لم تكشف رسالتا الرئيس عن وجود أزمة في المؤسسات الحساسة للدولة، وهي الرئاسة وهيئة الأركان والمخابرات، فحسب، بل أظهرتا أيضا أن المؤسسة العسكرية والأمنية هي اللاعب الأساسي ومهندس العملية السياسية التي تخص الانتخابات الرئاسية ولا علاقة لها بما نقلته لويزة حنون عن الفريق ڤايد صالح حول “الحياد”، وأن الأحزاب لا موقع لها في الحسابات حول القضايا الكبرى، بعدما اكتفت الطبقة السياسية، موالاة ومعارضة، بمشاهدة فيلم الأحداث كأي متفرج عادي دون أن تلعب فيه حتى دور “الكومبارس”، رغم أن جوهر الخلاف الذي طفا على السطح، يخص أكبر شق فيه موعدا انتخابيا من المفروض أن الأحزاب هي من تنشطه وتتبارز فيه وتحدد تحالفاتها الفائز فيه. أمام الجدل حول الجيش والرئاسة الطبقة السياسية خارج الحسابات في القرارات الكبرى حبس الجدل السياسي حول المؤسسة العسكرية والأمنية الأنفاس في الساحة الوطنية، وضبطت قيادات الأحزاب السياسية، معارضة وموالاة، عقارب الساعة على تطوراته ونتائجه، لكن دون أن تتمكن من التأثير في مجرياته ولا في مآلاته، ما يظهر أن الطبقة السياسية في الجزائر توجد خارج الحسابات في القرارات الكبرى. وجدت الأحزاب السياسية نفسها رهينة الصراع المحيط بالانتخابات الرئاسية، الذي كشفت رسائل الرئيس، في ظرف أسبوع واحد، عن بعض تفاصيله المشفرة بين الرئاسة وهيئة الأركان وجهاز الاستعلامات والأمن. هذا الملف الثقيل الذي حطّ بكل ثقله على الساحة السياسية وإن عرفت بدايته والوجوه المنشطة له، وأغلقت بعض أبوابه بإعلان الحاكم الجديد للأفالان، عمار سعداني، عن وقف الجدل حوله، غير أن الأحزاب وجدت نفسها مثل “الأطرش في الزفة”، غير قادرة على التأثير فيه ولا المساهمة بالنقاش حوله، وكأنه شأن ليس من صلاحياتها وصراع بين دولتين لا يحق التدخل في شؤونهما الداخلية. إذ رغم خطورة محتوى “الاتهامات” التي صدرت، ومنها ما يتصل بالفساد وتبذير المال العام وبمنظومة الأمن الوطني، غير أن الطبقة السياسية فضّلت، أمام الجدل الدائر ما بين المؤسسات الحساسة في الدولة، لعب دور “المتفرج” على المسرحية، وليس دور اللاعب الفاعل، رغم علمها بأن ذلك يكلفها خسارة أقلها تحمل أعباء شراء ثمن “التذكرة”. فالأحزاب التي ظلت دوما تشتكي مما تسميه “اللعبة السياسية المغلقة”، ورافع بعضها من أجل حل “البوليس السياسي”، لم تكن مواقفها وردود فعلها، لما خرج غسيل النزاع بين الرئاسة والمخابرات إلى العلن، في المستوى الذي يؤسس لفتح نقاش سياسي جدي يوصل في النهاية إلى رسم الحدود بين السياسي المحتكر من قبل السياسيين وبين العسكري التابع للثكنة. لقد أظهرت الأحزاب، معارضة وموالاة، بأن الجدل الذي كان وراء دفع الرئيس لإصدار رسالتين في أقل من أسبوع، أكبر منها وليس بمقدورها مجاراته أو تشفير ألغازه، رغم أنه على صلة مباشرة بموعد سياسي (الرئاسيات)، مدعوة دستوريا للمشاركة في مختلف تفاصليه ومحطاته، كلاعب فاعل وليس كأرانب سباق. ولكن عندما تشهد الطبقة