* عصر ابن خلدون كان عبد الرحمن بن خلدون (732 808ه) (1332م - 1406م)، شخصيةً غير متوقعة، بالنسبة لعصره، ذلك العصر الذي بلغ تفكك العالم الإسلامي فيه مبلغه بين دويلات طائفية، بعد أن كانت دولة الموحدين، قد سقطت في المغرب والأندلس، في منتصف القرن السابع الهجري، وحوصر المسلمون في غرناطة، ووادي آش، فيما يعرف باسم دولة بني الأحمر في غرناطة أو مملكة بني نصر الغرناطية (630 - 897ه)، بينما سقطت الوحدة المغربية، فانقسم المغرب إلى دويلات صغيرة على رأسها دولة بني مرين، التي قامت في المغرب الأقصى رسميًا سنة 668ه، ودولة بني زيان الزناتية (عبدالواد) التي قامت في المغرب الأوسط (الجزائر) سنة 733ه على يد يغمراسن بن زيان، ودولة بني حفص في المغرب الأدنى (تونس) التي أسسها أبوحفص زعيم هنتانة، وأعلن استقلالها عن الموحدين حفيده أبوزكريا سنة (724ه - 1323م). كان المناخ السياسي في المغرب مضطربًا بدرجة كبيرة، فكانت الفتن كثيرة الوقوع بين الدويلات الطائفية، بل كثيرة الوقوع بين أبناء البيت الواحد في الدولة الواحدة، ولا ننسى أن هذه الدويلات قامت على أكتاف خيانة الموحدين، وكما عانت دولة بني عبدالواد الزناتية من المصائب والويلات من بني حفص جارتهم التونسية، فكذلك عانى الحفصيون وبنو عبدالواد من نزعة بني مرين المستمرة للسيطرة على المغرب كله، وقد نجحوا فعلًا في أواخر عهد السلطان أبي الحسن الذي تولى عرش فاس سنة 731ه، في انتزاع أجزاء كبيرة من الدولتين السابقتين، وبالجملة فقد كانت كل واحدة من هذه الدول عدوّةً لجارتها المباشرة، حليفة للتي بعدها، مما جعلها تعيش في حروب لا تقف ولا تهدأ. وقد بقي الصراع بعد انقراض الموحدين، قائمًا على أشده بين المرينيين وبني عبدالواد من جهة، وبين هؤلاء والحفصيين من جهة أخرى. وقد قوَّى هذا الصراع، وزاد من تفاقم الأوضاع، قيام إمارات في كل من بجاية وقسنطينة، واستقلال القبائل الكبرى، وعدم استقرار ولائها لهذا الجانب أو ذاك. * نشأة ابن خلدون ففي هذه الظروف السيئة، نشأ وعاش إبن خلدون، المولود في مدينة تونس، في غرة رمضان 732ه، في عائلة نبيلة تُباهي بنسبها العربي، الذي يرجع إلى أصل يمني حضرمي، وبنسبها الإسلامي الذي يرجع إلى وائل بن حُجر الصحابي المعروف، الذي دعا له النبي صلى الله عليه و سلم، بالبركة يوم وفدَ عليه في عام الوفود، معلنًا إسلامه، كما تُفاخر بتاريخها السياسي والاجتماعي في كل من إشبيلية وتونس. وكانت الأسرة الخلدونية -لتاريخها- مندفعة للدخول في حَمأة هذه الصراعات، كما كانت شخصية ابن خلدون -بالإضافة لتاريخ أسرته، وظروف عصره- دافعًا قويًا لدخول هذا المُعْتَرك. وفي مثل هذه الظروف السياسية القاسية، في المغرب والأندلس، سيطرت المناهج التربوية الخاضعة للمنهج التقليدي، الذي لا يسمح إلا قليلاً بالإبتكار والإبداع، وَحسْبُ هذه الطريقة، التي بسطها إبن خلدون في سيرته الذاتية، التي كتبها لنفسه، أن تُحقق الإنتماء إلى الإسلام والحضارة الإسلامية والعربية. فعندما بلغ عبد الرحمن سنّ التعلم، بدأ بحفظ القرآن وتجويده، حسب المنهج