لمّح العديد من الخبراء إلى أن الجزائر ليست ببعيدة عن معايشة أزمة 1986، التي تراجع فيها النفط بشكل لم يكن معه بمقدور السلطة آنذاك مواجهة مطالب المواطنين التي تحولت بعد سنتين فقط إلى انتفاضة 5 أكتوبر 1988، حيث نزلت السلطة من عليائها، مثلما هي عليه اليوم، واضطرت للتغيير وتقديم تنازلات سياسية واقتصادية، لأنها فقدت الريع البترولي الذي كانت تشتري به السلم الاجتماعي. بدايات تكرر هذا السيناريو بدأت تلوح في الأفق بعد أن هوى برميل النفط بنسبة 40 بالمائة من قيمته في ظرف قياسي، في وقت تحتاج الدولة إلى 120 دولار للبرميل للحفاظ على استمرار التوازنات المالية جراء ارتفاع النفقات العمومية بشكل خيالي واستشراء الفساد حسب منظمة “شفافية دولية”، ما يعني أن “تغول” السلطة الذي كسبته بفعل برميل النفط قد يدفعها للنزول من البرج العالي. انهيار الأسعار وتراجع إنتاج البترول مقابل مرتبة 100 في الفساد السلطة تواجه “كوشمار” عام 86 تواجه السلطة ثلاثية مميتة لا تكمن فحسب فيما سجلته البورصات العالمية بشأن هبوط أسعار الذهب الأسود، في ظرف قياسي، بأكثر من 40 بالمائة من قيمتها، حيث لامست حدود 60 دولارا للبرميل، بل رافقه أيضا تراجع في إنتاج البلاد من النفط، وهو ما لا يراد الحديث عنه، وأيضا عدم تراجع الفساد، وهو ما أعلنته منظمة “شفافية دولية”. هذه الثلاثية تعد بالنسبة للسلطة بمثابة “الكوشمار”. لا يختلف الخبراء في أن الجزائر بحاجة الى سعر برميل للنفط لا يقل عن 120 دولار للحفاظ على توازناتها المالية، بالنظر لارتفاع نفقات تسيير الدولة، لكن الأرقام المسجلة في عز الشتاء، وهي فترة الاستهلاك الأعلى للمحروقات، تشير إلى هبوط السعر المفترض للبرميل بنسبة 40 بالمائة، ما يخلط كل حسابات الحكومة. ويلخص رئيس الحكومة الأسبق، أحمد بن بيتور، الصورة في أن الاقتصاد الجزائري يعتمد بشكل مفرط على النفط، كون 98 في المائة من احتياطي العملة الصعبة مصدرها بيع المحروقات، و80 في المائة من مداخيل الميزانية تأتي من الجباية البترولية. في المقابل، مثلما ذكر بن بيتور، في تحليلات سابقة، فإننا نستورد اليوم 75 في المائة من الوحدات الحرارية التي نستهلكها، علما أن إيرادات الميزانية ستتقلص بنسبة 40 في المائة إذا تراجع سعر النفط بنسبة 50 في المائة، وهي وضعية تعيشها الجزائر اليوم. وهذا التراجع في مداخيل الدولة، حسب رئيس الحكومة الأسبق سيد أحمد غزالي، لا يكمن فقط في هبوط الأسعار، بل أيضا في تراجع إنتاج الجزائر من النفط، مشيرا، في هذا السياق، بصيغة الاستفهام: “من يقول لي إن أهم الحقول النفطية لم يحصل فيها خلل يحول دون استغلالها الأمثل، خصوصا أن السلطة كانت منشغلة بأشياء أخرى؟”. موازاة مع هذه المعطيات، يأتي تقرير منظمة “شفافية دولية” الذي تحدث عن عدم تسجيل أي تقدم للسلطات الجزائرية في محاربة الفساد، حيث جاءت الجزائر في المرتبة 100، بعدما كانت العام الماضي في المرتبة 96، ما يمثل مؤشرا على أن مداخيل الجزائر تذهب إلى “غير خزينة الدولة”، وهو ما لمّح إليه ضمنيا تقرير مجلس المحاسبة، الذي تحدث عن أكثر من قطاع وزاري يشهد تبذيرا لموارد الميزانية ولسوء استغلال الصناديق الخاصة ومنح اعتمادات مالية ومساعدات لجمعيات بطريقة ملتوية، دون الحديث عن المهرجانات والملتقيات التي لا هدف من ورائها سوى تبرير النفقات في الميزانية المخصصة