السياسية، على غرار مجموعة ال20 التي ترى أن “النزاع تمت تسويته في هرم السلطة”، دون أي دور لها في هذه التسوية ولا في المآلات التي ستنتج عنها، ففي ذلك أكثر من مؤشر بأن الطبقة السياسية لا وزن لها في منظومة الحكم الحالية والمقبلة ولا حضور لها في عملية صنع القرار، وهي مجرد شاهد زور في أحسن الأحوال، لأنها إما شاركت في الانتخابات أو قاطعتها، كما فعلت حركة حمس والنهضة والأرسيدي وغيرها، تبقى في موقع رد الفعل وبعيدة كليا عن الفعل. بوتفليقة يزجّ به في صراعات حادة حول السلطة الجيش اللاعب الأساسي في الرئاسيات لم يسبق لأي رئيس عرفته الجزائر منذ الاستقلال، أن أقحم المؤسسة العسكرية في السياسة وكرَّس دورها كلاعب أساسي في تسيير شؤون الدولة، مثلما فعل عبد العزيز بوتفليقة. فتاريخ الجزائر الحديث، سيسجل بأن سابع رؤسائها زجَّ بالجيش في قلب الصراع على الرئاسيات. لما جاء بوتفليقة إلى الحكم في 1999، قال إنه يرفض أن يكون ثلاثة أرباع رئيس. والمقصود كان أنه سيخوض معركة من أجل أن يكون هو القائد الوحيد والفعلي في البلاد، وصاحب المبادرة باتخاذ القرارات في الهيئات المدنية والعسكرية. ولكن بعد أقل من تسع سنوات من الحكم، تبيَّن أن المقصود من المسعى ليس تمدين الحكم وتغليب رجل السياسة على العسكري، وليس رغبة في إضفاء الديمقراطية على تسيير شؤون الدولة، وإنما الهدف كان بسط نفوذه على هيئات الدولة بكاملها وتغييب كل أجهزة الرقابة على أعمال السلطة، وفي مقدمتها البرلمان. وعبَّر عن ذلك بوضوح في التعديل الدستوري 12 نوفمبر 2008، الذي قضى على كل سلطة مضادة بإمكانها أن تواجه السلطة التنفيذية، ممثلة في شخص رئيس الجمهورية. غير أن الصراع الخفي حول الاستحواذ على السلطة انتقل بعد 15 سنة من الحكم إلى العلن، ففجَّره أمين عام الأفالان، عمار سعداني، بهجوم حاد على دائرة الاستعلام والأمن وقائدها محمد مدين. فقد قال بشكل صريح بأن المخابرات العسكرية لها اليد الطولى في الانقسامات التي عاشتها أحزاب معارضة، وقال إن “توفيق” يعارض ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة وإن مصالحه افتعلت قضية سوناطراك لضرب وزير الطاقة شكيب خليل، ومنه ضرب بوتفليقة. وسبق لسعداني أن خاض في نفس الموضوع العام 2006، ولكن ليس بنفس الحدة. فقد قال وهو رئيس للمجلس الشعبي الوطني، إن “السلطة الخفية ينبغي أن تختفي حتى يستطيع رئيس الجمهورية أن يحكم بحرية”. ومر هذا الكلام الخطير دون أن يثير أي جدل، مع أنه ثقيل المعنى. فالمقصود ب«السلطة الخفية” هو جهاز المخابرات، القلب النابض للجيش الذي نازع بوتفليقة في “عرشه”. وكان ذلك التصريح عاكسا لصراع حاد بين قطاع من الجيش على الأقل، ورئاسة الجمهورية. وعاد هذا الصراع بشكل عنيف هذه الأيام، وألقى به نفس الشخص إلى ساحة التداول السياسي. ولكن الفرق بين 2006 و2014 هي حالة الرئيس بوتفليقة الصحية. فقبل 8 سنوات كان بوتفليقة متعافيا إلى حد ما، واليوم هو مقعد ولا يقوى على المواجهة. غير أن حاشيته التي تتكون من أشخاص منتفعين من حكمه، تمارس ضغطا لفرضه رئيسا للمرة الرابعة وبإرادة منه. ومن الواضح أن هذا الطموح يجد مقاومة من طرف جهة نافذة في السلطة، لا يمكن إلا أن تكون مصالح الاستخبارات لأنها الوحيدة التي يمكن أن تؤدي دور السلطة المضادة، أمام رئيس يملك شهية للسلطة لا حدود لها.