تجري الانتخابات الرئاسية المقررة اليوم برهانات تميزها تماما عما سبقها من استحقاقات رئاسية في تاريخ البلاد، وإذا ما استثنينا الانتخابات التي كانت تجري في عهدة الحزب الواحد، بالاستفتاء على الشخص الواحد، فإن الرئاسيات التعددية الثلاثة التي شهدتها البلاد في 95 و99 و2004 جرت كلها في أجواء متميزة وبرهانات مختلفة، لكنها تختلف جميعا عن أجواء ورهانات رئاسيات اليوم الخميس 9 أفريل .2009 1995 . . بقاء الدولة انتظمت الانتخابات الرئاسية في 16 نوفمبر 1995 في أجواء خاصة جدا في حياة ''الدولة'' و ''الأمة''، فالعنف الإرهابي كان في أوجه، بتصعيد الجماعة الإسلامية المسلحة، الجيا، عمليات القتل والتخريب إلى مستويات غير مسبوقة بانتهاج عدمية المجازر الجماعية والقتل العشوائي، مما حول البلد برمته إلى ساحة حرب مفتوحة بين الرعب والرعب الذي غير موقعه. سياسيا، كان النقاش العام يدور حول مبادرة العقد الوطني بروما، أو سانت إيجيديو، التي استقطبت رموز المعارضة وقدمت ''ورقة طريق'' لحل الأزمة، لكن السلطة رفضت التعامل معها، واكتفت بوصف وزير الخارجية في تلك الفترة أحمد عطاف بأنها ''لاحدث''. كما تميزت فترة ما قبل رئاسيات 95 بفشل ندوتي الحوار الوطني (سبتمبر 94 جانفي 95) في تحقيق الأهداف الكبرى بالاستعاضة عن ''المجلس الأعلى للدولة'' ب''رئيس دولة''، حيث فشل التقارب بين صناع القرار ووزير الخارجية الأسبق عبد العزيز بوتفليقة الذي تم تداول اسمه باعتباره الخيار الأفضل''، خاصة وأن التحدي الدولي كان قويا ضد سلطة ما بعد وقف المسار الانتخابي في الجزائر. لكن بوتفليقة رفض أن يتم ترشيحه باسم ندوة الحوار وأصر على أن يعلن تسلمه السلطة باقتراح مباشر من مؤسسة الجيش، لأن الرجل يعلم جيدا هشاشة الشرعية التي تمثلها ندوة الحوار الوطني والشرعية القوية التي ستتوفر له بدعم الجيش.هكذا أشيع عن خلفية رفض بوتفليقة تولي رئاسة الدولة، مما دفع ب''صناع القرار'' في تلك الفترة إلى الالتجاء إلى الجنرال اليامين زروال (العائد إلى وزارة الدفاع) ليكون رئيسا للدولة، لفترة انتقالية تنتهي بتنظيم انتخابات رئاسية ''مفتوحة''. من هنا بدأ التحضير لرئاسيات نوفمبر ,1995 وكان الجنرال زروال أول المرشحين لتولي منصب رئيس الجمهورية، وبدأت السلطة تحشد له الدعم من قبل الجمعيات والنقابات والفنانين والرياضيين، وشرائح أخرى.. وكان وضع الجنرال المرشح اليامين زروال (وبالأحرى الجهة التي تقف خلف ترشيحه) صعبا للغاية، باعتبار أن جبهة التحرير رفضت تزكية زروال وتركت الخيار للمناضلين في القواعد للانتخاب على من يشاءون. وفي عرف السياسة، يعد هكذا موقف رفضا ''غير صريح'' لزروال ودعوة مبطنة لعدم الانتخاب عليه، رغم أن قيادات في الحزب، على رأسها عبد الرحمان بلعياط تمردوا على موقف القيادة السياسية ودعوا إلى الانتخاب على اليامين زروال. من جهة أخرى، أعلن كل من الراحل محفوظ نحناح ترشحه لمنافسة زروال، وكذلك سعيد سعدي ونور الدين بوكروح. بالنسبة للشيخ نحناح، كانت الفرصة مواتية لتحقيق