الذي كان متبعًا حينئذ في كثير من البلاد الإسلامية، وكانت المساجد حينئذ أهم مواطن التعليم. ففيها كان يحفظ القرآن ويجوده بالقراءات على حفظته ومجوديه، وفيها كان يتلقى العلم على المشيخة. ولا يزال أهل تونس يعرفون إلى الآن، المسجد الذي كان يختلف إليه ابن خلدون في فاتحة دراسته، ويُعرف بمسجد القبة، وقد درس إبن خلدون العلوم الشرعية، من تفسير، وحديث، وفقه، على المذهب المالكي، وأصول، وتوحيد، والعلوم اللسانية، من لغة، ونحو، وصرف، وأدب، ثم درس المنطق والفلسفة، والعلوم الطبيعية، والرياضيات. وكان ابن خلدون وفيًا لأساتذته بدءًا من والده (معلّمه الأول)، ففصَّل الحديث في ترجمته لنفسه، في كتابه: (التعريف بابن خلدون، ورحلته غربًا وشرقًا) عن حياة كل منهم، وعن الفروع التي تعلمها على أيديهم، وحدّد الكتب التي درسها عليهم، كاللاّمية في القراءات، والرَّائية في رسم المصحف للشاطبي، والتسهيل في النحو لابن مالك، والمُعَلَّقات، وبعض شعر أبي تَمَّام والمُتَنَبِّي، وصحيح مسلم، وموطأ مالك، وعلوم الحديث لإبن الصلاح، والتهذيب للبرادعي، ومختصر المدونة لسحنون في الفقه المالكي، ومختصري ابن الحاجب في الفقه والأصول، وغيرها من الكتب. لكن المهم في الأمر، أن عقل ابن خلدون، كان يتحرك من خلال هذه الدراسات، مستوعبًا وناقدًا، ومستنبطًا للخصائص الكلية، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن قراءة ابن خلدون لكتاب مثل (الأغاني)، وحفظه لكثير من أشعاره، قد أحدث ردّ فعل عنده، على خلاف ردود الأفعال، التي تكون عند الآخرين.. لقد تعامل مع الكتاب، على أنه كتاب أدب، فاستعان به بطريقة انتقائية، فأخذ منه ما يخدم المنهج التاريخي السليم، وتقْبَلُهُ وقائع العمران، ورفَض ما سوى ذلك، بدليل أن تصوير صاحب الأغاني للحياة السياسية والاجتماعية في العصر الأموي، يختلف تمامًا عن تصوير ابن خلدون. وهذه القدرة النقدية في مواجهة كتاب الأغاني، والتي مكّنت ابن خلدون من رفض كثير من آراء الأصفهاني، وإنصاف الدولتين الأموية والعباسية، سياسيًا واجتماعيًا، لم يستطع أن يفهمها الدكتور طه حسين، فأنكر اطّلاع ابن خلدون على كتاب (الأغاني)، ووقع بذلك في سقطة شنيعة، من سقطاته الكثيرة، التي احتشدت بها رسالته بالفرنسية عن (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية)، التي كانت مجرد جمع تلفيقي لمثالب خيالية ضد ابن خلدون، أراد بها طه حسين ممالأة أساتذته الفرنسيين، وتشويه العملاق الأصيل، عبد الرحمن بن خلدون. وكما يقول أستاذنا الدكتور على عبد الواحد وافي، رحمه الله، فإن (ابن خلدون) لم يقرأ كتاب (الأغاني) فحسب، بل حفظ كثيرًا من أشعاره، ونقل كثيرًا من نصوصه في المقدمة، وفي العِبر، بل لخّص في مقدمته نفسها موضوع هذا الكتاب ومسائله وطريقته، ونقل عنه عبارات بنفسها، ومَدَحه ككتاب أدب ولغة، ولكنه رفضه ككتاب تاريخ بصفة إجمالية. * إبن خلدون ابنَ الثقافة الإسلامية الشرعية اللغوية كان إبن خلدون ابنَ الثقافة الإسلامية الشرعية اللغوية، وكان عميقًا في قراءته للقرآن، واعتماده