سأرفع الغطاء في هذه المساهمة عن أسرار التاريخ الخفي للمحنة الجزائرية المزمنة، أو بتعبير أكثر دقة أرفع الستار عن حقائق قد تصدم بعض القراء، وتثير لديهم شعورا بالحيرة والذهول، لأنها ستزيح النقاب الكثيف الذي تقبع وراءه فرنسا التاريخية، التي تحاول أن تسترجع الفردوس المفقود انطلاقا من “مصلحة المشلولين” بعاصمتها. وسأوضح لشرفاء النوفمبرية الطبيعة الصحيحة للصراع الحقيقي القائم في الجزائر، والذي وإن تباينت أسبابه وأساليبه فهي تعود في الواقع إلى مصدر واحد. ذلك هو الصراع القائم بين النوفمبرية التي حددت في بيانها الانتماء الحضاري للأمة الجزائرية، وبين فرنسا التاريخية العائدة إلى الجزائر، والتي تريد أن تجعل من [الدولة الوطنية] “جملوكية” بأثر رجعي، وفعلا قد تحقق لها ذلك في انتخابات 17 أفريل 2014. وفي تقويمنا للذاكرة الوطنية التي التحمت بأكبر ملحمة تاريخية قلّ نظيرها في التاريخ الحديث والمعاصر، ويجب في هذا الشأن أن لا ننسى أو نتناسى أن هذه الذاكرة وليدة ملحمة استمرت أكثر من قرن، أي من تاريخ سقوط زمالة الأمير عبد القادر سنة 1843 إلى ثورة نوفمبر 1954، حيث كانت هذه المحطة الأخيرة تحمل في جوهرها صراعا حضاريا متأججا، خاصة كلما أمعنت فرنسا التاريخية في انتهاك المنظومة الحضارية في الهوية الوطنية ذات الأبعاد الثلاثة: اللغة والدين والتراث الوطني المشترك، فقد كانت هذه الثورة عميقة، حيث فجرت ينابيع التحرر والتطلع لاسترجاع السيادة الحضارية والأرضية معا، وكانت هذه التحولات الملحمية هي على رأس العوامل الذاتية التي صنعت الجزائر وتاريخها. ومن هذه الحيثيات التاريخية نستطيع أن نقول إن هذه الثورة لم تنطلق من فراغ تاريخي، وإنما كانت استجابة حضارية تعبّر عن حكم المقاومين في استعادة دولة قاعدتها الحضارية العربية الإسلامية، حيث كانت كل الانتفاضات التي واجهت الاحتلال تستمد شرعيتها التاريخية من حضارة عريقة تصدّت بقوة لحضارة صليبية غازية. وقد كانت الغزوة سنة 1832 كمقدمة لمشروع حضاري مسيحي مهمته الأساسية استرجاع “الرومنة” وعودة الكنيسة بأداة اللغة الفرنسية عوضا عن اللاتينية، حيث قاوم الأجداد عن أنفسهم عندئذ وكانت ملحمة أول نوفمبر امتداد طبيعيا وتسلسلا حضاريا لهؤلاء الأجداد، مع اختلاف في التخطيط والوسائل والإستراتيجية التي فرضها العصر، لأن احتلال الجزائر 1832 جاء تنفيذا لمرسوم يقتضي إعادة الشمال الإفريقي لاتينيا كما كانت قبل الإسلام بروح صليبية حاقدة، وهذا ما تؤكده كل النصوص التي كتبها الفرنسيون، والتي تعكس الروح الصليبية الحاقدة وتصرفاتهم كانت توحي بذلك كتحويل المساجد إلى كنائس وإقامة القدسات وصلوات الشكر، والحفر على بقايا المسيحية منذ عهد الرومان واسترجاع السيطرة المسيحية. والذين يفهمون هذه المؤشرات وملابساتها العولمية يمكن أن يعرفوا أن “جزائر العزة والكرامة؟!” تعيش الملابسات نفسها، وأن