عدة أهداف جملة واحدة، على رأسها التقارب أكثر مع السلطة للاستفادة من دعمها لصالح حركته التي أصبحت تمثل بديلا عن جبهة الإنقاذ المحلة، أو هذا ما تمناه الشيخ الراحل والجهات التي تدعمه في السلطة، وبالفعل فقد استفاد مرشح ''حماس'' من دعم قواعد عريضة من أنصار'' الفيس''، حيث حصد أكثر من ثلاثة ملايين صوت، تمثل أفضل نتيجة لمرشح إسلامي في الرئاسيات لحد الآن، كما أصبحت ''حماس'' في تشريعيات 97 القوة البرلمانية الثانية، حيث تفوقت على جبهة التحرير ب 69 صوتا مقابل 64 للأفلان• أما ترشح سعدي زعيم الأرسيدي فكان منتظرا بعد إعلان الأفافاس مقاطعة الانتخابات، حيث يفيد سعدي بكسر مقاطعة القبائل ويستفيد من دعم إضافي من السلطة التي كانت فعلا بحاجة إلى ممثل قوي بمنطقة القبائل• ولربما شارك بوكروح برهان شخصي، وجد دعما وتفهما من قبل بعض الفاعلين حيث خاض غمار الانتخابات دون رهان حقيقي، وجاء في المرتبة الأخيرة، طبيعيا• انتهت الانتخابات بتتويج الجنرال زروال رئيسا للجمهورية، وكان تنظيم الانتخابات في حد ذاتها نجاح للسلطة وانتصار للدولة التي كان خطر الانهيار يتهددها في الداخل والحصار ضدها يتزايد في الخارج، خاصة بعد أن وقفت الأحزاب الفائزة بتشريعيات 1991 الملغاة كلها ضد الانتخابات، ومعها في الموقف نفسه الشيخ عبد الله جاب الله الذي قيل إنه أفتى بحرمة الانتخاب• 1999 السلم للداخل.. والنزاهة للخارج شكل قرار اليامين زروال تقليص عهدته الرئاسية سابقة في تاريخ الحكم في الجزائر، وإن وقع الأمر مفاجئا على عموم الجزائريين وبعض السياسيين والمثقفين، إلا أن العارفين بطبيعة العلاقات بين ''صناع القرار'' أدركوا أن حجم الخلاف بين الرئيس وضباط كبار في الجيش لن يحسم إلا برحيل الأول، وهو في الأصل ضابط كبير أيضا. رحل زروال في منتصف الطريق الذي سلكته السلطات نحو التوصل إلى اتفاق مع المسلحين يقضي بتسليم السلاح والنزول من الجبل مقابل ضمانات عفو لم تعط بشأنها تفصيلات كبيرة. في مقابل، استمرار موجات العنف وبروز تنظيمات إرهابية عن التنظيم الأم ''الجيا''، مما أدخل العمل المسلح في عدة متاهات. وقد صادف حكم الرئيس زروال أزمة اقتصادية عاصفة زادتها شدة شروط المؤسسات النقدية المالية التي أرغمت الجزائر على إعادة جدولة ديونها مرة ثالثة، مما كان وطأه كبيرا على الدولة التي تضررت مداخيلها بانخفاض أسعار النفط. رحل زروال في هذه الظروف الصعبة، ووجدت جماعة الحكم نفسها بوجه تحد من نوع خاص، يتمثل في ضمان الاستمرارية ل''الخطوط العامة'' للاتفاق المبرم مع قيادة الجيش الإسلامي للإنقاذ بعنوان ''الهدنة من طرف واحد''، بالإضافة إلى البحث عن الوصفة السحرية التي تخرج البلاد من أزمتها الاقتصادية الخانقة، وتفك عنها الحصار الدولي غير المعلن.. وعاد اسم وزير خارجية نظام بومدين مرة أخرى، لقد بدا عبد العزيز بوتفليقة في وضع مثالي لاستلام مقاليد الحكم: فهو مجاهد من الرعيل الأول، وطني خالص، لا علاقة له بالأزمة، بالإضافة إلى ماضيه الدبلوماسي اللامع الذي بإمكانه ''فك