضية مع وزارة الثقافة، هل هناك ما بقي من الجرح في قلب الشاعر شوقي بزيع؟ هناك مثل لبناني يقول “العتب بقدر المحبة”، ودون شك لو لم يكن ما حدث بالجزائر، لكان حزني أقل، خاصة أني في تلك الاحتفالية التي أقيمت للقدس، كما أذكر منذ أربع سنوات، كنت قد لبيت الدعوة حبا لهذا البلد الذي نكنّ له نحن اللبنانيين محبة فائقة، وسبق أن زرت الجزائر مرات عدة من قبل منذ ثمانينيات القرن المنقضي وأسست صداقات جميلة ولم أكن أتوقع أن يحدث هذا الخدش في العلاقة. لكن ما يخفف من حزني هو أن سوء التفاهم لم يكن بيني وبين الكتاب والشعراء الجزائريين، ولكن حدث بيني وبين وزارة الثقافة الجزائرية، بسبب احتجاجي على كون الأمسيات الشعرية تتضمن أكثر من 26 شاعرا كل ليلة وهذا أمر غير عادي بكل المقاييس، عندما يجيء شاعر ما من آخر أصقاع العالم ليقرأ ثلاث دقائق، هذا غير عادل.. وهناك أيضا فروق هائلة بمستوى المشاركين، شعرت بأن هناك اعتداء على روح الشعر حتى لو لم يكن مقصودا ولفت النظر إلى ذلك. تفاجأت بعد أيام وبعد أن رفضت المشاركة والقراءة في تلك الأمسية، ببعض من مثقفي السلطة والإعلام يبادرون إلى مهاجمتي بداعي أني شاعر متعال ومغرور وما سوى ذلك وهذا شيء مؤسف. طبعا، أنا لا أحاضر في التواضع وأعتبر أنه، بشكل عام، الكتاب والفنانون والشعراء كائنات غير متواضعة وتميل إلى شيء من الاعتداد بالنفس ولكن الأنا الشاعرة ليست مرضية، لن تؤثر هذه الحادثة العابرة على محبتي للجزائر كبلد وشعب ولكتابها ومثقفيها الذين دفعوا أثمانا غالية في وجه الاستعمار سابقا وفي وجه قوى الظلام والتكفير لاحقا. هل تعتقد أن الشعر مازال يدافع عن الأمة وهمومها أم أن شعراء اليوم هم شعراء الحب والعشق فقط؟ سبق أن واجهنا أسئلة مماثلة حول دور الشعر وهل مازال ديوان العرب أم أن الرواية حلت مكانه؟ في الحقيقة يطرح سؤال هناك أزمة في الشعر. في الواقعّ، منذ نعومة أظافري أسمع هذا السؤال حول أزمة الشعر وأقول إنه علينا أن نحزن إن لم تكن هناك أزمة في الشعر.. الأزمة أن لا تكون هناك أزمة في الشعر، لأن الشعر تعبير عن واقع مأزوم والمصالحة مع النفس والعالم لا يمكن أن تكون مفيدة ومنتجة إن لم تخدم قضية الشعر.. الشعر هو تعبير عن خلل، عن قلق وجودي، هو رغبة في استرداد ما خسرناه عبر اللغة. فما دور الشاعر إذن حاليا؟ أعتقد بأن دور الشاعر في العالم في الأساس تغيّر ليس في العالم العربي وحده، يعني لم يعد الشاعر موظفا عند أحد، لم يعد ملزما بتناول قضايا كبرى ذات طبيعة إيديولوجية وذات طبيعة سياسية مباشرة. الشعر هو فعل حرية، وإذا كان هناك من رابط بين الشعر وواقعه فهذا الرابط يلتزم به الشاعر طوعا ولا يلزم به من الخارج. لم يعد الشعر أيضا صدى للقضايا الكبرى فقط، بمعنى أنه ليس بالضرورة الشاعر في كل قصيدة يتحدث عن هموم الأمة وعن الواقع القومي وعن الواقع المعيشي وما سوى ذلك. أنا مع واقعية الشعر ولكن عبر الفهم العميق للواقع أي ليس عبر الواقع النهائي والجامد والمتخثر، عبر الواقع المتحرك، الواقع الذي ينتج واقعا آخر باستمرار والواقع هو ليس ما يظهر على سطوح من جبل الجليد، هناك نيران تعتمر في الأحشاء، حتى الواقعية يساء فهمها، ويراد أن نكتب أدبا واقعيا بمعنى أدبا عبارة عن مرآة مباشرة لما يجري. أكثر القصائد الرديئة كتبت تحت سقف الإيديولوجيا والشعارات الطنانة، وهو ما لم يخدم القضايا الكبرى، لأن القصيدة الرديئة تسيء إلى نفسها وإلى القضية في حد ذاتها.. عندما يتحدث البعض عن المقاومة في الشعر، كيف يمكن لقصيدة أن تقاوم الاحتلال إذا لم تقاوم موتها الذاتي؟ يعني قصيدة تموت بعد أسابيع، على سبيل المثال، كيف يمكن لها أن تساعد الآخرين على الحياة؟ أغلب دور النشر تقول إنها لا تنشر للشعراء، لأن الشعر لا يقرأ أو لا يباع.. هل هذا صحيح؟ إذا كان الحديث عن تسويق الشعر فهو ليس ذا شعبية رائجة في هذه الأيام، وتتراجع أسهمه لتتقدم الرواية مكانه، وهنا نطرح سؤالا آخر: لماذا الرواية وليس الشعر؟ وهل الرواية ديوان العرب فعلا وليس الشعر الذي سبق له أن احتل هذه المكانة؟ أقول، صحيح بأن الرواية تتقدم، لكن هذا تقدم مؤقت ومرحلي، يعود إلى كون البشرية قد تعبت من الكلام الصعب وتعبت من الإشكاليات الوجودية الكبرى التي يطرحها الشعر، وتريد أن ترتاح، تريد أن تهضم الأحداث الخطيرة التي عرفتها في القرن الماضي والتي تخللتها حروب عالمية وحروب أخرى لا تقل فظاعة.. تستخدم البشرية الآن ذاكرتها، تريد أن تهضم ماضيها القريب والبعيد عبر وقائع التاريخ وما سوى ذلك ومن هنا رواج الرواية التاريخية. لكن هذا الأمر مؤقت طبعا، الرواية أيضا تسمح للإنسان بأن يستقيل من حياته الشخصية لكي يقيم في حيوات الآخرين في حيوات أبطال الروايات. لا يُمكِننا الشعر من ذلك، خاصة الشعر الحديث الذي يحتاج إلى التمعن وإلى القراءة وإلى الإيغال الداخلي في المعاني ولغته كثيفة وليست لغة رخوة وأفقية كالرواية. وهل سيستمر هذا التراجع والأسبقية للرواية طويلا؟ قد يكون الشعر قد تراجع كفنّ مستقل الآن، ولكن منسوب شعرية العالم لم يتراجع، وأنا أقول إنه بعد هذه الفترة من الانكفاء الذاتي، ستعود للشعر نضارته وسيعود إلى موقعه الهجومي، وما “الفايسبوك” الآن وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي إلا تعبير عن ما أقوله. بمعنى أن “الفايسبوك” سمح للجميع بأن يُخرجوا إلى العالم هذا الشاعر الذي بداخلهم، وأكد حقيقة تقول إن في كل إنسان شاعر مختبئ، كان ينتظر الفرصة السانحة لإظهار نفسه، تماما كما كان يحدث لإنسان ليس بشاعر بالمعنى الاحترافي، عندما يفقد إنسانا عزيزا عليه أو يقع في الحب أو يسافر، يلجأ إلى الشعر كي يعبّر عن نفسه. الآن كل الناس يكتبون الشعر. هناك من يكتب شعرا رديئا، وآخر أفضل، هناك تفاوت في منسوبية الشعرية، لكن إصرار كل عربي على أن يكون شاعرا هو تأكيد حقيقي على أن الشعر مازال ديوان العرب وديوان العالم وأننا لا نفقد الأمل في أن يستعيد مكانته التي فقدها الآن. ذكرت أسبابا عديدة لتراجع الشعر، لكن لم تنسب هذه الأسباب للشاعر ذاته، ألا يمكن أن يكون ضعف شعراء هذا الزمن هو سبب تراجع الشعر، فمنذ وفاة نزار قباني ذهب الغزل ومنذ وفاة درويش مات شعر الوطن؟ أعتقد أن فيما نقوله نصف الحقيقة، وأن هناك ظلما في الوصول إلى مثل هذا الاستنتاج، لأني أعلم تمام العلم بأن الأمم لا يمكن لها أن تنتج شاعرا كبيرا كل سنة، لا يمكننا أن نحصل يوميا على محمود درويش ونزار والسياب وانسي الحاج، الأمر يحتاج إلى وقت وهذا لا يعني على الإطلاق أن هؤلاء كانوا وكلاء حصريين لقصيدة الوطن أو الحب في الوطن العربي. هناك شعراء حقيقيون رائعون ورواد في الشعر بالمعنى المجازي للكلمة ومازال الشعر بخير ومازالت هذه الأسماء تحتاج لوقت للاختمار والنضج وتحقيق الإنجازات التي وصل إليها السابقون. الشعر يتراجع، لكن لا يضمحل أو يزول، بل يتحفز ويظهر بوتيرة أقوى.