يعتبر العصر الزياني بتلمسان أزهى العصور الثقافية على الإطلاق بالجزائر عموما ومجتمع المدينة الزيانية على وجه الخصوص، لما اختص به من نشاط علمي وفكري. فعلى الرغم من أن هذا العصر قد ميزته الاضطرابات السياسية فإنه من أوفر إنتاج الجزائر الثقافي، ومن أخصب عهودها بأسماء المثقفين أو العلماء والمؤلفات على حد نعت المرحوم المؤرخ أبو القاسم سعد اللّه. ولم تؤثر الظروف التي عرفتها عاصمة الدولة الزيانية في بعض الفترات من تاريخها نتيجة الحملات المرينية والحفصية على الحياة الثقافية السائدة في المدينة حتى في أحلك ظروفها السياسية، والفضل في ذلك- حسب ما ورد في الحواضر والمراكز الثقافية في الجزائر- يعود إلى جملة من العوامل المستمدة من البيئة التلمسانية نفسها وإلى واقعها المادي والبشري وتركيبتها الاجتماعية والفكرية. وفي مقدمة هذه العوامل تشجيع السلاطين الزيانين للعلم ومحبتهم للعلماء وإكرامهم لهم، فقد حفل مؤلف الحافظ أبو الحسن التنسي بالمدارس والزوايا والأحباس التي أنشأها بنو زيان من أجل طلبة العلم المرابطين بجوار مساجد تلمسان. ومن أشهر سلاطين بني زيان الذين عرف عنهم هذا واشتهروا به يوسف بن تاشفين، الذي شيد المدرسة التاشفينية بجوار الجامع الأعظم إلى الجهة الجنوبية منه عام 718ه، واستقدم لها أبو عمران المشدالي، ثم أبو عبد اللّه البجائي ضمن مجموعة العلماء الأساتذة الذين درسوا وأشرفوا على إدارة شؤون المدرسة، “وقد استمرت التاشفينية التي تعتبر من أجمل المدارس الزيانية تؤدي رسالتها العلمية والتربوية حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وقبله أبو حمو موسى الأول وكان أكثرهم تواضعا للعلم خادما له محبا لأهله الذي قام بتأسيس مدرسة ابني الإمام بدرب كشوط بحي المطمر عام 710ه، والتي واصلت نشاطها التعليمي إلى غاية منتصف القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي، ثم أبو حمو موسى الثاني الذي قال عنه التنسي في تاريخ تلمسان “وأما اعتناؤه بالعلم فأمر يقصر اللسان عن الإجابة به”. ويواصل عبد الجليل التنسي وصف محبة السلطان الزياني لأبي عبد اللّه الشريف التلمساني إلى درجة صار “يوجهه في الرسائل المهمة ويلتمس بركة بيته الشريف في كشف الخطوب المدلهمة”. ولما بنى له المدرسة اليعقوبية بجوار جامع سيدي إبراهيم المصمودي سنة 765 ه بتلمسان “احتفل بها وأكثر عليها الأوقاف ورتب فيها الجرايات”. ويذكر أصحاب السير أنه لما بويع أبو زيان محمد بن أبي حمو (نسخ بيده الكريمة نسخا من القرآن ونسخة من” صحيح البخاري ونسخا من الشفا)، وبعد أن أتم نسخ ما تقدم “حبسها كلها بخزانته التي بمقدم الجامع الأعظم من تلمسان المحروسة”. فهذه الأخبار التي ساقها عبد الجليل التنسي عن الأمراء الزيانيين وحفاوتهم لأهل العلم وتبجيلهم له لأصدق دليل على عناية الملوك الزيانيين بالعلم والعلماء. وزاد من انتعاش الحركة الثقافية والفكرية بتلمسان في هذا العصر انتقال كثير من الفنون الأندلسية إلى بلاد المغرب عن طريق نزوح مسلمي الأندلس، الذين اضطرتهم ظروف الحصار الشديد إلى الهجرة نحو المغرب الإسلامي، فحملوا معهم من العلوم والمهارات التي اكتسبوها هناك. فعلى غرار الأدب والشعر والموشحات التي تسربت من الأندلس إلى المغرب كان لفقهاء الأندلس نصيب وافر من الفتاوى والاجتهادات الفقهية، حفظ لنا منها كتاب المعيار لأبي العباس الونشريسي مجموعة هامة من فتاوى فقهاء الأندلس لهذه الفترة، أمثال ابن فتوح الغرناطي المتوفى سنة 867ه وابن السراج الغرناطي المتوفى سنة 848ه وأبي عبد اللّه محمد الحفار الأنصاري الغرناطي المتوفى سنة811ه، وأبو عبد اللّه محمد بن الحداد الوادي أشي الذي استوطن تلمسان وعاش بها يحترف النسخ وصاهر بني مرزوق، وكان لأبي عبد اللّه محمد بن الأزرق مؤلفاته التي قال عنها المقري “تآليف عظيمة وقفت عليها بتلمسان”. وممن دخل تلمسان في هذه الفترة أبو الحسن القلصادي صاحب الرحلة الشهيرة– التي حققها وقدم لها فأحسن الدكتور مشنان- قادما إليها من غرناطة، “وكان يعقد حلقات التدريس ويتولى الإقراء فيحضر جم غفير من الطلبة للقراءة عليه والاستفادة منه، وكان يدرس بعض الكتب التي صنفها بنفسه، ودامت مدة إقامته بها 8 سنوات وسبعة أشهر. وأدى تزاحم النشاط العلمي والفكري الممتد من المساجد والمدارس والزوايا بتلمسان، خلال القرن الهجري التاسع، إلى بروز تيارات ثقافية وفكرية كان لها أثرها الظاهر أشهرها: تيار الاجتهاد الفقهي وتيار التصوف السني الذي أسس له أبو مدين شعيب الإشبيلي. [email protected]