ملحمة نوفمبر مثقلة باستحقاقاتها البطولية والحضارية، فهل من متسول يجني ويفتخر ويفاخر بها الملاحم الأخرى؟ أليس من بين المتسولين حضاريا، والمعتوهين ثقافيا، واللقطاء تاريخيا من يقطف ثمار هذه الملحمة، ويريحها من أعباء هذه الاستحقاقات، ويريح نفسه من أمراض التبعية التي شوّهته؟ ملحمة نوفمبر ملحمة من الملاحم البطولية التي قلّ مثيلها في التاريخ الحديث والمعاصر، فهل من جبان ومهلوس من يملأ قلبه ويخفف من حملها؟ ملحمة نوفمبر طافحة من نشوة الانتصارات فهل من ظامئ يسكب ويرتوي؟ إن العزة التي منحتها ملحمة نوفمبر للأمة الجزائرية عزة أخرى، لا تستطيع ”فرنسا التاريخية” بل ولا يستطيع العالم كله أن ينال منها منالا. إنها عزة لا ينال منها سوى المرتدون حضاريا، والمتساقطون في طريق الملحمة، أو المهرولون لنيل رضا فرنسا التاريخية، أو الهاربون من المسؤوليات التاريخية الثقيلة. ها هي أمة الملحمة النوفمبرية تضلل حضاريا وتقهر فكريا، وتمنع من هويتها ويحال بينها وبين بيانها الذي خط بدماء الشهداء: ”إعادة بناء الدولة الجزائرية.. ضمن المبادئ الإسلامية”.. ويخترع لها بيان فرنكفوني متوسطي متصهين، وتدبج لها هويات، ويتسول لها ثقافات، ويخترع لها سدنة وآلهة، ولهذا تاهت وتمزقت واختنقت، وشب في قلب استحقاقاتها التاريخية الحضارية حريق، فوقعت على قارعة الطريق تبسط نحو العابرين يدا مفعمة بالانتصارات وتناديهم قائلة: ”ألا فارحموني وخذوا مني هذه الانتصارات. اشفقوا عليّ وخذوا جميع ثرواتي، أما السائرون فلا يلتفتون”. من الحقائق أن التاريخ، بقسميه العام والخاص، هو نتاج عقول أجيال متعاقبة ومتكاملة، وخلاصة بطولات ملحمية لأبناء الأمة الواحدة عبر مراحل تاريخية تزدهر حينا، وتنحدر حينا آخر، توضع تحت تصرف جيل في خدمة حاضر الأمة وبناء مستقبلها، فهو من هذه الناحية: اجتماع العقول في عقل، واختصار للأعمار في عمر، واستحضار للزمن بقرونه المتطاولة في عصر. لهذا ما لم تكن الأمة، لسبب أو لآخر مصابة بفقدان المناعة التاريخية مما يجعلها تقرأ تاريخها قراءة مغلوطة، ولا تستطيع أن تهضم ملامحها، وتفسرها تفسيرا بعيدا عن الحقائق التي صنعت تاريخ الأمة، فيزيد ذلك في ضلالها وإذلالها، وبذلك تعيش الأمة تائهة مترنحة كالشجرة التي اجتثت جذورها. وإيمانا من شرفاء الأمة ومؤرخيها النزهاء أن ثورة نوفمبر ستبقى على مرّ العصور والدهور المثل الأعلى في التضحية والجهاد في سبيل حماية هذا الوطن- الأمة من أطماع الغزاة الصليبين وتواطؤ الوجوه المستعارة. وللتذكير والتذكر، والذكرى تنفع ما تبقى من النوفمبريين الشرفاء، فإن ثورة نوفمبر في أبعادها التاريخية تحمل معان كثيرة، فهي تذكرنا كيف كانت الجزائر ”الدولة الأمة” قوية عظيمة ذات سيادة أرضية وحضارية تبسط نفوذها وهيمنتها على البحر الأبيض المتوسط طيلة ثلاثة قرون ونصف من 1525 – 1830. كما تذكرنا بما تعرضت له مآسي في مطلع القرن 19م، حيث استطاعت الدوائر الاستدمارية المتربصة بها بالتعامل والتعاون مع العملاء والخونة وعناصر من [اليهود] أن تزعزع كيان الدولة- الأمة، وتفتت قواها الداخلية وتضعفها عن طريق التغلغل في أجهزتها وإفسادها، والوصول في النهاية إلى فرض وضع معين على البلاد يتمثل في زعزعة الأمن والاستقرار وتغذية الفتن قصد تفتيت شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة الوحدة حتى يسهل الاستيلاء. وبذلك تمت تهيئة الجزائر الدولة الأمة لوضع جديد هو الاستدمار الفرنسي وزوال الدولة الجزائرية، حيث اغتصبت الأرض، وانتهكت الحرمات، واستبعد الشعب وشرد وقتل ونفي، واضطهدت اللغة العربية، واعتدي على الدين الإسلامي والمقدسات، وحولت المساجد إلى كنائس وإسطبلات لخيول الفرنسيين، وفقدت الأمة الجزائرية في ظل هذا الاستدمار كل ما تملك ولم يبق لديها سوى إيمانها بربها وحبها لوطنها. والذين يفهمون هذه المؤشرات التاريخية يمكن أن يعرفوا أن الجزائر في ظل سياسات ما بعد الإرهاب المفروض علينا جميعا من دوائر حاقدة علينا، تعيش الملابسات نفسها، وأن الصيرورة التاريخية للمشروع الاستدماري الذي كان يهدف إلى تخريب الهوية الوطنية قصد الإبادة الحضارية، مازال مستمرا