وبذلك، يظهر جليا، اليوم، أن بوتفليقة بإصراره على البقاء في الحكم وهو مريض ورفضه التداول على السلطة وانتقال الحكم إلى رئيس آخر عن طريق الصندوق، يتسبب في إقحام مؤسسة الجيش في الصراع على الرئاسة، بل وقسم المؤسسة العسكرية إلى قيادة أركان موالية له ومخابرات معارضة. وأبلغ دليل على ذلك، الخطاب المنسوب إليه بمناسبة يوم الشهيد، الذي يتحدث فيه بوضوح عن هذا الانقسام. حوار رئيس الفجر الجديد الطاهر بن بعيبش ل”الخبر” مشاركة المؤسسة العسكرية ضرورية لوضع الجزائر على الطريق الصحيح هناك تأويلات عدة لما جاء في رسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة اليوم الوطني للشهيد، هل يتعلق الأمر في رأيك بتسوية أي صفقة أم أنه تأجيل للمواجهة إلى موعد لاحق؟ لم نألف هذا الأسلوب في رسائل رئيس الجمهورية منذ 1999، حيث إنها رسالة مركّبة وبأسلوب دون المستوى المطلوب، استعملت فيها عبارات لا تليق ككلمة تعيق، وتوجيه غير مفهوم، والجهة التي أحدثت هذا الضجيج هي مجموعة العهدة الرابعة وليس غيرها، وبالتالي لا أستطيع تحديد الجهة المعنية بهذه الرسالة. ومن تحليل الخطاب، نستنتج وجود محاولة طمأنة الرأي العام الوطني والدولي، بأن مؤسسات الدولة تعمل في انسجام تام، وليست هناك مشاكل بين هذه المؤسسات وأجهزتها. وربما محاولة تهدئة جهاز الاستعلامات ومسؤوله المباشر وإعادة الاعتبار له من أجل عهدة رابعة. ليس هناك تشابه بين مرحلة الرئيس زروال والوضع الحالي. في تلك الفترة، استهدفت الحملة السياسية الإعلامية مستشار الرئيس للضغط على الرئيس للتنحي من منصبه، عكس ما يجري حاليا. هل تعتقد فعلا بأن الجيش لن يتدخل في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ لا، أعتقد أن المؤسسة العسكرية تبقى متفرجة على هذه الوضعية، خاصة أن الجزائر تمر بمرحلة صعبة داخليا وخارجيا. وبدوري، ولأول مرة، أطلب من هذه المؤسسة أن تشارك في إيجاد حلول لهذه الأزمة، لوضع البلد على طريقه الصحيح. في غياب سلطة مضادة ومنها طبقة سياسية مؤثرة، يبدو أن مصير الرئاسيات قد تحدد مسبقا؟ حسب رأيي، فإن الطبقة السياسية في الجزائر وأقصد المعارضة، قد تحملت مسؤوليتها وعبّرت عن رأيها في مناسبات عدة. ولأول مرة، تلتقي المعارضة بهذا الحجم وتتفق على مبادئ وقواسم مشتركة وتقدم اقتراحات للخروج من هذه الوضعية. كما استطاعت هذه المعارضة أن تشرح الوضع وبدقة في البلاد، غير أنه وبالمقابل هناك سلطة لا ترى ولا تسمع الرأي المخالف. ألا ترى أن وجود أكثر من 85 مرشحا أمر يمهد الطريق لعهدة رابعة؟ الظاهرة الملفتة لعدد المرشحين لرئاسة الجمهورية ولأول مرة في تاريخ هذه الرئاسيات، في رأيي ليست من باب الصدفة، بل هي عملية منظمة من أجل إظهار المستوى الذي وصلت إليه الرئاسيات، ثم بعد ذلك إنزال هذا المستوى للشارع ومحاولة خلق رأي عام، حيث إن المواطنين يقبلون بعهدة رابعة مهما كانت الوضعية، على أن تؤول الأمور لهؤلاء الذين قد يضيّعون البلد بأكمله. الأمين العام لحركة الإصلاح الوطني جهيد يونسي ل”الخبر” قبول أصحاب القرار تسليم مقاليد الحكم سيكون معجزة هناك تأويلات عدة لما جاء في رسالة الرئيس بوتفليقة بمناسبة اليوم الوطني للشهيد، هل يتعلق الأمر في رأيكم بتسوية أي صفقة أم أنه تأجيل للمواجهة إلى موعد لاحق؟ ما حدث من احتدام للصراع بين الأطراف المتخاصمة داخل عصب النظام، مرده ليس كما يراد تسويقه على أنه خلاف حول من مع؟ ومن ضد العهدة الرابعة؟ لكني أظن أن جوهر الخلاف هو حول “من سيكون مرشح النظام لخلافة بوتفليقة”، ما أحدث حالة من “توازن الرعب”، كما يقال. فبوتفليقة برسالته، في الظاهر، “أراد أن ينفي وجود أي صراع، لكنه بطريقة أو بأخرى ثبت ذلك الصراع”، وأعلن مرحلة هدنة مؤقتة أو توقيف ل”إطلاق النار”، كما يقال، وليس نهاية الحرب. هل تعتقد أن هناك وجه شبه بين ما حدث من صراع بين جهاز المخابرات ودائرة الرئيس وما حدث في أواخر فترة حكم الرئيس اليمين زروال؟ الخلاف ثابت من ثوابت العصب، لكنه في العادة ينتهي بالأطراف إلى التوافق والمصالحة بينهم قبيل كل موعد انتخابي كبير. كما أن أشكال الصراع كانت من قبل شبه خفية لا تبيح بحقيقتها، لكنها هذه المرة ظهرت بشكل جلي وفي العلن. لا يختلف عاقلان على أن جوهر الخلاف لم يكن أبدا حول “من يخدم الجزائريين أحسن”، وإنما كان ولا يزال حول من تكون له الغلبة والاستئثار بالقرار والريع، فوجه الشبه بين عهد زروال وما نعيشه اليوم من هذه الناحية صحيح. هل تعتقد فعلا بأن الجيش لن يتدخل في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ رغم أني لست من هواة الكهانة السياسية، إلا أني أحكم على ظاهر الأمور ومقدمات الأشياء، والتي تقول بالنسبة للظرف الذي نعيشه اليوم إن ميزان القوة ليس في صالح قوى الأمة المتطلعة للديمقراطية والحرية ودولة القانون، وعليه فليس هناك داعٍ سيدفع بأصحاب القرار، كما يقال، إلى تسليم مقاليد الحكم لصالح من يختاره الشعب، اللهم إلا إذا حصلت معجزة من قبيل صحوة ضمير هؤلاء. في غياب سلطة مضادة ومنها طبقة سياسية مؤثرة، يبدو أن مصير الرئاسيات قد تحدد مسبقا؟ إن دور السلطة المضادة الذي من المفروض أن تضطلع به قوى المعارضة لا يمكن أن يكون، ما دام هناك انفصام يمنع التلاحم بين هذه القوى وعموم الشعب. لقد كرس النظام لدى الشعب الشعور بالتهميش والإقصاء جراء منعه من حقه في أن يكون فعلا مصدر كل السلطات، كما هو منصوص عليه في الدستور، ما جعل هذا الأخير ينفر من كل ما له علاقة بالشأن السياسي، وبالتالي عدم خلوّ الساحة ممن تعوّدوا التلاعب بنتائج الانتخابات.