الحصار وإعادة الإعمار''، وغيرها من ''الآمال'' التي تفجرت في نفوس أغلبية الجزائريين. ب ''إقناع بوتفليقة في الترشح'' و''إقناع الجهات التي كانت تتحفظ بشأنه''، حلت المشكلة الكبرى في إيجاد الرجل المناسب في هذه التوقيت الصعب، لكن رهانات أخرى، كانت بالانتظار أولها إقناع الدول الكبرى بنزاهة العملية الانتخابية، خاصة بعد التشكيك في ''تزكية العسكر لبوتفليقة''. وبالفعل، أديرت العملية بإحكام تام، وجرت انتخابات خلافة زروال ب''وضوح''، خاصة بعد أن استجاب زروال لمطلب المرشحين بإبعاد أويحيى من رئاسة الحكومة والوزراء الثلاثة المكلفين بإدارة العملية الانتخابية وهم وزراء العدل والداخلية والإعلام، حيث جرى تعيين إسماعيل حمداني في رئاسة الحكومة وعبد المالك سلال على رأس الداخلية. رهان النظام تحقق من خلال نوعية الترشيحات التي تلقاها المجلس الدستوري، حيث شارك في منافسة بوتفليقة كل من طالب الإبراهيمي ومولود حمروش وآيت أحمد ومقداد سيفي وعبد الله جاب الله والعقيد يوسف الخطيب. وقد شهد الجزائريون حملة ساخنة، اكتشف فيها الجيل الجديد شخصية عبد العزيز بوتفليقة الذي غاب عن الأنظار منذ وفاة بومدين، لقد رأوا فيه أملا لحاكم جديد: مثقف، خطيب من الطراز العالي، ذكي إلى درجة الدهاء، وفوق كل ذلك، يتمتع صاحب العينين الزرقاوتين بدبلوماسية ''راقية جدا'' تعود بالجزائريين إلى ''عهد العزة والكرامة''.. وبالفعل كان شعار بوتفليقة العائد إلى الحكم هكذا.. ''من أجل جزائر العزة والكرامة''.. لأنه كان يدرك حاجة الجزائريين إلى استعادة عزتهم وكرامتهم التي تضررت في الداخل بفعل الإرهاب المسلح والإرهاب الإداري وتضررت في الخارج بفعل السمعة السيئة التي أصبح العالم يحتفظ بها عن الجزائري. ورغم أن منافسي بوتفليقة الخمسة، (وقد سماهم بنفسه فرسانا) انسحبوا عشية الاقتراع لإفساد العرس على بوتفليقة.. والنظام برمته، إلا أن أغلبية الجزائريين لم يلتفتوا لذلك، بعد الذي رأوه من ''شخصية'' عبد العزيز بوتفليقة طيلة أيام الحملة. لقد كان أملهم في استعادة العزة والكرامة أكبر من أية طبخة سياسية.. ولو كان الطباخ زعيما تاريخيا كبيرا اسمه حسين آيت أحمد. نعم، لقد كانت شخصية بوتفليقة والوعود التي قدمها حاسمة في الانتخابات الرئاسية 16 نوفمبر ,1999 وبهذا حقق ''النظام'' أهم رهاناته وزاد عليها بمشهد تسليم المهام بين جنرال يغادر ورئيس مدني يستلم السلطة في دولة.. يمثل فيها الجيش أساس نظام الحكم. 2004 سلامة ''الديمقراطية''.. والتمسك ببوتفليقة كانت السنوات الخمسة التي قضاها بوتفليقة في الحكم إلى غاية 2004 ملأى بالمفاجآت والتغيرات، بعد أن أبان الرجل عن فلسفته في الحكم منذ اليوم الأول له بقصر المرادية حين قوله: ''لن أقبل أن أكون ثلاثة أرباع رئيس''.. أو قوله ''سأعود إلى بيتي وللكعبة رب يحميها''. عند نهاية العهدة الأولى وبداية الحديث عن رئاسيات جديدة أو.. عهدة ثانية لبوتفليقة، تأكدت جماعة الصف الأول من رجال السياسة و''الدولة'' أن بوتفليقة سيخلف نفسه لامحالة وأن