تفاعل عدد كبير من الأكاديميين مع التصريحات الأخيرة المثيرة للجدل، التي أطلقها سعيد سعدي، معربين عن استيائهم من التعاطي مع القضايا التاريخية وحتى الحاضر والمستقبل بمبدأ الفعل ورد الفعل، وهو مسلك غير صحي يعيد التاريخ في كل مرة إلى نقطة البداية. وطالب بعضهم بضرورة ترك التاريخ للعمل الأكاديمي البحثي، بينما دعا آخرون إلى تحرير التاريخ من الوصاية الرسمية، دون إلقائه في أحضان التوظيف المضاد المغلف بغايات تخدم المصالح الضيقة. دعا الدكتور كمال بيرم من جامعة المسيلة، في المقام الأول، إلى احترام رموز تاريخنا، ففي زمن قفزت أمم إلى مصاف الدول النامية فكرا وعملا، لايزال البعض يلاحق تاريخنا المجيد ورموزه، بعد أن تاه هؤلاء المشككون سياسيا ونفر الشعب من أفكارهم، مضيفا أن الجزائر اليوم بحاجة إلى نقاش مثمر حول قضايا التنمية ونقد الفساد بكل أشكاله، بدل إثارة مسائل وقعت كما أرادها التاريخ الذي مضى، والذي يمكن تدوينه بهدوء بعيدا عن التجاذب السياسوي. ويرى الأستاذ أن بعض صور الانفرادية التي ظهرت في تاريخنا بعد الاستقلال، ووظفتها القيادات السياسية، قد أجهضت المشروع الوطني، وزرعت بتكريس التاريخ الرسمي، شكا في كل شيء، وحرمت الشعب من جزء من تاريخه الذي يبقى طي الكتمان. يجب إعادة ترتيب نقاشاتنا الوطنية التاريخية والفكرية يعتقد الدكتور كمال بيرم أن الصورة المؤسفة التي انتهى إليها مصالي الحاج الذي يعد بحق رائد الاتجاه الثوري للحركة الوطنية الاستقلالية الجزائرية، تعبّر عن مسار مشوش لتاريخنا الوطني، وتدعونا إلى ضرورة وضع الأمور في مكانها الطبيعي كبقية الدول، حتى تعرف الأجيال مسارات تاريخها الوطني بصدق، يحقق نشوة الانتماء إلى هذا الوطن، بعيدا عن التوجيه وسيطرة الأساطير والخطابات الشعبوية، لأن مصالي الحاج بارك الثورة التحريرية في مناسبات كثيرة وفي رسالته إلى أمين الجامعة العربية 1955، ودعا مناضليه في المهجر إلى الدعم المالي والمادي للثورة. وربما ما يقوله البعض عن هذه الشخصية وغيرها كأحمد بن بلة الذي يبقى في ذاكرة الشعب الجزائري ولدى العالم رمزا أبديا للجزائر المعاصرة أو علي كافي، إنما هو غيرة وحسد ممن لا تاريخ لهم على من لهم تاريخ. ويرى الأستاذ بأن العودة إلى جادة الصواب تقودنا إلى إعادة ترتيب نقاشاتنا الوطنية التاريخية أو الفكرية، بما يفيد البلاد والشعب، بعيدا عن التوظيف الانتقائي والعصبوي للإنجازات والأعمال التاريخية التي قامت بها مختلف الفئات والحركات مهما اختلفت توجهاتها ومساراتها، وكتابة التاريخ الوطني كتابة تاريخية وليس سياسية، هادئة بنظرة علمية لذوي الاختصاص، بعيدا عن الملتقيات والندوات ذات المواصفات المهرجانية. تحرير التاريخ من الوصاية لا يعني توظيفه من أجل المصالح الضيقة استغرب الدكتور بشير فايد، رئيس اللجنة العلمية لقسم التاريخ والآثار، من جامعة محمد لمين دباغين في سطيف 2، انتظار من يشكك في مسلمات أو في مسيرة رموز، لنحاكمه على أساس ارتكابه جنحة أو جناية، لتهدأ بعدها العاصفة ونعود إلى نوم عميق، لا توقظنا منه إلا ضجة أو جعجعة أخرى. ويرى الدكتور فايد أنه من غير المفيد دائما، من الناحية الشكلية بلغة أهل القانون، استدعاء المؤرخين والباحثين في التاريخ، للإدلاء بآرائهم كلّما أثير جدل حول مسائل وقضايا تتعلق بالتاريخ الوطني بصورة عامة، والثورة التحريرية بصورة خاصة، ناجمة عن تصريحات أو اجتهادات، صادرة عن أشخاص أو جهات، تفتقد إلى الأهلية أو الصفة الأكاديمية والعلمية، التي تضمن بلا شك الموضوعية والحيادية اللتين تمثلان أساس النقاش التاريخي الهادئ والحوار العلمي الرصين، بعيدا عن كل أشكال الإثارة والاستغلال السياسي أو الأيديولوجي أو الفئوي أو الجهوي أو العنصري.. الخ. مضيفا أنه ليس معنى