عليه، وانطلاقه منه، وقد حَرَصَ وهو يبسط نظرية العمران، على تدعيم كلامه بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمأثور عن الصحابة، أو التابعين، ومن ناحية أخرى، حرص على أن يختم كل فصل من فصول المقدمة بآية قرآنية أو أكثر، أو بحديث نبوي، أو ابتهال إلى الله، وقد تتبع أستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة نهايات فصول المقدمة، وأورد المأثورات التي وردت فيها. وهذا يدل على جذور ثقافة إبن خلدون وأفكاره، لكن هذا لا يعني أن ابن خلدون كان ابنَ بيئته، وحصاد مجتمعه، الذي عاش فيه. لقد كان عصره عصر تقليد وجمود، لكن ابن خلدون أحسن القفز إلى المصادر الأصلية، بعيدًا عن ضغط الواقع الجامد، وعن وطأة اللحظة التاريخية بكل أثقالها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأحسن الاتصال المباشر بالقيم والأفكار الدائمة الحياة في القرآن، والسيرة، والسنة، وعصور الألق، والإزدهار، والتجارب الوضيئة والمستمرة -بدرجة ما- في كل العصور. والحق أننا بدون تصور هذا القفز بعيدًا عن ضغط الواقع، والاتصال المباشر بمصادر الإسلام، والتجارب التي تمثل حقائقه، وتنطلق منها، لا نجد تفسيرًا صحيحًا، لظهور عباقرة الإسلام، ومجددي حقائقه في النفوس، أفرادًا كانوا أو جماعات. وهكذا، فإن ابن خلدون لم يكن رجلًا يستسلم للفكر الساكن، أو للواقع الجامد، كما لم يكن رجلًا يقف متفلسفًا أمام الوقائع، أو مسجلًا لها وحسب، بل كان رجلاً من صنّاع التاريخ، يغوص فيه، مهما كانت الأوحال والأخطاء، ويتقلب يمينًا ويسارًا، لعله يجد ضالَّته، تمامًا كما كان سلفه العظيم (عليُّ بن أحمد بنُ سعيد بن حزم، المتوفى سنة 456 ه)، يتقلب بين ملوك الطوائف، لعله يجد فيهم راشدًا، أو لعله يستطيع أن ينفخ في جَذْوة الدولة الأموية الأندلسية المنطفئة. وقد ذاق الرجلان السجن والتشريد، ويئسا من الناس، ومالا إلى العُزلة.. هذا في (منت ليشم) قريبًا من لبلة بغرب الأندلس، وصاحبنا ابن خلدون في قلعة بني سلامة، قريبًا من فرندة بولاية وهران (ولاية تاهرت في التنظيم الحديث بالجمهورية الجزائرية). فكلاهما كان في توتره وتفاعله، وفي تعامله الثقافي، حتى مع اللاّمية والرّائية، والمدونة، وشرح المدونة، عقلاً كبيرًا قادرًا على التفاعل الخلاّق، ليس بالثورة، ولا بالخيانة للتراث، ولا بالإستعلاء عليه، ولا برميه بالماضوية، والجمود، والتاريخية الجامدة، ولكن ببعث الروح فيه، والإنطلاق من قاعدته، كما ينطلق الصاروخ إلى الآفاق، من قاعدة صلبة مثبتة بالأرض. * إبن خلدون في تونس لا يمكن لأي باحث في سيرة ابن خلدون، أن يتجاهل سنة (749ه) التي تمثل السنة السابعة عشرة من عمره، ففيها حدث الطاعون الجارف، الذي عمّ العالم الإسلامي من سمرقند إلى الأندلس، والذي سمّاه ابن خلدون: (الفناء الكبير)، أو (الطاعون الجارف)، وفيه هلك أبواه، وأكثر من كان يأخذ عنهم العلم من مشيخته.. وعكف ابن خلدون على طلب العلم، حتى استدعاه بعد ثلاث سنوات، الوزير أبو محمد بن فزاكين، المستبد بتونس، لكتابة العلامة عن سلطانه أبي إسحاق، أي