الرجل ماض لبسط سيطرته على كل مستويات الحكم• أما السياسيون ''الأكثر ذكاء''، فتأكدوا أن ''توافقا متينا'' تم بين بوتفليقة ومجموعة من الضباط الكبار، يقضي بالذهاب إلى إصلاحات سياسية وهيكلية عميقة على كل المستويات دون المساس ب ''التوازنات''• على رأس هؤلاء ''الأذكياء'' يأتي اسم رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، (الذي مايزال يحتفظ بطموحه في الرئاسة حتى اليوم)، والذي خرج عشية الرئاسيات بتصريح قال فيه إن المؤسسة ''قد اختارت مرشحا ولن أنافسه''. على خلاف حمروش، ظل الدكتور الإبراهيمي يعتقد أن اللعبة ماتزال مفتوحة وأنه بالإمكان إزاحة رئيس من كرسيه، ولذلك لم يتأخر في إعلان رغبته في منافسة بوتفليقة، وكذلك فعل سعدي وجاب الله ولويزة حنون، وإن بأهداف أخرى. أما اللاعب الأكثر جدلا في رئاسيات 8 أفريل ,2004 فكان رئيس حكومة بوتفليقة مدة 33 شهرا وأمين عام جبهة التحرير، علي بن فليس، الذي قرع طبول الحرب على بوتفليقة قبل الانتخابات بأكثر من عام، بالضبط منذ مؤتمر الحزب في مارس .2003 لقد كان مشهد علي بن فليس وهو يرافع لشخصه ضد الرئيس الحاكم مغريا لكثير من ''الجهات'' و''المواقع'' لتعتقد أن البلد مقبل فعلا على استحقاق رئاسي مفتوح على كل الاحتمالات، خاصة مع ما أعلن من موقف بالحياد من طرف المؤسسة العسكرية التي أشيع أن الرجل الأول بها الفريق العماري يقف على خصومة مع الرئيس بوتفليقة، الذي هو وزير الدفاع في الوقت نفسه. لقد كان رهان الرئيس بوتفليقة - في طريقه إلى العهدة الثانية- هو تحقيق تزكية شعبية كاسحة تمكنه من الذهاب بإصلاحاته وبرامجه التنموية إلى أبعد مدى. وقد ساهم خطاب المترشح علي بن فليس، في الواقع، في تعزيز الالتفاف الشعبي حول ''الرئيس المترشح '' باعتبار أن الخطاب الذي رفعه الأخير يتركز على تعزيز المصالحة والسلم المدني. في مقابل بروز صورة عن المترشح علي بن فليس بأنه يرفض هذا الخيار وأنه أقرب إلى سياسة الكل الأمني، خاصة بعد أن وجد نفسه ''محاطا'' بأكبر رؤوس الاستئصال. لقد ساهمت ثنائية بوتفليقة - بن فليس في إشاعة أجواء انتخابية محمومة ومثيرة، اقتربت أحيانا من أشكال المنافسة في الديمقراطيات التقليدية وأبعدها مقربون من بن فليس عن الأخلاقيات السياسية، في أحيان أخرى، لكنها في النهاية ساهمت في تحقيق أهم الرهانات التي جرت فيها الانتخابات الرئاسية وهي الإيحاء بتقدم الديمقراطية في الجزائر وبتمسك الشعب بالرئيس بوتفليقة لمواصلة برنامجه. 2009 المشاركة.. أما رئاسيات اليوم الخميس 9 أفريل ,2009 فإن الرهان يبدو مغايرا تماما للرهانات السابقة، فالخارج لم تعد تهمه الحدود التي تفصل بين الجيش والعملية السياسية ولا معدلات التنمية ولا حتى حقوق الإنسان، إنما الحاسم في استحقاق اليوم هو إلى أي مدى سيخرج المنتصر قويا، هل ستكون شرعيته الشعبية كاملة تمكنه من أن ''يحمر عينيه في أي وقت يشاء''، أم أنه سيجد نفسه بحاجة إلى محطات إضافية يستكمل بها شرعيته المنقوصة هذا الخميس،، وهذا أشد ما يخشاه.. الرئيس.