للقطاعات الوزارية. وبالنظر لانخفاض أسعار النفط وتراجع إنتاجه، وازدياد الإنفاق العام بنيّة شراء السلم الاجتماعي، فإن الدولة في نهاية المطاف ستجد صعوبة كبيرة في تمويل الخزينة وفي تغطية حاجياتها من الاستيراد الذي انتقل في ظرف قياسي من 13 مليار دولار إلى قرابة 50 مليارا في أقل من 10 سنوات، وأكثر من ذلك ستجد صعوبة في إقناع المواطنين ب”شدّ الحزام”. وكمحصلة لذلك، يرى بن بيتور أنه بسبب وتيرة الاقتصاد البطيئة في البلاد، جراء تواجد الجزائر على هامش التغييرات الاقتصادية العالمية، ستواجه الجزائر عجزا مستمرا عن الوفاء بحاجيات المواطنين، وسيزداد العنف كوسيلة لحل الصراعات تصعيدا، وهو ما تعكسه الانتفاضات اليومية للمواطنين بمختلف الولايات حول الشغل والسكن والصحة والكهرباء والماء وغيرها من الحقوق الأساسية، ما جعل الخبراء يتحدثون عن امكانية تكرار “سندروم 86”. بعد تصنيف الجزائر في مرتبة متدنية بمؤشر “شفافية دولية” موارد الجزائر المتراجعة يتهددها الفساد لا تحتج شعوب عديد دول العالم الثالث على سوء أحوالهم المعيشية لأنه لا بترول لديهم، أو بالأحرى ليس لدى سلطات بلدهم خزينة مليئة بأموال البترول ولم تعطيهم حقهم. العكس بالضبط هو ما يجول بخاطر الكثير من الجزائريين الذين يرون السبب في الاحتجاجات الاجتماعية المتواصلة هو وجود موارد طائلة من البترول لكن واقعهم لم يتغير. في مفاصل هذه المتلازمة، يكمن دور الفساد في تعطيل التنمية، أو قتلها في المهد. وبين البترول والتنمية يسكن أخطبوط الفساد، لأن الخبراء يقرون، بما يدعم القول “البترول نقمة لا نعمة”، أنه كلما ارتفعت أسعار النفط وازدهت الخزينة العمومية كلما ارتفعت مستويات الفساد ونهب المال العام تحت مسميات عديدة، أبرزها الصفقات العمومية. وعلى مدار السنوات الماضية، فرح الجزائريون لارتفاع أسعار البترول، لأنها خلصتهم من مديونية خانقة، استبق الرئيس بوتفليقة لتحييدها جانبا، لكن الضالعين في الفساد وكذلك أعداءهم المنددين بالفساد وحدهم من يعي قيمة النفط في ازدهار الفساد، إلى درجة دفعت بعض نشطاء محاربة هذه الآفة الفتاكة إلى التعليق “لا حل أمام الفساد سوى انهيار أسعار النفط”. والجزائريون حكومة وشعبا لا يمكنهم أن يفرحوا لذلك بعد عشريتين عجاف، فبالنسبة لهم “بترول مع فساد” أفضل من “لا بترول ولا فساد”، يعني بالعامية “كول ووكّل”، لكن ما لم يأخذ بالحسبان، يكمن في مخاطر “مسح القصعة”، أو بعبارة أخرى المخاوف من استمرار وتيرة الفساد نفسها بينما أسعار البترول في تدن مستمر، أي أن ما يتبقى من موارد يتربص بها أخطبوط الفساد. وتسليما بالتقسيم الافتراضي لأصحاب النفوذ، وفي طليعتهم عصب “استيراد- استيراد” و”المقاولات السياسية”، لا يمكن تخيل كيف سيكون عليه صراع المصالح للظفر بالمشاريع، خاصة مع بدء الحكومة سياسة “شدّ الأحزمة”. بينما الأعين ستتجه إلى ما يوجد بالخزينة العمومية من احتياطي مالي ناجم عن ازدهار أسعار النفط قبل اليوم، وكذلك الإحجام عن الإنفاق بسبب غياب مخططات تنمية واضحة، وعدم إنفاق العديد من الولايات لميزانياتها السنوية بالكامل. لا يعتبر رئيس الجمعية الوطنية لمكافحة الفساد، جيلالي حجاج، نفسه مخطئا لما يقول ل”الخبر” إنه “لتعرف طبيعة اتساع دائرة الفساد لابد لك أن تعرف كيف يستغل اقتصاد النفط والغاز”، والواقع أن “الذهب الأسود” على مدى عقود “يغذّي ثقافة الريع والحصول على المال بأسهل الطرق”. لكن تراجع أسعار النفط يولّد “تراجعا محتملا في الفساد”، كما أن “أقل من المال يعني أقل من الإنفاق”، وبالتالي الحد من الفساد، وهذا التلازم يستفز في العقول تساؤلات مفادها “كيف لدولة تكتنز طاقات بشرية عظيمة واتساعا جغرافيا هائلا وموارد طبيعية مهولة يعيش نصف سكانها حالة فقر؟”