في نتاج صيرورة تاريخية تتولد عنها تجديد المخططات، وتضمن استمرار هذا المشروع. فقد كانت زيارة شيراك في مطلع الألفية الثالثة بمثابة استحلال ناعم للجزائر، وما استقبال الجماهير له في باب الوادي، والأعلام الفرنسية التي كانت ترفرف على كل الشرفات، بينما كانت أعلامنا منكسة تعبر عن غضب الشهداء في هذه الزيارة، حيث تناغمت أصوات الجماهير المغلوبة على أمرها، مع هيمنة شخصية الرئيس الفرنسي، الذي جاء ليؤكد أن الجزائر مازالت فرنسية، وأن الأصوات التي هتفت بحياته تعبر تعبيرا صادقا على أن فرنسا مازالت في قلوب الوجوه المستعارة، المعلبة إلينا من مخابر أجنحة المكر العالمي المتصهينة. وإذا رجعنا إلى توزيع الهدايا، التي كان فيها شيراك يحتكم إلى الدلالات التاريخية، المؤذية لنا ولتاريخنا، حيث قدم خاتم الداي حسين إلى ”فخامته” هذا إن دل شيء إنما يدل على أن الدولة الجزائرية ستهترئ بالفساد، وإشاعة الفاحشة الحضارية، وستتولى فرنسا شؤونها، لكن هذه المرة ستدرس الخطة في (مصحة المشلولين في باريس). وإن دل ذلك فإنما يدل على أن جيل ما بعد الإرهاب وضع أصابعه العشرة في شقوق الفجوة بين الشعارات والوقائع، فسقط البريق عن (جزائر العزة والكرامة) في أوحال الذل والمهانة، وسقط البريق عن استرجاع سمعة الجزائر الدولية في أمواج المتوسطية المتصهينة، وسقط بريق استرجاع هيبة (الدولة) في أوحال الثراء الفاحش والتوحش المجنون في صنع الثروات الخيالية، وبذلك استبدل (أمراء الموت بأمراء الفساد) وكلاهما متمم للآخر. وهكذا وجد الجيل الجديد نفسه في ظل سياسات ما بعد المحنة الدموية في العراء المطلق، بين المجازر الوحشية التي ارتكبها (الأعراب والأغراب)، وجحيم الفساد المبرمج الذي جاء كسياسة لجعل من الشعب الجزائري (حيوانات برؤوس بشر)، والفراغ الفكري الذي أحدثه كسر الطابوهات، وحربا على استحقاقات الأمة وتشويهها في الداخل بأوامر من الخارج، والإرباكات التي أحدثتها التغييرات الأخيرة في مؤسسة سيادية حافظت على وحدة الجزائر في المحنة الدموية، ودفعت النفس والنفيس من أجل أن تبقى الجزائر واقفة بعيدة عن أيادي أجنحة المكر، التي أرادت أن تتسلل في المحنة وتؤجج نار الفتنة، لكن هذه الأجنحة باءت مكائدها بالفشل، لكن أحقادها بقيت راسخة فانتقمت من هذه المؤسسة التي أرادت أن تحارب الفساد كما حاربت الإرهاب. والذين يدعون أنهم ”نوفمبريون”، ثم لا يتصدون إلى هذه الملابسات التاريخية سيجدون أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، وينطبق عليهم قول النبي عليه السلام: ”من أعان ظالما سلطه اللّه عليه”. والذين يفهمون دلالة هذا الحديث ولا يصرخون في وجه هذا الظالم المرتد حضاريا والممسوخ تاريخيا، صراخا، ويقاومونه مقاومة واعية، هم مرتدون كل الردة، وسيدفعون الثمن غاليا من الناحية التاريخية. يا شهداء الملحمة، إذا كنتم أحياء عند ربكم فكونوا طيرا أبابيل ترمي الطغيان وتجعله كعصف مأكول، أو كونوا سيلا جارفا تجرف الطبالين والمزمرين، وإن لم تكونوا كذلك ولم تلبوا لنا هذه الدعوة فإننا سنترك الطغيان والمطبلين لعذاب الضمير ولعذاب السماء التي بخلت علينا بالماء، سنتركهم للعنة النوفمبرية الأبدية السرمدية الخالدة. إنها لعنة تصيب المطبل والمطبلين وتصيب العقل والجسد، وتحرق النسب وتحرق ما تبقى من البلد. لقد تأوهت النوفمبرية، وبكت واستجارت فسمعت السماء دعوتها، وبدأت ضربات السماء تنهمر فوق رؤوس الوجوه المستعارة، لكنهم لا يدركون ذلك، لأن النوفمبرية مسختهم قردة خاسئين. ومع الوقت والخطوات والضربات سيدرك هؤلاء أن للنوفمبرية لعنة وصوتا أقوى من صوت المتوسطية المتصهينة، لأن نوفمبر إرث حضاري عريق وملحمة أمة لا تحب الذل والهوان وبيان ثابت مشترك بين جميع أبنائها بكل أطيافهم فهو تماسك وتعاضد، فمن فصم البيان بعد توثيقه فهو جزائري من غير ثورة ومسلم بلا إسلام وعربي من غير شرف، وأمازيغي بلا إباء. هذا نوفمبر أركع مجد الاستعمار وأذكر ذُلك والسنين.. ألف عذر يا مفدي فقد أصبحنا أذلاء لأنا عزتنا كانت في نوفمبر فابتغينا غيرها فأذلنا نوفمبر، ملحمة نوفمبر العزة والاستمرار، وللوجه المستعار الذل والعار.