سيبقى تاريخ 08 جويلية 2014، راسخا في أذهان البرازيليين إلى الأبد، لأنهم عاشوا ليلة سوداء، بأتم معنى الكلمة، بعد الهزيمة التاريخية التي مني بها منتخب بلادهم أمام ألمانيا، وبأي نتيجة، سباعية كاملة، كانت كافية لقلب المدن البرازيلية رأسا على عقب، فالنتيجة المذلة ل"سيليساو" أبكت أكثر من 200 مليون برازيلي وبرازيلية.. إنها حقا هنا "الكارثة". لم نكن نتصور إطلاقا أن تفعل الساحرة المستديرة، كل ما فعلته بالشعب البرازيلي، في ليلة واحدة وأي ليلة، ليلة تاريخية بكى خلالها الشعب البرازيلي، بحرقة، بعد أن شاهد بأم أعينه “الماكينة” الألمانية تعبث برفاق دافيد لويز، الذين انهاروا في ظرف قياسي، وهو الانهيار الذي لم يكن في الحسبان حتى بالنسبة ل”الألمان” الذين لم يتصورا إطلاقا أنهم سيبكون شعبا يحب كرة القدم إلى حد النخاع، لكن الكرة، ليلة الثلاثاء، أدارت ظهرها للبرازيليين الذين تألموا كثيرا وأصبحوا “مسخرة” للجميع، وهو ما شعر به كل برازيلي وبرازيلية، بعد نهاية المقابلة التي وضع خلالها رفاق كلوزه، حدا لحلم شعب انتظر لمدة 64 سنة كاملة، إلا أن الحلم تحوّل إلى كابوس. أجواء جنائزية بكل ما تحمله الكلمة من معنى عاشتها المدن البرازيلية، أول أمس، فلم تمر إلا 30 دقيقة عن انتهاء المباراة التي احتضنها ملعب مدينة بيلو أوريزانتي، حتى بدأ البرازيليون يذرفون الدموع، لما شاهدوه من إهانة كروية، ستبقى وصمة عار لتشكيلة المدرب لويز فيليبي سكولاري ولجيل كامل، علقت عليه الآمال، لكن كل شيء تلاشى أمام تشكيلة ألمانية شعارها “أولاش السماح أولاش”. أجواء جنائزية.. ودموع بيلو أورزانتي، ريو ودي جانيرو، برازيليا، بورتو اليغري وساو باولو.. كلها مدن عاشت لحظات حداد حقيقي، بعد الهزيمة التاريخية للمنتخب البرازيلي، فالكل هنا في البرازيل صرخ واندهش أثناء اللقاء، ثم في الأخير ذرف دموع الحسرة، ليس بسبب نهاية مغامرة المنتخب في هذا المونديال الذي نظموه بإحكام، لكن بسبب الطريقة “المخزية” التي خرج بها منتخبهم، فالعرس الكروي في شوارع ساو باولو تحوّل إلى مأتم والكل ساخط على المدرب سكولاري الذي تحوّل في 30 دقيقة فقط من بطل إلى “خائن”، وهو ما أكده ل”الخبر” رافييل، الذي التقينا به في شارع باوليستا المتواجد في قلب ساو باولو، قائلا “ما فعله سكولاري بنا سيبقى في التاريخ، فالسلطات المحلية عليها محاسبته، لأنه وسّخ جيلا بأكمله، فالهزيمة أمر عادي في كرة القدم، لكن أن ننهزم بسباعية في ميداننا، فهذا أمر لا يصدق”، مضيفا “ماذا عساني أقول، فالألمان ألصقوا العار بالبرازيليين”. صديقة رافييل، التي كانت تذرف الدموع في مقهى يطل على الطريق العمومي، صاحت في وجهنا بطريقة غريبة، بعد أن عرفت أننا من الصحافة، قائلة “لديكم ما تكتبون الآن، فيحق لكم كتابة ما تريدون، فالعار سيلاحقنا مهما طال الزمن”. تعزيزات أمنية مكثفة ومظاهرات وحالة استنفار قصوى ونحن نتحدث إلى رافييل وصديقته، شاهدنا سيارات الشرطة بمنبهاتها وبأعداد كبيرة، مسرعة باتجاه الشارع المقابل لباوليستا، وهو ريبوبليكا، وهو مشهد تكرر مرارا في ظرف دقائق معدودات، ليفسر لنا رافييل الأمر بالقول “اليوم الشرطة سيكون عملها مكثفا للغاية، فهناك مراهقين أضرموا النار في العجلات تعبيرا عن سخطهم للهزيمة المخزية للمنتخب”، مضيفا “المظاهرات ستعود حتما هذه الساعات، فالنتائج الايجابية للمنتخب هي التي هدأت من الوضع. لكن الآن بعد هذه الهزيمة، فالجميع سيخرج إلى الشارع وهذه المرة سنطالب بمحو تاريخ 08 جويلية من الأجندة الزمنية.” ولم يكمل رافييل حديثه معنا، حتى شاهدنا أعدادا كبيرة من الشباب البرازيلي، يرشقون عناصر الأمن بالحجارة ليختلط الحابل بالنابل، في سيناريو “القط والفأر”، بين الأمن المدجج بوسائل مكافحة الشغب، وشباب مراهق لا يتعدى معدل عمرهم ال25 سنة، يعبّرون عن سخطهم بطريقة غريبة، لأنهم تهجموا على عناصر الأمن بطريقة عفوية وكأنهم كانوا ينتظرون إشارة فقط من الألمان ليجددوا مشاهد المظاهرات التي غابت في الأيام القليلة عن الواجهة البرازيلية. الملفت للانتباه ونحن نتجول في شوارع ساو باولو، لاحظنا جميع المحلات أغلقت