الصيرورة التاريخية للمشروع الاستدماري الصليبي الذي كان يهدف إلى تخريب الهوية الوطنية قصد الإبادة الحضارية مازال مستمرا في إنتاج صيرورة تاريخية تتولد عنها تجديد المخططات وتضمن استمرار هذا المشروع تحت يقظات أكثر تحضرا، فقد أورد “شارل روبير أجرون”، في دراسة تحليلية وموضوعية في آن واحد نشرها سنة 1992 بمناسبة الذكرى الثلاثين للجزائر المستحلة من قِبل “الأعراب والأغراب”، نصا أشبه بمرسوم للتنفيذ جاء فيه “امسحوا القشرة السطحية للإسلام فسيظهر لكم جوهر الجزائر المسحية”. إنهم عائدون بسرعة الأمواج المتوسطية، وخاصة عندما يتجاوزن التناقض الشكلي المزعوم؟ ويوحدون أمتين تلتقيان في شخصية القديس أوغسطين وحضارة روما؟! هذه هي أهداف الصراع!! وهذه هي غايته!! مسح الذاكرة!! وقتل الروح المعنوية عن طريق القمع والتجويع، ونشر الإباحية، والإمعان في التضليل وسدرة المنتهي مع سياسة كسر الطابوهات متواطئة. إنهم أضداد في المصالح لكنهم متفقون على مسح الذاكرة، وحالنا مع مسح الذاكرة جاءت في كتاب للمؤرخ “ميلان هوبل” عنوانه “الضحك والنسيان”، حيث يحب الحاكم في هذا الكتاب أن يصف شعبه بأنه متجانس وينصح بالتطور، ولكن في غياب المؤسسات الديمقراطية وإذا وجدت فهي تضليل للأمة وواجهة لتزكية الفساد، ونسي الحاكم أن التجانس لا يتحقق إلا في القبور وحدها، والجزائر أصبحت مقبرة كبيرة كتب في مدخلها بالبند العريض “من أجل جزائر قوية وآمنة”. وفي خضم هذا التضليل المبرمج والمكثف، والمصحوب بإجراءات أمنية خارجية من فرنسا التاريخية، نسينا أن الصراع هو سنة التطور، وهو القاعدة الدائمة للذاكرة الوطنية التي تتعرض للمسح والفسخ والنسخ، وهي العدو الأبدي ل«المتوسطية” المتربصة بنا الدوائر بتواطؤ الأضداد في “سدرة المنتهى”. ويسترسل المؤرخ “ميلان”، في كتابه سابق الذكر، مخاطبا الحاكم المصاب بجنون الانتقام من شعبه “إذا أردت القضاء على شعب فامسح ذاكرته”، ويضيف على لسان المؤرخ “أحرق كتبه، دمر ثقافته، وامسح تاريخه. بعد ذلك كلف أحدهم أن يؤلف كتابا جديدا وأن يخترع تاريخا عصريا.. وبعد مضي وقت طويل، فإن الشعب ينسى من هو وما كان عليه. ويصبح متجانسا”. فما أشبه حالنا بكتاب “الضحك والنسيان”، فقد مسحت ذاكرتنا بسياسة كسر طابوهات” ودمرت ثقافتنا عندما زاغت منظومتنا التربوية، ومسح تاريخنا بشعار “نحن أقرب إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط”.. إننا على شفا حفر جارف مكتوب عليه: “الضحك والنسيان”. وتقف سياسة [جزائر العزة والكرامة] كعراب ل«المتوسطية” المتصهينة، والتي ما تزال تعيد فرز قيم دخيلة على المجتمع الجزائري، لأن جزائر العزة والكرامة جاءت كحرب على ثوابت الأمة، وحربها لم تجر على أرض الواقع فقط بل كانت في الذاكرة. كانت ذاكرتنا النوفمبرية تثقب ثم تفتت مع تصاعد الشعار المزيف والمخادع “جزائر العزة والكرامة” وتحوّلها إلى حالة جزائرية