وضع عبارة: (الحمد لله، والشكر لله)، والديباجة في المخاطبات الرسمية. * إبن خلدون في فاس (المغرب) وفي سنة 755ه، وقيل 756 ه، استدعاه إلى فاس، السلطان أبو عنان المريني -بعد سعي ابن خلدون- فأمضى هناك تسع سنوات مستمرًا في عمله، ضمن الكتاب والموقعين، وهو عمل رأى إبن خلدون نفسه فوقه، فعمل على الانشغال بتثقيف نفسه، متعرضًا للاتهامات بالتآمر، ودخول السجن بين الحين والحين، والتقلب في المواقع المختلفة. ويقول ابن خلدون عن هذه الفترة: (وعاد السلطان أبو عنان إلى فاس، وجمع أهل العلم للتحليق بمجلسه، وجرى ذِكْرِي عنده، وهو ينتقي طلبة العلم للمذاكرة في ذلك المجلس، فأخبره الذين لقيتُهم بتونس عنّي، ووصفوني له، فكتب إلى الحاجب يستقدمني، فقدمتُ عليه، سنة خمس وخمسين، ونظمني في أهل مجلسه العلمي، وألزمني شهود الصلوات معه، ثم استعملني في كتابته، والتوقيع بين يديه، على كُره مني، إذ كنتُ لم أعهد مثله لسَلفي، وعكفت على النظر والقراءة، ولقاء المشيخة من أهل المغرب، ومن أهل الأندلس، الوافدين في غرض السِّفارة، وحصلت على الإفادة منهم على البُغْية). (ولهذا وطّد إبن خلدون العزم على خَوض غمار الدسائس السياسية، ليحقق مطامحه وآماله، فلم تمض سوى سنتين على التحاق ابن خلدون ببلاط السلطان أبي عنان المريني، حتى تآمر عليه هو والأمير أبو عبد الرحمن محمد الحفصي صاحب بجاية المخلوع، وكان أسيرًا بفاس، فاتفق ابن خلدون مع هذا الأمير المخلوع على تدبير مؤامرة لتحريره، واسترداد ملكه، على أن يوليه منصب الحجابة، متى تم له الأمر، فبلغ أبا عنان خبر هذه المؤامرة فقبض على ابن خلدون، وعلى الأمير المخلوع، وأودعهما سجنه، وذلك سنة 758ه). * إبن خلدون ومؤامرات السياسة وبين سنتيْ 764 و766ه كان اليأسُ قد دبّ إلى نَفْس ابن خلدون، من المعترك السياسي في المغرب، فرحل إلى الأندلس، متوجهًا أولاً إلى السلطان أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، ثالث ملوك بني الأحمر، وباني مسجد الحمراء في غرناطة، ومكلَّفًا ثانيًا من السلطان نفسه، بالسفارة عنه إلى (بدرو)، الطاغية ملك قشتالة، فارتحل إلى إشبيلية ولقي الطاغية، وأبرم الصلح، وعاين آثار أجداده بإشبيلية، وعَرض عليه الطاغية الإقامة عنده، وأن يرد عليه تراث آبائه بإشبيلية فإعتذر. (وقد طابت الحياة له في الأندلس، واستقدم أهله، وهيأ لهم جميع أسباب الراحة، إلا أنّ أمد هذه السعادة لم يَطُلْ، إذ يبدو أن ابن الخطيب قد داخلته الغيرة بسبب الحَظوة التي نالها ابن خلدون عند السلطان، فأخذ يسعى به لدى السلطان ابن الأحمر، حتى تكدّر صفو العلاقات بينهما، وحدثت الجفوة بين الرجلين، فأدرك ابن خلدون أنه لم يبق له مُقام في الأندلس، وأن لا مناص من الرحيل عنها). ولعشر سنوات تالية (766-776ه)، إنغمس ابن خلدون في الحياة السياسية، متقلبًا في أتون الفتن، التي وقعت بين أصحاب بجاية، وقسنطينة، وتلمسان، من بني مرين، وبني زيان، وقد راودته نفسه غير مرة بالإعتزال، فاعتزل ببسكرة طورًا، وبرباط الشيخ الولي أبي مرين طورًا آخر، وبفاس طورًا ثالثًا، وأعتقد