من منطلق أن التاريخ للجميع وليس حكرا لفرد أو لمنطقة أو لجهة ما أو لشخصيات دون أخرى، ومن منطلق أنه ليس تاريخا سياسيا فحسب بل تاريخ اجتماعي وثقافي يجب كتابته بصيغة الجمع وليس في صيغة المفرد، فقد طالب مجموعة من الأكاديميين بضرورة إخراج كتابة التاريخ من منطق تصفية الحسابات والإقصاء والانتقاء، في ظل الاهتمام البالغ ببعض الشخصيات دون شخصيات أخرى تغادرنا كل مرة في صمت. لا ينبغي إخضاع الكتابة التاريخية للشخصنة والانتقائية يرى الدكتور نوي الجمعي، أستاذ بجامعة سطيف2 مختص في علم الاجتماع السياسي، بأن الكتابة في علوم المجتمع والإنسان عموما وكتابة التاريخ على وجه الخصوص تبقى على الدوام تطرح إشكاليات عديدة تتعلق مثلا بمدى علميتها وبالموضوعية والذاتية لمنتج النص التاريخي وبصحة المصادر وبغياب المقارنة بين شهادات الفاعلين، وبالتالي تهيمن الحبكة التاريخية، وتتحول الكتابة إلى نص أدبي يصعب حصر الحدود فيه بين الخيال والمتخيل والحقيقة. وهنا يمكن الاستشهاد بمقولة لفوكو حول الكتابة حيث يقول “الكتابة هي المكان أين تتشكل الذات الكاتبة”، وهو ما ينطبق على كتابات الشهادات والمذكرات التي هيمنت على الساحة مؤخرا في الجزائر، حيث كتب الكثير من الفاعلين مذكراتهم بعد صمت طويل، فقد كتب محساس، الشاذلي بن جديد، الطاهر زبيري، وغيرهم، وهي شهادات فعلا، لكن هل ترقى لأن تكون كتابات تاريخية؟ أم هي فقط مصدر من المصادر التاريخية التي يجب إخضاعها للفحص والنقد والتحليل والمقارنة؟ أي نطبق عليها كل أدوات التحليل العلمي للكتابة التاريخية. وكتب هؤلاء في سياقات سياسية تميزت بالأزمات المتعددة الأبعاد والجوانب مرت وتمر بها الجزائر، فهي كتابات لتبرئة الذمة أو للتملص من المسؤولية التاريخية إزاء الوضع السياسي المأزوم لجيل شارك في تحرير الوطن، لكن لم يتمكن من إيجاد الجسور بين مشاركة مشرفة في الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وفشل في المشاركة في بناء دولة ما بعد الاستقلال. إن هذا النوع من الكتابات هي كتابات لتصفية الحسابات، كتابات وشهادات منها ما قاد كتابها للمحاكم، بالنظر للطعن فيها من قبل أبناء بعض الشخصيات التاريخية. واستدل الأستاذ في هذا المقام بالاختلاف بين سعيد سعدي وحمودة، وبين ياسف سعدي وزهرة ظريف. وللخروج من هذه الوضعية، يستوجب “دمقرطة” التاريخ وإخراجه من كونه تاريخا صُنع من قبل أشخاص، بل من قبل مجتمع بأكمله، ويجب إخراجه من كونه تاريخا يخدم سياقات سياسية لزمر وجماعات إلى تاريخ يقول كل الحقيقة بأمجادها وانتكاساتها، ولا يجب إخضاعه للشخصنة والانتقائية. ويضيف بأن بلوغ هذه الغايات تجعل من الكتابة التاريخية لا يمكن أن تكون موضوعية إلا إذا كانت كتابات أكاديمية تخضع التاريخ للدمقرطة. ففي فترة ليست ببعيدة، كان مصالي الحاج يعد من قبل التاريخ الرسمي شخصية تاريخية سجالية وصلت إلى حد “التخوين”، مع العلم أن مساره النضالي يفند كل هذه الاتهامات، فهو مناضل سياسي