قبل يومين، وخلال جولة كنت أقوم بها في إحدى الدول العربية، دخلت إحدى المكتبات أتطلع إلى الجديد في عالم الأسفار، فإذا بعيني تلمح عنوانا غير نمطي جذب انتباهي من بعيد، إنه.. “فلسفة أنثى”، ولكن وبمجرد ما امتدت يدي إلى الرف لجلب الكتاب وجدت إلى جانبه كتابا آخر ل«ستيف هارفي” تحت عنوان “تصرفي كسيدة وفكري كرجل”. وبسرعة قصوى انعكست المفارقة في ذهني بين العنوانين، أولهما يريد من المرأة أن تكون القلب النابض للمجتمع وضميره الحي، من خلال البحث في فلسفة العلم والحياة، والكشف عن القيم الأنثوية الإيجابية، من خلال المقاربات النسائية لمختلف القضايا والظواهر. وثانيهما يريد من المرأة استيعاب طريقة ونظام تفكير الرجل وتبني معاييره ورؤاه كي تنجح في العمل والبيت وفي الحياة، انطلاقا من نقطة جوهرية تربط العقل بالرجل والمرأة بالعاطفة. وبما أن العلم نجيب العقل كما يقال، فإن هذه السلطة الذكورية المعرفية المفعمة بروح غزو الطبيعة والعالم والشعوب تطمع لأن تضم بهذا الأسلوب الناعم نساء العصر إلى مستعمراتها كي تسير الحياة وفقا لمصفوفاتها. ولكن هذه الرؤية التي صاغتها فلسفة أرسطو وأفلاطون من سيادة وعلو الذكورية وانفرادها بالفعل الحضاري، لم تعد شرطا ملازما للإنسانية، منذ أن بدأت مجموعة من النساء العالمات والأكاديميات يطرحن مشكلات العلم والمرأة، من خلال مقاربات مختلفة في منهجيتها عن تلك التي لازمت موجة النسوية الأولى والثانية، وكذا فلسفة النظام المعرفي النيوتوني، وهي المرحلة التي أطلق عليها البعض مرحلة “طرح إشكالية المرأة في العلم”، والتي تبلورت بجهد النساء الباحثات في المجالات المعرفية المختلفة ليبدأ مع أوائل الثمانينيات الحديث عن إشكالية العلم في الفكر النسوي. بعدما تطرقن لمضامين النظريات والعلاقات بين العلماء وبينهن، وبين مؤسساتهن العلمية ومشاعرهن وأحاسيسهن إبان ممارستهن للبحث العلمي، من منطلق رؤيتهن القائمة على ضرورة عدم الفصل بين الباحث والموضوع، والتأكيد على أهمية وعي الباحث وموقفه من الواقع الذي تتم دراسته، والتفاعل والتلاحم بين الباحث والقضية محل البحث، شرعت النساء الأكاديميات في الكشف عن دخائل البحث العلمي، ومن ثم انتهين إلى رؤية نقدية لفلسفة العلم المطروحة وضرورة تغييرها، الأمر الذي يؤكد على أهمية خبرة المرأة كمصدر للمعرفة التي ظلت لفترة طويلة انعكاسا لخبرة الرجال ورؤيتهم، فالمعرفة تتحدد طبيعتها وفقا للخبرة الاجتماعية، لمن يصوغها وبالتالي فإن الخبرة النسوية المعاشة هي مصدر رئيسي للمعرفة. فعلى مدار التاريخ صاغ الرجل معاييره العلمية القائمة على خبرته، وعممها على كل المجالات المعرفية، ومن بينها تلك الخاصة بالمرأة كما يفعل اليوم ستيف هارفي الذي يطلب من المرأة أن تتجاوز طبيعتها وقيمها الأنثوية الإيجابية، وتفكر كرجل حتى يرتاح الرجال من جدل النساء، بينما المطلوب يكمن في الكشف عن الأنثوي المخفي والمحجوب وإظهاره كي يتناغم مع القيم الذكورية الإيجابية ويثريها، إنها رؤية بدأت تتبلور منذ عقدين من الزمن، حيث انطلقت الباحثات الأكاديميات في ممارسة البحث العلمي من منطلق طبيعتهن وخبرتهن الخاصة وبالتالي فلسفتهن كإناث، ومن ثم إثراء رؤية الرجل الناتجة عن طبيعته وخبرته التاريخية التراكمية بما يصلن من نتائج علمية. وكمثال على ذلك وبدلا من استجواب الطبيعة وغزوها واقتحامها كما يفعل الباحث الرجل، تنفتح الباحثة المرأة على الطبيعة وتنصت إليها بعمق، وهي فكرة مستمدة من الترميز المأخوذ من الرحم المنفتح للإخصاب، ثم يهب هذا التلقي الأنثوي العلم انفتاحا على الإنصات للطبيعة والاستجابة، فيما يشبه الحوار أو التشارك مع الطبيعة، وهي مقاربة مختلفة كما تقول ليندا جين شيفرد عن مقولة عالم الكيمياء روبرت بويل، التي يزعم فيها أنه لا يمكن أن يكون ثمة انتصار ذكوري أعظم من أن معرفة سبل أسر الطبيعة وجعلها تفيد أغراضنا. وفي ظل هذه المعطيات ظهرت فلسفة العلم النسوية كاتجاه جديد في فلسفة العلوم، وبرزت كنقد ورفض لمركزية النموذج الذكوري للإنسان، ومركزية العقل الذكوري الذي تتبلور من خلاله القيم الذكورية السائدة والمهيمنة على الحضارة التي أنتجت قهر المرأة والطبيعة وشعوبا وثقافات، لتقول بأن الرجل ليس هو الإنسان، وترفض اعتبار التفسير الذكوري المطروح هو التفسير الوحيد للعلم فالذكورة والأنوثة أساسيان معا للوجود البشري. وعندما يصبح العلم مجالا لهذا التمازج بين الصفات الإنسانية الإيجابية الذكورية والأنثوية ستؤدي نتائجه إلى حصائل أكثر سخاء وتوازنا وأقل أضرارا، من قبيل تدمير البيئة وتصنيع أسلحة الدمار الشامل واتخاذها أداة لقهر الشعوب المستضعفة وثقافاتها. وفي هذا السياق يصبح اكتشاف الأنثوية كجانب جوهري للعلم والثقافة يقوم بدور أساسي في صياغة قيم العلم وأهدافه ومناهجه وشرائع ممارسة البحث العلمي وهي نظرة من شأنها أن ترسي أسسا فلسفية للبيئة وأخلاقيات جديدة للعلم، تجعله أكثر إبداعية وقدرة على تحقيق الأهداف المجمع عليها وقدرة على تحمل المزيد من المسؤولية الاجتماعية، وحينها سيتورع ستيفي من أن يطلب من المرأة أن تفكر مثل الرجل. أنشر على