أن هذه السنوات كانت من أسوأ فترات حياة ابن خلدون. (ولم تكن تنتهي هذه السنوات العشر، حتى وجد ابن خلدون، أن الأبواب قد سُدَّت في وجهه، وأصبح موضع ريبة جميع أمراء المغرب، فخلف أسرته بفاس، وجاز إلى الأندلس ثانية، في ربيع سنة 776ه، لينزل ضيفًا على سلطان غرناطة ابن الأحمر، لكن بلاط فاس توجس خيفةً من إقامته في الأندلس، وخشي من دسائسه، فمنع عائلته من الالتحاق به، وفاوض سلطان غرناطة بتسليمه، فأبى تسليمه إليهم، فطلبوا إليه إبعاده إلى تلمسان، فأجابهم لذلك). وكان هذا السلوك ثمرة من ثمرات هذه التجارب السياسية المرّة التي وضع ابن خلدون نفسَه فيها. وعندما عاد إبن خلدون إلى المغرب بعد رحلة فاشلة إلى الأندلس، حاول أمراء المغرب المتحاربون تسخيره لخدمتهم. لكنه كان قد اتّخذ قرارًا بإعتزال هذه الفتن كلها، ولهذا لجأ إلى أحياء أولاد عريف في قلعة (جبل كزول)، فأنزلوه بعد أن إستقدموا له أهله من تلمسان، في قلعة ابن سلامة، الواقعة قريبًا من فرندة، وقريبًا من تاهرت في الجزائر (المغرب الأوسط)، وفي هذه القلعة أقام ابن خلدون أربع سنوات كتب المقدمة في خمسة أشهر منها، خلال سنة 779 ه، (متخليًا عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملتُ المقدمة منه على هذا النحو الغريب، الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالتْ فيها شآبيب الكلام، والمعاني، على الفكر، حتى امتخضت زُبدتُها، وتألفت نتائجها).. ومن ثمّ بدأ ابن خلدون في كتابة تاريخه الموسوم بكتاب العِبَر، وديوان المبتدأ والخبر في ديوان العرب والعجم والبربر، معتمدًا على الكثير من حفظه وعلى قوة ذاكرته). لكن ابن خلدون إكتشف أنّ مشروعه الفكري من العُمق والسعة، بحيث لا يصلح معه هذا الاعتزال، وما يقتضيه من إبتعاد عن مصادر المعرفة والمعلومات، ولهذا رأى من الضروري أن يعمل على العودة إلى تونس، ليستعين بما في خزائن آثارها من مخطوطات وكتب، على إتمام مشروعه، وقد مهّد لتلك العودة بالكتابة إلى السلطان أبي العباس، ملتمسًا منه أن يسمح له بالعودة، وأن يعفو عنه، فتحقق له ما أراد. * إبن خلدون في مصر وفي أواسط سنة 780ه، رجع ابن خلدون إلى تونس، راغبًا في اعتزال المناصب، والعُكوف على مشروعه العلمي، لكنّ خصومه لم يتركوه، فسرعان ما كثرت ضده الوشايات، يقودها الفقيه المعروف محمد ابن عرفة، ومع أنها لم تنجح، لثبات السلطان أبي العباس على حمايته، وأمره له بالإكباب على تأليف كتاب العِبر، إلا أنّ ابن خلدون، بعد أن أمضى أربع سنوات في تونس، سئم مكابدة الأحقاد، فتوسّل إلى السلطان في تخلية سبيله، لقضاء فريضة الحج، حتى أذن له، فركب البحر إلى الإسكندرية فوصلها في شوال 784ه، وودّع المغرب والأندلس إلى غير رجعة. وفي الفترة المصرية التي إمتدت حوالي ربع قرن، تألق عبد الرحمن ابن خلدون، وأعاد تنقيح (المقدمة) و(العبر)، في ظلال القاهرة، التي كانت يومئذ (خضرة الدنيا)، (وبستان العلم)، (ومحشر الأمم)، (ومَدْرج الذرّ من البشر)، (وإيوان الإسلام)، (وكرسي الملك)، فدرّس بأزهرها، يوم كان أزهر الدنيا، الذي