إنّ موضوع "الذَّوْق" هو أن تذوق حلاوة الإيمان، وينطلق الذَّوْق من قوله اللّه سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الحجرات:14، فمن خصائص القرآن الكريم أنّه لا يلامس شغاف الجِنان، ولا يحدث تأثيرًا في الوجدان، إلّا إذا كان وعاء القلب مشحونًا بذرّات الإيمان. كان الصّحابة رضي اللّه عنهم يتعلّمون الإيمان قبل القرآن، فكانوا كلّما غاصوا في أعماقه، وسبروا أغواره؛ اقتطفوا من ثماره العجيبة الّتي تعالج النّفس التّعيسة، بيد أنّ مرضى القلوب الّذين لا يستحضرون هذا الإيمان عن طريق المُجاهدة، سيظلّون محرومين من ريح جنانه، ولذّات ثماره، مهما استغرقوا في مدارسته، واعتكفوا على استخراج علومه وأحكامه، حتّى يعيشوا في أجوائه، ويتفاعلوا بأحكامه.. عندها فقط يَفتح لهم أسراره، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}. لقد جعل اللّه عزّ وجلّ لقراءة القرآن الكريم منزلة عظيمة، وبيَّن نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم فضل ذلك في أحاديثه الكريمة، فعن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ”المؤمن الّذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَة ريحُها طيِّب وطعمُها طيّب، ومثل المؤمن الّذي لا يقرأ القرآن مثل التّمرة لا ريح لها وطعمُها حُلوٌ، ومثل المنافق الّذي يقرأ القرآن مثل الرَّيْحانة ريحُها طيّب وطعمُها مُرّ، ومثل المنافق الّذي لا يقرأ القرآن مثل الحَنظلة لا ريح لها وطعمُها مُرّ” متفق عليه. لكن قد يتبادر إلى ذهن أيّ إنسان هذا السؤال: إنّي أقرأ القرآن ولا أجِد له حلاوة، ولا زِلتُ أجد في القلب قسوة وبداوة، ويعلوه ظُلمة وتحيطه غشاوة. وعلاج مشكل انعدام الرِّقة في القلب عند تلاوة القرآن الكريم يتمثّل في أن تُحاوِل أن تُخيِّم عليه بالحُزن والخوف من اللّه تعالى، ولا يستخفنك حسن الصّوت، وإنّما استَحضِر معاني الآيات في قلبك، وَابْكِ عند تلاوتها، لأنّ في كلماته رقّة وتأثيرًا عظيمًا، فكم من آية تتحدّث عن العذاب، وكم من آية تتوعّد العُصاة بشديد العِقاب، وكم من آية تتحدّث عن جلال اللّه، وكم من آية سَبِحَت بك في مَلكوت السّماوات والأرض، وبيّنَت أن ربّك وَسِعَ كُرسيُّه السّماوات والأرض. واستَحْضِر بقَلبك مصيرك، وتدبّر ما في الآيات من عبرة؛ لتسيل من عينيك العبرة، فتحطّم صخورًا قد علت فوق قلبك، فحجبت عنه نور ربّك، ولنا في سلفنا أسوة. فعن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصّدّيق رضي اللّه عنه فجعلوا يقرأون القرآن ويَبكون. فقال أبو بكر: هكذا كُنّا حتّى قَسَت القلوب. وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه صلّى بالنّاس ذات ليلة فقرأ سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، فلمّا بلغ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} خنقته العبرة، فلم يستطع أن ينفذها، فرجع حتّى إذا بلغها خنقته العبرة فلم يستطع أن ينفذها فقرأ سورة غيرها. وكن مع الآيات متفاعلًا، فمع آيات العذاب خوفًا، ومع آيات الرّحمة طَلبًا ورجاء، فعن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه: ”أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا مرّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية فيها عذاب تعوّذ”. واعْلَم أنّ البُكاء من شيم الأنبياء والصّالحين ولاسيما عند تلاوة كلام ربّ العالمين، قال اللّه تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} الإسراء:107، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} مريم:58. يقول الإمام الآجري في ”أخلاق حملة القرآن”: ”لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكّر؛ فإنّه هو الّذي يورث المحبّة والشّوق، والخوف والرّجاء، والإنابة والتوكّل، والرِّضا والتّفويض، والشّكر والصّبر، وسائر الأحوال الّتي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن الصّفات والأفعال المذمومة الّتي بها فساد القلب وهلاكه، فلو علم النّاس ما في قراءة القرآن بالتدبّر لاشتغلوا بها عن كلّ ما سواها، فإذا قرأ بالتفكّر حتّى مرّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، كرّرها ولو مائة مرّة، ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكّر وتفهّم، خير من قراءة ختمة بغير تدبّر وتفهّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن”.