عامة، حرب على الذاكرة التي تمحو الذاكرة. لم تصمد أي استحقاقات تاريخية أمام “المتوسطية” التي جعلت جزائر العزة والكرامة كحاجز مزيف لها ومخادع في آن واحد؛ وليست هذه الحيثيات إلا أمثلة لما آلت إليه الذاكرة الوطنية من تبديد وتشويه تحوّلت خلاله [الثقوب] التي أحدثتها [جزائر العزة والكرامة] إلى تمزقات واسعة سقطت منها [الجواهر] التي صنعت أكبر ملحمة نوفمبرية، فصلت فيه بين حضارتين: حضارة شمال المتوسط وجنوبه. وإلى وقت قريب كانت [الجزائر]، وبالرغم من محنتها الدموية المفروضة عليها من قِبل فرنسا التاريخية؟! لأهداف تدميرية كبرى، واحدة من أهم البلدان العربية التي اعتنت ببناء ذاكراتها، فهي البلد الوحيد الذي حافظ على ذاكرته الحضارية التي تمثل التاريخ الجمعي للشعب الجزائري على مدى العصور، حيث بقيت لنا الجزائر البربرية التي تصدّت بكل إباء وشهامة لكل الأجناس التي تريد الهيمنة ولم تستسلم لأي جنس، والجزائر العربية- الإسلامية، التي قهرت فرنسا التاريخية؟! في أشرس معركة حضارية، [وكلتا] الجزائريتين متفاعلتان مع بعضهما بعضا، ومتمة للأخرى دون أن تلغيها. وإن كنا نفتقر إلى التكنولوجيا الحديثة التي تساعدنا على حفظ الذاكرة، فضلا عن إعادة بنائها بعد كل محنة لكننا حرصنا كان دوما، وفي ظل أصعب المحن كالاحتلال والفتنة الدموية الأخيرة، على حماية الذاكرة الوطنية. وبذلك تكون “المتوسطية” بمثابة جرثومة منتشرة في الهواء الملوث الذي يحيط بالنوفمبرية، ولنكن في غاية الوضوح أن الدعوة إلى “المتوسطية” هو البحث عن وساطة ثقافية حضارية بين إسرائيل وليس أفضل من “المظلة المتوسطية” ذات الرنين والوقع الحضاري لتحقيق هذا الهدف. و«متوسطي” بدل وهمي عن حقيقة أساسية يراد إجرافها. إنها اسم مستعار يراد وضعه فوق الاسم الحقيقي المحفور في [ذاكرة الأمة] وعلى أصلب ملامح وجهها وأعمق ببطن قلبها. و[متوسطي] يريدون وضعه فوق صفة [جزائري نوفمبري] التي يعملون على مسحها بمختلف الطرق وبأكثر من وسيلة. وخرجة “جونوفياف دو فونتوني”، مديرة مسابقات الجمال بفرنسا سابقا، التي أكدت أن “الجزائر فرنسية”، ولكي لا نظلم هذه الشمطاء يجب أن نحلل خرجتها سيمولوجيا، حيث وجدت نفسها في جو فرنسي مظهرا ومكانا، والمتسابقات على العراء وعدم الحياء أوحى إليها بأن الجزائر فرنسية بمرسوم دبجت حيثياته في مصحة المشلولين التي توج إثرها الرئيس المنتحب بالجملوكية. علما أن الذاكرة الوطنية الملحمية أنجبت ملكة جمال اسمها جميلة بوحيرد، ألهمت الشعراء والأدباء والمفكرين والمؤرخين ببطولة أسطورية قلّ مثيلها في التاريخ الحديث والمعاصر. وشتان بين ملكة جمال الملحمة النوفمبرية التي قال فيها مفدي زكريا: نوفمبر غيرت مجرى الحياة وكنت نوفمبر مطلع فجر وذكرتنا بالجزائر بدرا فقمنا نضاهي صحابة بدر وبين ملكة مشأمة الجزائر الفرنسية التي كانت شؤما على صاحبها ولا يحق المكر السيئ إلا بأهله.