يُجلّه العالم الإسلامي كله، ولا يتجاسر على النيل منه أحد. ثم تولّى التدريس في مدرسة القمحية، التي كانت بجوار جامع عمرو بن العاص، ثم قضاء المالكية بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية، ملتزمًا بشريعة الله، محاربًا الفساد، الذي كان من قَدَر مصر، في ذلك العصر، وكان قَدَرها في عهود أخرى كثيرة، عرفناها من كتب التاريخ. ومع ذلك فلم تسكت حوادث الدهر عن ابن خلدون، ففجعته في أولاده جميعًا، فقد غرقت السفينة التي قدموا فيها من تونس، فمات أهله وولده، (وذهب الموجود والسكن والمولود، فعظم المصاب، والجزع، ورجح الزهد)، وطلب الإعفاء من منصبه، وعزم على الحج، وقضى فريضته، وذهب لزيارة بيت المقدس سنة 802ه، وإلتقى بتيمورلنك سنة 803ه في دمشق، ثم عاد إلى القاهرة، فأعيد إلى منصبه للقضاء على مذهب المالكية، وظل يتقلّب فيه بين تولية وعزل، حتى لقي الله -غفر الله له- في الخامس والعشرين من رمضان سنة808ه. هذه الحياة القلقة المتوترة، في هذه الظروف السياسية والقبلية المعقدة، لم تكن قادرة -بحد ذاتها- على إفراز رجل من طراز عبد الرحمن بن خلدون، لو لم يكن هناك ما يقف ابن خلدون فوقه، غير هذه الأرضية الهشّة، وهذا الواقع العفن المظلم.. ولم يكن هذا الذي وقف ابن خلدون فوقه، غير هذه الحضارة الإسلامية، وتراثها العظيم، وأصولها الثابتة القوية. هذا الرجل الكبير، صاحب هذا العقل الموسوعي، الرجل الذي ينغمس في الأحداث، لكنه يبقى وثيق الصلة بالفكر والتراث، يحلم بلحظة الاعتزال ليبحث -لمغربه وأمته- عن حل جذري، يمتد إلى أعماق الرؤية الحضارية، ويتجاوز اللعبة السياسية الظاهرة. هذا الرجل، كان يخترق تراثه، ويعرف إمكانات أمته الحضارية في الانبعاث، ويدرك أن الواقع نتاج خطأ في الرؤية، وفقر في الفكر، وضباب في الوعي الحضاري. لقد كان ابن خلدون، قد يئس من الإصلاح عن طريق السياسة، ولعله وهو يحقق طموحه المشروع، المنطلق من شعوره بفوقيته وعبقريته، كان يحاول، وهو يتقلب في المناصب، أن يجد مكانًا ملائمًا، يستطيع التغيير من خلاله، لكنه وجد هذا الطريق السياسي مغلقًا، فالحكام المتصارعون (الطائفيون)، في المغرب والأندلس، ينظرون إلى أي منصب في دولهم الطائفية، حتى ولو كان منصب الحاجب (أو رئيس الوزراء)، على أنه منصب تنفيذي، وعلى صاحبه أن يكون مترجمًا لهوى الحاكم، وأن لا يحاول أن يكون عقلًا مستقلًا، يضاف إلى عقل الحاكم، بل عليه أن يكون -لكي يبقى وينجح- جزءًا من عقل الحاكم، يُبرِّر له ما يريده، أو شارحًا للمتن، الذي يمليه عليه الحاكم المعصوم. وقد لا تكون شخصية (الحاجب)، أو (الوزير)، ملغاة تمامًا، لكن من المؤكد أن القرارات الكبرى، التي تتصل بالسيادة والحفاظ على (الدولة)، وطموحات صاحبها، تبقى في فترة كالتي عاش فيها ابن خلدون، غير قابلة للاجتهاد، أو التعدد في الرأي، وبالتالي فأقصى ما يستطيعه السياسي التنفيذي من تغيير، يبقى في مستوى الجزئيات المعاشية الاجتماعية، والاقتصادية، وليس في البناء العام. كان الإصلاح عن طريق الفكر هو المتاح، بل والمطلوب، حتى ولو