، لكن بالمقابل، هناك أثرياء جدد ظهروا في روافد تتصل بالأمرين بصرف أموال النفط، ولعلم هؤلاء أو صنف منهم، كانوا محل “محاكمة” سياسية من قبل لويزة حنون التي دعت- من حيث لا يشتهي هؤلاء- إلى مصادرة ثرواتهم غير المشروعة. حاليا، أصبح الفساد أكثر من رياضة وطنية كما وصفه فاروق قسنطيني، إنما الأخطر أنه صار “ملازما للتنمية” طالما أنه ينتعش مع انتعاش البترول كأداة مفترضة للتنمية، وبين هذه المتلازمة، يبقى النشطاء ينتظرون كل عام مؤشر “شفافية دولية”، وعن ترتيب الجزائر “راهي طلعت.. راهي هبطت”. نقاش خبير الاقتصاد الإسلامي، فارس مسدور، ل”الخبر” “بلادنا تئنّ من الفساد المستشري” كيف تفسّر استفحال آفة الفساد، رغم كثرة آليات مكافحتها؟ الفساد لا يحتاج إلى آليات لمكافحته فقط، إنما يحتاج أيضا إلى عمليات تحسيسية ذكية لمواجهته وإلا لن نحصل على نتائج عظيمة من المكافحة الميكانيكية، لذا الفساد يحتاج إلى ومضات إشهارية للحد منه، وإشراك كافة المجتمع في محاربته. إن الفساد لا تكافحه لجنة وطنية، وإنما يكافحه رجال متخصصون في مكافحة الفساد وتكونوا تكوينا راقيا في هذا التخصص، وعليه وجب أن تكون لدينا شرطة مكافحة الفساد بكل أشكاله وفي كافة المستويات ولا يفلت أحد من متابعة وتحقيق هذه الوحدات الأمنية المتخصصة، التي تكون زبدة الزبدة في رجالها الذين يحصلون على أعلى الصلاحيات لمحاربة الفساد وضربه ضربات قوية في الصميم وفضح ونشر قوائم الفاسدين وصورهم على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام المختلفة. ثم تكون لهؤلاء الفاسدين محاكمات خاصة تنقل على المباشر في مختلف القنوات الوطنية العامة والخاصة، وأن يكون القانون شديدا في تعامله مع الفاسدين، وليس أن ينزّل قضايا الفساد والاختلاس لدرجة الجنحة لا يتجاوز حجم العقوبة فيها 15 سنة، بعد أن كان في القوانين السابقة جريمة قد تصل إلى المؤبد. لذا لا تتعجب من انتشار الفساد بهذا الشكل الذي تراه، خاصة إذا علمت أن للفاسد في سجوننا زنزانات خمس نجوم ومعاملة .VIP الجزائر التي نخرها تبديد المال العام معرضة لمزيد من الضعف بسبب تهاوي أسعار النفط. هل توافق هذا الطرح؟ أسعار النفط حاليا تعطي الإشارة بالحذر فقط، حتى لا نتمادى في التركيز على هذا المنتوج ونحن نطور اقتصادنا، وإنما يجب أيضا التفكير في البدائل، وأقصد بالذات الاستثمار القوي في القطاعين الفلاحي والسياحي، وقطاع الخدمات بشكل عام، والشراكة الحقيقية في قطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة. أما تبديد المال العام فهو حقيقة مرة تجرعناها وحذرنا منها في العديد من المناسبات، فالفواتير في بلادنا يضخمها الأجانب بتواطؤ مع المحليين إلى أن تصل إلى أربعة أضعاف أو أكثر، وما قصة الطريق السيار عنا ببعيدة، وفاتورة غذائنا التي كانت 3 مليار دولار وأصبحت أكثر من 9 مليار دولار، ودواؤنا الذي كان 500 مليون دولار وفاق 2 مليار دولار، إنها الحقائق المرة التي تكاد تخنق اقتصادنا. هل تجد التصنيف الذي تمنحه المنظمات الأجنبية المتخصصة في رصد الرشوة والفساد للجزائر منصفا؟ هؤلاء الناس يرتكزون إلى العلم في نشاطهم البحثي، وعليه ليس لديهم أي مشكلة الآن في الحصول على المعلومات الدقيقة عن اقتصادنا، من خلال النماذج (الاقتصاد القياسي) المرتكزة على الرياضيات للوصول إلى النتائج التي وصلوا إليها في تصنيفنا. ثم هل يمكننا أن ننكر أن بلادنا أصبحت تئنّ من الفساد الذي استشرى في كافة الإدارات دون استثناء؟ وهل كنا فيما قبل سنة ألفين نسمع بقضايا الفساد التي انتشرت وسوّدت صفحات الجرائد، مثلما حصل بشكل صارخ في سنوات القرن الواحد والعشرين؟ رئيس المجموعة البرلمانية لحزب العمال، جلول جودي، ل”الخبر” “الجزائر بحاجة لتكريس استقلالية القضاء” هناك تراجع ملحوظ في أسعار النفط في السوق الدولية، هل تعتقد أن السلطات الجزائرية مدركة لطبيعة المخاطر المترتبة على التوازنات المالية للدولة نتيجة لهذا الانخفاض؟ الاقتصاد الجزائري يواجه حاليا تأثيرات مباشرة للمضاربة في السوق النفطية، واستمرار أثار الأزمة المالية العالمية، وسقوط منظمة أوبك تحت تأثير الضغوط الأمريكية، ناهيك عن تدخل فاعلين آخرين غير رسميين في السوق زيادة على العوامل المناخية، حيث الشتاء أقل برودة هذا العام. وإدارة دفة الحكم تفرض توقع كل السيناريوهات، هذه قاعدة في السياسة. وأعتقد أنه تم وضع هذا في الحسبان وجهزت تدابير احترازية، كما ورد في تصريحات المسؤولين، لأن تراجع أسعار النفط بدولار واحد فقط له أثاره السلبية، هذا لا يخفى على أحد. وفي المرحلة الحالية، فإن بلادنا تتوفر على احتياطي مشكّل من أرصدة مالية من أموال صندوق ضبط الإيرادات واحتياطي الصرف يبلغ حوالي 300 مليار دولار. لكن هذا غير كاف، ومن الضروري العمل على بناء اقتصاد وطني قوي، منشئ لمناصب الشغل والحافظ على قاعدة الاستثمار 51/49 بالمائة، والعودة للاستثمار العمومي، والنهوض بقطاعات الفلاحة والسياحة والصيد البحري، وعدم الاكتفاء بالجباية النفطية لمواجهة ارتدادات تراجع أسعار النفط ومداخيل الجباية النفطية، وخصوصا في ظل محدودية مساهمة دور القطاع الخاص في النمو رغم التحفيزات التي حصل عليها. رغم هذه المخاطر والمصاعب، فإن السلطة متهمة بسوء إدارة مقدرات الأمة، وهي مصنفة في قائمة الدول التي تعرف انتشارا للفساد والرشوة، ما تعليقك؟ هناك فعلا قضايا دون أجوبة وعلى الدولة الجزائرية أن تضرب بقوة لمعالجة ملفات الفساد، مثل ملف الخليفة والخيانة العظمى لوزير الطاقة السابق شكيب خليل. الجزائر في حاجة لتكريس استقلالية القضاء، وفصل كامل وحقيقي بين السلطات، لأنه عندما نعجز عن معالجة هذه الظواهر وتخفى عنا الحلول تصبح هذه الملفات أوراق في يد منظمات غير حكومية تمول من قبل المخابرات المركزية الأمريكية لابتزاز الجزائر.. وعلى الدولة الجزائرية أن تعالج هذه الملفات حتى لا تعطي فرصة لهذه المنظمات غير الحكومية، وحتى لا توظف كأداة ضغط وابتزاز في حق بلادنا. لكن السلطات لا تبذل كل ما في وسعها، مثلا بلادنا، عكس دول أخرى، تفتقد لآلية لحماية المبلغين عن قضايا الفساد والتبذير، ما رأيك؟ لا بد من وضع آليات قانونية وتدابير لحماية المبلّغين عن ملفات سوء التسيير وتبذير المال العام، وتفعيل أدوات قوانين مكافحة الفساد التي تتوفر عليها الجزائر وتطبيق القانون بكل حذافيره.