إنّ القصص القرآني أروع القصص بإطلاق، إذ هو أحسن القصص بيانًا بليغًا وحكمة بالغة، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ}، والمقصود الأعظم منه هو الاهتداء لخير السُّبل وأفضل الأخلاق بالاعتبار بخير قصص وأفضل مثال، إعمالاً للعقل بالتدبُّر واستنباطًا للحكم والفوائد بالتفكّر: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، وكم من العبر العظيمة والحكم الجليلة في اللفظة الواحدة من القرآن العظيم بله القصة الكاملة منه، بل ربّما يكون في الكلمة منه حِكمًا ومعاني أكثر من عدد حروفها، وللّه الحكمة البالغة. من روائع القصص القرآني الّتي تشدّ قارئها شدًّا، وتأخذ بلبّه وقلبه أخذا: قصة سيدنا موسى والخضر، هذه القصّة الجليلة الجميلة الّتي حيّرت العلماء وأبهرت العقلاء بأحداثها العجيبة ووقائعها الفريدة وحِكمها الباهرة؟ ولا تزال مَعينًا صافيًا للمتدبّرين، ونبعًا ثرًّا للمتفكّرين، ومنارة سامية للمتعلمين. ولستُ بصدد تفسير الآيات الّتي حوتها فدون ذلك التفاسير الكثيرة لعلمائنا الأبرار، وإنّما قصدي التّنبيه على بعض فوائدها الّتي قد يغفل عنها ولا ينتبه لها. فأمام روعة القصّة وعجيب أحداثها قد لا ننتبه إلى آداب العالم والمتعلّم الّتي احتوتها وأفادتها، ولكنّ علماءنا تدبّروا وتفكّروا واستنبطوا منها جليل الآداب ودقيقها، وجميل الحكم ورائعها. فهذا الإمام الرّازي يستنبط من آية واحدة في نصف سطر اثني عشرة فائدة، قال في تفسير قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}: اعلم أنّ هذه الآيات تدلّ على أنّ موسى عليه السّلام راعى أنواعًا كثيرة من الأدب واللّطف عندما أراد أن يتعلّم من الخضر. فأحدها: أنّه جعل نفسه تابعًا له لأنّه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ}. وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التّبعية؛ فإنّه قال: هل تأذَن لي أن أجعل نفسي تابعًا لك وهذا مبالغة عظيمة في التّواضع. وثالثها: أنّه قال على أن: {تُعَلِّمني} وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم. ورابعها: أنّه قال: {مِمَّا عُلّمْتَ} وصيغة من للتّبعيض؛ فطلب منه تعليم بعض ما علّمه اللّه، وهذا أيضًا مشعر بالتّواضع كأنّه يقول: له لا أطلب منك أن تجعلني مساويًا في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءا من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله. وخامسها: أنّ قوله: {مِمَّا عُلّمْتَ} اعتراف بأنّ اللّه علّمه ذلك العلم. وسادسها: أنّ قوله: {رَشَدًا} طلب منه للإرشاد والهداية، والإرشاد هو الأمر الّذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضّلال. وسابعها: أنّ قوله: {تُعَلّمَنِي مِمَّا عُلّمْتَ} معناه أنّه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله اللّه به، وفيه إشعار بأنّه يكون إنعامك عليّ عند هذا التّعليم شبيهًا بإنعام اللّه تعالى عليك في هذا التّعليم؛ ولهذا المعنى قيل: أنا عبد مَن تعلّمتُ منه حرفًا. وثامنها: أنّ المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير.. فنقول قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} يدلّ على أنّه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها. وهذا يدلّ على أنّ المتعلّم يجب عليه في أوّل الأمر التّسليم وترك المنازعة والاعتراض. وتاسعها: أنّ قوله: {اتَّبِعُكَ} يدلّ على طلب متابعته مطلقًا في جميع الأمور غير مقيّد بشيء دون شيء. وعاشرها: أنّه ثبت بالإخبار أنّ الخضر عرف أوّلاً أنّه نبي بني إسرائيل وأنّه هو موسى صاحب التّوراة، وهو الرّجل الّذي كلّمه اللّه عزّ وجلّ من غير واسطة وخصّه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثمّ إنّه عليه السّلام مع هذه المناصب الرّفيعة والدرجات العالية الشّريفة أتَى بهذه الأنواع الكثيرة من التّواضع؛ وذلك يدلّ على كونه عليه السّلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به؛ لأنّ كل مَن كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسّعادة أكثر فكان طلبه لها أشدّ وكان تعظيمه لأرباب العِلم أكمل وأشدّ. والحادي عشر: أنّه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَنْ تُعَلِّمَنِي} فأثبت كونه تابعًا له أوّلاً ثمّ طلب ثانيًا أن يعلّمه، وهذا منه ابتداء بالخدمة ثمّ في المرتبة الثانية طلب منه التّعليم. والثاني عشر: أنّه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِي}، فلم يطلب على تلك المتابعة على التّعليم شيئًا كأنّه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلاّ طلب العلم. فهذا نموذج لما ذكره علماؤنا وسيأتي باقي الحكم والفوائد.