تبقى قناعتي راسخة في أنّنا نملك الكثير من التّاريخ والقليل من الذّاكرة، أي أنّ تاريخنا يمتدّ إلى بدايات التّاريخ، وأنّه قبل مليوني سنة كان في منطقة عين الحنش (سطيف) ما يدلّ على وجود الإنسان.. وتبعت ذلك حضارات التاسيلي التي يُجزم بشأنها العالم السويدي جورجي كريستيا أنّها مهد المسرح في التّاريخ. ورغم هذا فإنّنا نبقى بعيدين عن استحضار كلّ هذا التّاريخ في الذّاكرة.. ولو كانت افتراضيّة، كالسينما. ولأنّ الثقافة الشفويّة استحكمت فينا وتكرّست كثقافة دائمة، فإنّ النسيان أخذ موقعه في حياتنا، ولم يعد هناك ما يستدعي الدّفاع عن الذّاكرة، إلاّ ما تعلّق ببعض فترات التّاريخ التي ترفع من منسوب الخلاف حولها، سواء ما قبل الإسلام أو ما كانت له صلة بالثورة التحريريّة ونقاط الظلّ فيها. ورغم إدراكنا أنّ التاريخ هو روح الهويّة فإنّ أيّ تجزئة للتاريخ تعني تفتيتا للهويّة وتشكيلا لعديد المرجعيات. إنّ السينما، وهي أقوى أدوات التعبير والتأثير، لم تأخذ المساحة الكافيّة في التّاريخ، أي أنّها لم تتناول كلّ مراحل التّاريخ الوطني، من الزمن النوميديّ ورموزه إلى زمن الثورة وقادتها وأهمّ وقائعها، إذ بعد أكثر من خمسين عامًا من الاستقلال لم يُنجز فيلم عن يوغرطا أو تاكفاريناس، أو عن طارق بن زياد وإيغمراسن وابن تومرت والعلج علي وأحمد باي والأمير عبد القادر والشيخ أمود، وكأنّ الأمر لا يتمّ إلاّ ببناء هوليوود في بوسعادة أو عنّابة.. لقد نجح الأتراك، منذ ثلاث سنوات، في إنتاج فيلم تركي 100% على الطريقة الهوليووديّة، يمجّد القائد محمّد الفاتح وهو يدكّ أسوار القسطنطينيّة بعنوان “فاتح 1453”، في صورة للتحدي التركي للسينما الأمريكيّة المسيطرة على المشهد العالمي بإنتاجاتها ذات الكلفة العاليّة.. عندما نستعرض المنجز السينمائي الجزائري، ونقرأ باعتزاز أن المخرج الكبير محمّد الأخضر حامينا هو الوحيد الذي نافس الكبار في هوليوود، ونال السعفة الذهبيّة قبل أربعين عامًا، نشعر أنّ السقف الذي رفعه حامينا عاليا لم ينجح في بلوغه سينمائيون موهوبون أمثال راشدي والعسكري وبوعمّاري وحدّاد وبديع وطلبي ومرباح وبختي وشويخ وعلواش وبلوفة وحجّاج وولد خليفة وصحراوي وغيرهم ممن قدّموا أعمالا متميّزة، غير أنّ تنوّعها لم يصنع التفرّد والتميّز، فأين يكمن الخلل؟ أعتقد أنّ الرؤية التي امتلكتها السينما الجزائريّة في السنوات الأولى للاستقلال وارتباطها بروح الثورة مكّنها من أن تحوز مكانة في نفوس النّاس، حتّى ولو كانت أفلام تلك المرحلة مشوبة بمسحة إيديولوجيّة، وذهب بعض أصحاب الألسنة السليطة إلى اعتبار أفلام الثورة مجرّد خطابات دعائيّة، ومع ذلك فإنّها حفرت عميقًا في وجدان أجيال عديدة. والتحوّل الذي شهدته السينما الجزائريّة بعد أكتوبر 1988 لم يُنتج في رأيي النموذج الجديد للسينما الجزائريّة القادرة على الخروج من عباءة سينما السنوات الأولى للاستقلال، فالأفلام التي تناولت سنوات الأزمة والإرهاب، حاولت تفكيك المتغيرات التي شهدها المجتمع الجزائري، لكنّها افتقدت الشحنة الفنية المطلوبة، وكأنّي بالمخرجين لا يقرأون ما يكتبه أدباء الجزائر باللغتين، وهم من عبّروا بكثير من الدّقة والعمق عن التحوّل الذي عرفه الجزائريون سياسيا واجتماعيا وثقافيا.. في حين أنّ الانتقال إلى إنتاج أفلام عن قادة المقاومة والثورة التحريرية والاقتراب من المسكوت عنه جدّد في نفس السينما الجزائريّة، إذ إن فاطمة نسومر وبن بولعيد وزبانا وكريم والوهراني والمشاريع الجاري تنفيذها من شأنها أن تعيد الجمهور للسينما في انتظار أن تعيد السينما فتح القاعات.. المغلقة.