ذلك أننا ننزع عن غير المتخصصين والأكاديميين الحق في إبداء آرائهم في القضايا التاريخية، لأنه حق مكفول نسبيا، قد يتنازل عنه صاحبه أو يمارسه بحذر شديد، إذا كان مدركا لجدية وحساسية ما يقوله على النسيج الاجتماعي والسياسي لأمته أو بلده، بغض النظر عن صحة أو دقة ما يورده. وفي هذه النقطة بالذات يضيف موضحا بأن” الدعوة إلى تحرير التاريخ من الوصاية الرسمية، لا تعني أيضا الإلقاء به في أحضان التوظيف المضاد، المغلف بخلفيات أو دوافع تخدم مصالح ضيقة وظرفية، لا تخفى على أحد”. لا يجوز لغير الأكاديمي أن يخوض في مسائل تاريخية بالغة الحساسية يرى بشير فايد أن مسؤولية المؤرخ ليست إعطاء الأحكام النهائية التي تأخذ صبغة الإلزام والنفاذ، وإنما إثارة النقاش وتوجيهه وفق مناهج البحث العلمي التاريخي المعروفة، على عكس ما يحدث عندنا في كل مرة، حيث تطلق أحكام في قضايا غاية في الحساسية، تثير دهشة وحيرة المؤرخ والأكاديمي، على جرأة أصحابها، وتساؤله بشأن الأدوات والمناهج التي أوصلتهم إليها، وعن مدى إدراكهم للمسؤولية والآثار المترتبة عنها. ولا يمكن للاتهامات والاتهامات المضادة استجلاء حقائق الماضي على وجه الإطلاق، ومثلما لا يحق لغير المتخصص في الطب أن تمتد يده إلى أجساد المرضى مهما كانت بساطة أمراضهم، لا يجوز أيضا لغير الأكاديمي أن يخوض في مسائل تاريخية بالغة الحساسية، فيوزع يمينا وشمالا صكوك الوطنية أو نظافة اليد أو الخيانة أو العمالة، بالكيفية التي تمليها عليه قناعاته الشخصية أو الفئوية، فيتوجب عليه بكل مسؤولية أن يعفي نفسه منها، ويترك الأمر برمته لغيره من الأكاديميين المتخصصين في التاريخ والاجتماع والسياسة... الخ، الذين يعون أبجديات المهنة أفضل منه. الشعب المحترم يتحمل تاريخه بما فيه من أحداث أليمة ومريرة يؤكد الدكتور بشير فايد أن المكان الطبيعي لإثارة النقاش حول تاريخ الحركة الوطنية وتاريخ الثورة التحريرية، هو فقط مراكز البحث والدراسات والجامعات والمؤسسات والهيئات التي يقع كل ذلك في صلب اهتماماتها، وإذا كان أداؤها لا يقنعنا، فما علينا إلا التفكير في جعلها أكثر فعالية ونجاعة، وليس التشكيك في كل شيء يبدو أنه لا نهاية له ”إن شكا بلا نهاية ليس شكا بالقطع”. ويضيف الأستاذ أنه انطلاقا من أن الثورة عمل يقوم به بشر يصيبون ويخطئون، ينبغي أن لا يكون طموح الذين عاشوا أحداث الحركة الوطنية والثورة التحريرية، أو كانوا أطرافا أساسيين وفاعلين فيها، من خلال قول الحقيقة، السعي إلى ”زعزعة اليقين وإحداث اضطراب في الأمن الاجتماعي”، وإنما ”هو أن نعيد بأمانة سرد تجربة قاسية ونسلم الأجيال الجديدة ما يبدو لنا جزءا من الحقيقة، خصوصا أن الوقت مازال مواتيا. ذلك أن شعبا محترما هو شعب يتحمل تاريخه بما فيه من أحداث أليمة ومريرة”، على حد قول السيد علي هارون، في مقدمة كتابه ”خيبة الانطلاق أو فتنة صيف 1962م”. التاريخ ملك لكل الجزائريين وليس قضية شخصية أو عائلية يخلص المتحدث إلى القول ”بما أن التاريخ الوطني ملك لجميع الجزائريين، فإنه من الحكمة ألا تتحول الآراء المخالفة إلى قضايا شخصية وعائلية تعالجها المحاكم، وإنما إلى نقاش هادئ بمشاركة كل الذين بإمكانهم تقديم الإضافة من شهود وأكاديميين، فمن المؤلم جدا أن نحرج قضاة الاستقلال بالفصل في قضايا فترة الاحتلال، ونجعل مهندسي الحرية يدافعون عن براءتهم أو يسعون لإدانة غيرهم، فهو بلا شك موقف لا يشرف عظمة الثورة الجزائرية. وعلى جزء من الطبقة السياسية في الجزائر أن تنتبه إلى أنها دورها الطبيعي يتمثل في تكوين المناضلين وترقية النقاش السياسي البناء، للنهوض بالبلد في كل المجالات، وهي الغاية الأولى والأخيرة التي قامت بسببها الثورة التحريرية، وطردت من أجلها الاستعمار الفرنسي، وعدم