بدأ مشواره في المهجر مؤسسا لأكبر حزب، بل لمدرسة مكنت الجزائريين من إدراك وضعهم الاستغلالي المزدوج كعمال مستغلين، وأفراد منحدرين من مجتمع مستعمر. وأضاف أن اختلاف مصالي مع الشباب المنضوين تحت لواء حزب الشعب لم تكن مسألة خيانة أو صراع على الزعامة، بل هو اختلاف في الرؤى والتمثلات للعمل السياسي، ولسياق البدء في الكفاح، ويمكن القول إنه صراع واختلاف بين أجيال في قراءة السياق، فمصالي الحاج -حسب الأستاذ- لم يكن جهويا، وكان له نزعة استقلالية. ويقول الأستاذ إن كتاية التاريخ في الجزائر سواء ما يتم بصفة رسمية أو فردية وغير رسمية، يجب إخراجه من منطق تصفية الحسابات والإقصاء والانتقاء، كون التاريخ يشبه الهويات، فالبحث فيها والتعصب لها يمكن أن يكون هويات قاتلة، إن التاريخ للجميع وليس حكرا لفرد أو منطقة أو جهة أو لشخصيات فقط، بل هو تاريخ مجتمع، وليس تاريخا سياسيا فحسب، بل تاريخ اجتماعي ثقافي يجب كتابته في صيغة الجمع وليس في صيغة المفرد، وليس تاريخا بيوغرافيا بالرغم من أهميته في رصد الشهادات والإكثار منها، حتى لا نكون مجتمعا دون ذاكرة، لكن الذاكرة ليست هي كل التاريخ. الدكتور نوي الجمعيأستاذ بجامعة سطيف ملاحظات كثيرة حول تسمية المؤسسات والأماكن في الجزائر من باب الإنصاف، يقول الدكتور بشير فايد من جامعة سطيف2، إن الجزائر بذلت جهدا معتبرا بعد الاستقلال من أجل تكريم رموز الوطن بشكل عام، وشهداء الثورة التحريرية بشكل خاص، من خلال إطلاق أسمائهم على المؤسسات التربوية والتعليمية ومراكز التكوين المهني والجامعات، ودور الثقافة والمطارات والشوارع والأحياء والساحات العمومية والمساجد، وبعض المدن والقرى، ودفعات التخرج من الطلبة والأسلاك الأمنية والعسكرية، والملاعب والقاعات الرياضية، وحتى الجوائز العلمية والأدبية والرياضية والثقافية، وفاء لتضحياتهم التي لا تقدر بثمن من أجل أن ينعم الوطن بالحرية والسيادة، وإحياء لذكراهم حتى تبقى حية في أذهان الأجيال المتعاقبة، لكي لا تنسى أن هذه الأرض قد ارتوت بأنهار من الدماء، وأن كل شبر منها له أكثر من قصة يرويها للأحياء لو كان ينطق، خاصة إذا علمنا أن المستدمر الفرنسي لما بسط سيطرته العسكرية على البلاد لم يكتف بفرنسة العقول والألسنة، بل امتدت يده لتعبث بأسماء الأماكن من مدن وقرى وأحياء وشوارع وساحات عمومية، حيث أطلق عليها أسماء أبطاله وزعمائه وقادته السياسيين والعسكريين، بمن فيهم القتلة والسفاحون الذين ارتكبوا في حق الجزائريين جرائم لا يستوعبها العقل البشري لوحشيتها وبشاعتها. وفي هذا المقام، يعتقد الدكتور فايد أنه بالرغم من المجهود المبذول، فإن العملية في حاجة إلى إعادة نظر، مسجلا عدة ملاحظات، كعدم وجود هيئة وطنية قائمة بذاتها لها كل الصلاحيات القانونية والإمكانات البشرية والمادية للقيام بهذه المهمة، فلا تكتفي تلك الهيئة بإطلاق الأسماء فقط، بل بوضع استراتيجية واضحة من أجل التعريف بتلك الرموز الوطنية سواء كانوا