بطريقة فجائية وسريعة، لنشعر وكأن مدينة ساو باولو دخلت حقا حالة من الاستنفار القصوى، وهو ما يفسر تكثيف عناصر الأمن لتواجدها في الأحياء والشوارع الرئيسية.. فالشرطة في ظرف زمني قياسي أصبحت في كل مكان، وكأن الأمر كان مدبرا من قبل، ما جعلنا نعيش حالة من الترقب والخوف وكأن إعصار “تسونامي” سيجرف هذه المدينة التي تحوّلت إلى مدينة رعب، بسبب ماذا؟.. بسبب رياضة اسمها “كرة القدم التي يا ليتني لم أعرفها من قبل”، على حد تعبير أليساندرو، صاحب مقهى في شارع أوغوستا، وهو من الشوارع التي عاشت الأفراح قبل اليوم الموعود، لتعيش بعد مباراة الألمان الأحزان.. وأي أحزان “فالألمان لطخوا سمعتنا وأصبحنا الآن محل سخرية الجميع، بمن فيهم الأرجنتينيين”، على حد تعبير أليساندرو الذي بدا تائها عند حديثه عن المقابلة “المشؤومة”، قائلا “الحلم الذي دام 64 سنة كاملة، أصبح كابوسا، فهل يعقل أن ننهزم بسباعية بسبب غياب نيمار أو تياغو سيلفا؟ فهذا أمر جنوني بأتم معنى الكلمة، وهذا يعني حسب اعتقادي أن سكولاري لم يفكر في الأمر من قبل، أو أنه انشغل بأموره العائلية على حساب أمر يهم كل الشعب البرازيلي.” “نملك نجوما.. لكن لا نملك قلوب الجزائريين” أليساندرو، ليس الوحيد الذي حمّل المدرب سكولاري المسؤولية، فتقريبا كل من التقينا بهم وجهوا انتقادات لاذعة للمدرب، إلى درجة أن أحدهم قال لنا مازحا عندما علم بأننا من الجزائر “لو كنا نعلم أننا سننهزم بهذه الطريقة، لاستعنا بحنكة مدربكم الذي تمكن من انتهاج خطة محكمة، دفعت الألمان إلى الذهاب إلى الوقت الإضافي، حتى أنكم انهزمتم بصعوبة كبيرة بعد أن تعب جل لاعبيكم في الدقائق الأخيرة من الوقت الإضافي.” وذهب جيلبيرتو صاحب مطعم في شارع لوز، بساو باولو، أبعد من ذلك حينما قال “صحيح أننا نملك نجوما يلعبون في أقوى الأندية الأوروبية، لكننا لا نملك مكافحين فوق الميدان، مثلكم، فالمنتخب الجزائري لا يملك لاعبين كبارا، لكن الجميع عندكم يملك القلب، وهو الأمر الذي ينقص التشكيلة البرازيلية، فالمنطق الكروي يفرض على الجميع تقبل الفوز أو الهزيمة. لكن ما لا يتقبله العقل، هو الانهزام بهذه الطريقة، فتصوروا أن المنتخب الألماني كان بإمكانه إنهاء المقابلة بأكثر من عشرة أهداف”. الأرجنتينيون يعمّقون الجرح وما زاد من “قنطة” البرازيليين، هي أهازيج أنصار المنتخب الأرجنتيني الذين استغلوا الظرف القاسي الذي يمر به نظراؤهم، ليقيموا الأفراح، إلى درجة أجبرت في شارع ريبوبليكا عناصر الأمن على التدخل لتهدئة الأمور ومطالبتهم بالكف عن الأهازيج، حفاظا على الأمن وحفاظا أيضا على أرواحهم، خاصة وأن بعض المراهقين البرازيليين رشقوهم بالحجارة وكادت الأمور تعرف منحنى آخر، لولا التزام أنصار “التانغو” بعد تدخل الأمن، الصمت والهدوء. صحيح أن الحساسية موجودة بين أنصار المنتخب البرازيلي والأرجنتيني، لكن لفت انتباهنا أحد البرازيليين، الذي قام بحمل العلم الأرجنتيني، مرددا “اليوم سأصبح أرجنتينيا وسأناصر رفاق ميسي، حتى نثأر من الأوروبيين جميعا”، قبل أن يضيف “علينا التوحد، لأننا من قارة واحدة، وسنقهر الأوروبيين في ماراكانا”. كرة القدم.. أفيون الشعب البرازيلي ومهما حاولنا وصف ما عاشه البرازيليون، وخاصة البرازيليات الحسناوات اللاتي ذرفن أنهارا من الدموع، فإن تاريخ 08 جويلية 2014 لن يبقى راسخا فقط في أذهانهم، بل سيبقى راسخا أيضا في أذهاننا، لأننا تيقنا أن كرة القدم بالنسبة لشعب “بلد السامبا” هو حقا مخدر يتعدى مفعول الأفيون. فبقدر الأجواء الرائعة التي عشناها بعد تأهل منتخبهم إلى الدور نصف النهائي، عشنا أيضا أجواء جنائزية حادة، تخيل لنا أن الشعب البرازيلي من أطفال ورجال ونساء ومن مختلف الأعمار (صدقوني أن عجوزا عمرها قد يتعدى ال80 سنة، شاهدناها تبكي كالطفلة الصغيرة التي تصيح من شدة الجوع)، يعيشون من أجل كرة القدم، فلا ديانة لهم إلا كرة القدم ولا حديث بينهم إلا كرة القدم ولا ينهضون ولا ينامون إلا وكرة القدم بين أحضانهم. لكن مهما كانت درجة تعلقهم بهذه الرياضة، فإنهم تمكنوا حقا من بناء بلدهم، ويستحقون فعلا الدخول في زمرة البلدان المتقدمة.