الزج بالتاريخ الوطني في أتون الصراع السياسي والحزبي، لأنها مجازفة ضررها أكثر من نفعها، ولا بأس أن تظهر الحقيقة التاريخية، لكن عبر المنابر العلمية والأكاديمية فحسب”. مضيفا ”على المؤرخين والأكاديميين أن يخرجوا من أبراجهم العاجية، ويسجلوا حضورهم الدائم في المشهد الفكري والثقافي، وليس في المناسبات فقط، حتى لا يضطر غيرهم إلى ملء الفراغ، لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ كما يقال، فينتهي الأمر بالجيل الحالي والأجيال التي تأتي من بعده، إلى صم الآذان عند أول سماع لكلمة تاريخ، وإطلاق الشتائم على كل من يتحدث عنه”. الظلم الذي وقع على مصالي لا يضاهيه ظلم تساءل الأستاذ سفيان لوصيف، من جانبه، عن كثرة عدد المشاركين في صنع الأحداث، لكنهم يظلون بعيدين عن الأضواء، ذلك لأنهم لا يؤمنون بغير الفعل، والإنجاز التاريخي المؤسس على قناعة الذوبان في الواجب الوطني، وتحويله إلى قيمة أخلاقية، من أجل الوفاء للمبادئ، الوفاء للأرض والوطن والعمل في صمت وتواضع بعيدا ودون الرغبة في الظهور. ويرى المتحدث أن الكثير من الشخصيات التاريخية قد تعرضت للتهميش بسبب الخلافات السياسية، إلا أن الظلم الذي وقع على مصالي لا يضاهيه ظلم بتقدير المؤرخين والدارسين لتاريخ الجزائر، وصانعيه الذين عرفوا الرجل، ولايزالون على قيد الحياة، أو كُتب لهم أن يدلوا بشهاداتهم قبل أن يرحلوا عن الدنيا، فقد ألصقت به كل التهم، ونسبت له أفعال ومواقف لم تعرف عنه ولم تصدر منه، فإن كان أخطأ التقدير في ظرف تاريخي حاسم، فإنه أيضا غيّر مجرى التاريخ في الجزائر، في فترة من الفترات، ومن حزب الشعب الجزائري الذي قاده مصالي الحاج تخرج الذين فجروا ثورة أول نوفمبر 1954. ويضيف بأن قرار تهميش مصالي الحاج، للأسف، قرار سياسي بامتياز، في اليوم الذي سيكتب التاريخ الحقيقي، ويتعرف الناس على ما حدث في تلك الحقبة الزمنية، عندها ستتم المصالحة مع الذات ومع التاريخ، وإنصاف الرجل، فلم يكن مصالي الحاج جهويا ولا عرقيا، وإن تتبعنا أعضاء حزب الشعب الجزائري وقيادته والمنخرطين فيه، سنجد أن الغالبية العظمى هم من منطقة القبائل، في فرنسا هم من المهاجرين وفي الجزائر من المناضلين، كما أن فكر مصالي وبرنامجه السياسي يتعدى الجهوية فهو مؤسس نجم شمال إفريقيا الداعي إلى وحدة أقطار شمال إفريقيا . بن بلة افتقد للخبرة السياسية وكان ينسق مع عبد الناصر أما عن الرئيس السابق أحمد بن بلة، فيقول الأستاذ لوصيف بأنه كان قليل الخبرة السياسية وقليل الثقافة من جهة ما يتعلق بتسيير شؤون الدولة وإدارة شؤون العباد والبلاد، بل لقد اعترف بن بلة عندما قال بأن الثورة الجزائرية كانت تفتقد إلى أطروحة الدولة يقول ”تسلمت الحكم في هذه الظروف ربما لم أكن سياسيا محنكا، ربما لم أكن مؤهلا بشكل كاف لقيادة دولة، حيث إنني كنت رجلا ثوريا ومن الصعب أن تكون ثوريا تقود ثورة، ثم تصبح رجل دولة في يوم وليلة، فهذا أمر لا يترك لك فرصة لكي تبني مستقبلك ومستقبل بلدك.. حاولت قدر ما أستطيع أن نحقق التنمية”، ويعترف بن بلة أيضا بأنه كان من أشد المعجبين بالرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يتمتع بسمعة جماهيرية عربية واسعة، وقد ناصر جمال عبد الناصر الثورة الجزائرية، وكان يمدها بالأسلحة عبر الحدود التونسية، كما منح كل التسهيلات والإمكانات لرجال جبهة التحرير الوطني الذين أقاموا في القاهرة، ومنها انطلقوا للتعريف بالثورة الجزائرية في العالم العربي والعالم الثالث، ولم يتنكر بن بلة لفضل عبد الناصر على الثورة الجزائرية، فقرر غداة انتصار الثورة الجزائرية التنسيق مع مصر عبد الناصر في كل المستويات، خصوصا فيما يتعلق بقضايا العالم الثالث والقضايا العربية الساخنة وحركات التحرر في العالم .