شهداء أو غيرهم. فقد لاحظنا على سبيل المثال في هذا الصدد، خلو عدد معتبر من الأماكن التي تحمل أسماء رموز وطنية من نبذة تعريفية عن حياتهم وإنجازاتهم، كمطار هواري بومدين، هذا الصرح الكبير، يفترض أن الزائر له يجد لوحة تذكارية تعرف بشخص ونضال الرمز الذي يحمل اسمه بمختلف اللغات، ولما لا في مطبوعة صغيرة تقدم مجانا، وهكذا بالنسبة لبقية المؤسسات. ولاحظ الأستاذ وجود أسماء متكررة كثيرا وغياب أخرى، بالرغم من مكانتها الكبيرة، مثل مجموعة 22 التاريخية، فبعض الأسماء منها تبقى نكرة بالنسبة لعامة الجزائريين في الكثير من المناطق خاصة النائية منها. وسجل أيضا قلة إطلاق أسماء الرموز الوطنية التي ناضلت أو استشهدت قبل الثورة التحريرية، مثل حمدان خوجة الذي لعب دورا كبيرا في القضية الوطنية في السنوات الأولى من الاحتلال، والذي اعتبره شخصيا من أوائل المنادين بالإصلاح في العالم الإسلامي إذا لم يكن أولهم على الإطلاق، وابن العنابي، وعبد القادر المجاوي، وعبد الحليم بن سماية، وصالح بن مهنا القسنطيني، وحمدان الونيسي أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، وبن عيسى وزير أحمد باي، ومولود ابن الموهوب، وسي عزيز ومحمد أبناء الشيخ الحداد بطل مقاومة سنة 1871، والشيخ بوزيان وابنه محمد قائدا ثورة الزعاطشة اللذان قام الجيش الفرنسي بقطع رأسيهما ونقلهما إلى باريس، وغيرهم من أبطال المقاومات الشعبية، والعالم المفكر والمجدد بن شنب الذي قال فيه ابن باديس “يوم عرفناه فقدناه”، والأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر رائد الحركة الوطنية الجزائرية، وحاج علي عبد القادر المناضل النقابي الكبير، أصدقاء الثورة الجزائرية، شهداء الجزائر في الحروب العربية الإسرائيلية، والقائمة طويلة جدا قد لا تتسع لها الأماكن والمعالم الموجودة. واستذكر الأستاذ الخلاف الذي يسبب أزمة دبلوماسية في كل مرة بين اليابان وجيرانها، بسبب قيام مسؤوليها السامين في الدولة اليابانية بزيارة متحف “ياسوكوني” المثير للجدل، والذي حولته إلى معبد ويضم أسماء القادة والجنود اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، والذين يعتبرهم الجيران مجرمين وإرهابيين. وأقترح إنشاء الهيئة السالفة الذكر بالتنسيق مع الوزارات المعنية: المجاهدين، التعليم العالي، التربية الوطنية، الثقافة، الإعلام، السياحة، وبالتعاون مع مراكز البحث المنتشرة عبر الوطن، ولم لا الاستئناس بتجارب غيرنا من الدول. ولعل أول عمل تقوم به الهيئة هو جرد شامل لأسماء كل الرموز الوطنية عبر التاريخ، وإلى غاية هذه اللحظة. ولا يرى الأستاذ مانعا من تكريم بعض الرموز في مختلف المجالات، بإطلاق أسمائها على المؤسسات وهي على قيد الحياة، فلا أجمل من أن يكرم الشخص الرمز وهو حي. هناك من ينتقدنا كجزائريين بالقول: إننا نقتل رموزنا في الفكر والعلم والسياسة والثقافة والكفاح والإبداع والنبوغ، بنسيانهم عن قصد أو غير قصد، وبالاجتهاد في