تأخر الزمان بعض الوقت، فذلك خير من الإستسلام اليائس، وكان ابن خلدون مدركًا أن هذا هو حصاد تراكمات سياسية، ونفسية، وعقلية، سيطرت على المغرب والأندلس، بعد سقوط الموحدين في موقعة الأرك (609ه)، وظهور الدول الوارثة المتطاحنة في المغرب، وسقوط المدن الأندلسية، وانحسار الإسلام في الأندلس، في غرناطة ووادي آش تحت إمرة بني نصر القحطانيين. إن هذا الواقع المريض لم يكن يملك الدواء، لكنه كان يملك عوامل الإثارة التي تدفع الطبيب للبحث عن الدواء. كان ثقل الواقع السياسي والمعاشي، وما يكتنفه من أمراض وعوارض قدرية من الله (كالطاعون الأسود)، أو الخلافات السياسية القبلية، التي أفرزها خروج قطار المجتمع عن قضبانه الصحيحة. كان هذا الواقع بأوزاره، يقوم بعملية الشحن الكبيرة، لابن خلدون، وبخاصة أنه عاش هذا الواقع في أسوأ مستوياته، في المستوى السياسي العفن، وكان تراث ابن خلدون الموسوعي، ورصيده في الفقه الحضاري الإسلامي، والوعي التاريخي، يشدانه إلى العكوف على تقعيد وسائل الخروج من هذا الواقع.. إنه فقيه ومفتي، وهذا يقتضي استيعابه الكبير للمعطيات القرآنية، التي قدمت رصيدًا كبيرًا، لأحوال الأمم السابقة، صعودًا وانكسارًا. ويقتضي إستيعابه للسيرة النبوية الشريفة، والنموذج الأعلى، الذي قدّمه الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته في دولة المدينة الراشدة، ثم تجارب الأمويين والعباسيين السياسية والحضارية، كما أن ثقافته الشرعية تقتضي إلمامًا كبيرًا بأصول الفقه، وهو علم المنطق الإسلامي. كل هذه العناصر المكونة لثقافته، لا يمكن إغفال نصيبها في فكره وفي إبداعه، لا سيما وأنه ظل موصولًا بها، ولم ينقطع عنها، أو يعلن ثورته عليها، بل بقي يتقلب في مناصب القضاء، والإفتاء على الفقه المالكي، حتى أواخر أيام حياته في القاهرة. (لم يكن محيط ابن خلدون -الذي هو الواقع- عاجزًا عجزًا كليًا، بحيث إنه لم يجد في هذا المحيط أي تراث منهجي، أو مفهومي، يسعفه في تسمية وتحليل الواقع الماثل أمامه).. فهذا الخلاء أو (الفراغ) الكامل، غير ممكن في واقع ينتمي إلى حضارة عظيمة، ذات مصادر ثابتة حاضرة دائمًا كالحضارة الإسلامية. إن سيادة الفوضى، وضعف الفاعلية، وغياب العقل، وسطحية الارتباط بالمصادر لدى العامة والصفوة، هي العوامل التي تشل الواقع، وتجهض محاولات بعثه، حتى ولو كان المجتمع مكدسًا بالتراث الثري، والمفاهيم الفاعلة. إنَّ (الإرسال) موجود وقوي، لكن (الاستقبال) ضعيف وراكد. وكانت أكبر المعيقات، التي يواجهها ابن خلدون، تتمثل في ضغط هذا الواقع، وكان في حاجة ماسة إلى الفرصة التي يستطيع فيها الخروج من هذا الواقع وتجاوزه، وبالتالي رصده بطريقة منهجية تنظيرية في ضوء رصيده الثقافي، وثوابته الحضارية، ومعطيات الواقع أيضًا. وعندما جاد اللهُ عليه بالعُزلة في قلعة بني سلامة، وجدت الأفكار المختزنة فرصتها للبروز، فكان أن ولدت (مقدمة ابن خلدون)، كاملة الأعضاء، واضحة القسمات.. إنها لم تكن ثمرة هذه البيئة الراكدة، بل كانت نبتة شرعية لمصادر عظيمة، وموروث ثقافي، وحضاري كبير.