تسويق رموز غيرنا، ولعل في ذلك الكثير من الصواب والحقيقة. الدكتور بشير فايد أستاذ بجامعة سطيف المغيبون من مجموعة 22 التاريخية اختار الأستاذ لوصيف سفيان من جامعة سطيف2، أن يسلط الضوء في هذا الملف على مجموعة 22 التي تظل مجموعة تاريخية خططت لتفجير الثورة التحريرية، وهي أحد أهم الفاعلين الذين ستحتفظ بهم الذاكرة الوطنية، حيث كانت المحرك للانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح مع كل ما كان يعنيه ذلك من صعوبات أفرزتها الظروف المعقدة آنذاك، وعلى رأسها حالة الانقسام التي كانت تسود بين التيارات السياسية الوطنية. وقد برز من هذه المجموعة محمد العربي بن مهيدي، مراد ديدوش، رابح بيطاط، مصطفى بن بولعيد، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، بينما بقي الآخرون في طي النسيان رغم إسهامهم بفعالية خلال الثورة، لا يعرفهم جيل الاستقلال وربما حتى المختصون في التاريخ، حيث نفقد درويا أحدا منهم دون ضجة إعلامية، ولا يعرف خبر الوفاة إلا في الوسط العائلي أو الثوري عند رفاق الثورة، ففي هذه السنة فقدنا اثنين منهم ومرت الوفاة مرور الكرام ودون حدث، الأمر يتعلق بزبير بوعجاج المتوفى قبل أسبوعين، ومحمد مشاطي قبل أسابيع. وقد كان زبير بوعجاج عضوا في مجموعة 22 أحد أبرز الشخصيات الثورية الجزائرية، التحق بصفوف حزب الشعب الجزائري سنة 1942 بالقصبة وشارك في مظاهرة 1 ماي 1945. وبعد أن انضم الفقيد إلى اللجنة الثورية للوحدة والعمل، أصبح عضوا في مجموعة 22، حيث شارك في مؤتمر المركزيين في أوت 1954 بالعاصمة، وكان عضوا نشيطا خلال ثورة التحرير الوطني بصفته قائد قطاع. وتم توقيفه يوم 6 نوفمبر 1954 وحكم عليه بالسجن المؤبد، حيث بقي مسجونا إلى أن أطلق سراحه بعد اتفاقيات إيفيان سنة 1962. وبعد الاستقلال أصبح الفقيد نائبا في المجلس الوطني الشعبي وعضوا في اللجنة المركزية ومسؤولا في فيدرالية حزب جبهة التحرير الوطني بالجزائر الكبرى. أما محمد مشاطي فقد ولد في 21 مارس 1921 بقسنطينة، وشارك في الحرب العالمية الثانية، لينخرط عام 1945 في حزب الشعب الجزائري ثم في المنظمة الخاصة وحركة انتصار الحريات الديمقراطية واللجنة الثورية للوحدة والعمل التي بدأت التفكير العملي للثورة .وفي صائفة 1954، كان من بين 22 شخصية من قيادات النضال الوطني التي اجتمعت في العاصمة الجزائرية، وقررت تفجير الثورة المسلحة لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي. وكان المرحوم مشاطي مسؤولا عن منطقة الجزائر العاصمة تحت قيادة القائد الأول للثورة محمد بوضياف، قبل أن يتم تحويله إلى منطقة الجنوب في أوت 1956، وقبل أن يتم توقيفه من قبل القوات الفرنسية، كما زج به في السجن قبل إطلاق سراحه سنة 1961. وبعد الاستقلال شغل الراحل محمد مشاطي عدة مناصب هامة منها سفير للجزائر في ألمانيا، ثم نائبا لرئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان. لوصيف سفيان أستاذ بجامعة سطيف222