لا يجد الزائر إلى مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة هذه الأيام، أجواء العطلة بل النشاط والتنافس بين الطلبة الذين قرروا الإقامة داخل المدرسة خلال ”عطلة الربيع” بعد حصولهم على إذن من طرف وزيرة الثقافة نادية لعبيدي بقرار استثنائي. فتعبير الهيئات الرسمية عن تضامنهم المطلق مع مطالب الطلبة الإدارية والتنظيمية، أعطتهم فرصة جيدة، لتعرف المدرسة أجواء فنية وإبداعية جعلت من الإضراب لوحة فريدة من نوعها، ورغم ذلك، فإلى غاية كتابة هذه الأسطر لم يحدد الطلبة موقفهم من الإضراب غدا، هل سيواصلون مسيرة الاعتصام إلى إشعار آخر، أم يستأنفون الدراسة، خصوصا أن مطلب اعتراف وزارة التعليم العالي تحديدا بالشهادة الممنوحة للمتخرجين من المدرسة يتطلب آليات معقدة. تحت الضغط وتراجع مستوى التكوين وغموض طبيعة شهادة التخرج التي تمنحها المدرسة للمتخرجين منها، لم يجد طلبة مدرسة الفنون الجميلة إلا التوجه إلى الإضراب والاعتصام للرد على ”لامبالاة الإدارة” بمستقبلهم، وقد مر إضراب الطلبة بثلاثة مراحل مختلفة، فمنذ حوالي ثلاثة أسابيع كان المطلب الأساسي هو تنحية المدير، الذي استجابت له كمال شاعو عبر تقديم استقالته، لتدخل المرحلة الثانية بمجرد زيارة الوزيرة نادية لعبيدي إلى المدرسة، أين التقت بالطلبة وناقشت انشغالاتهم، وفي ظل صعوبة تحقيق جميع المطالب، اتفق الطرفان على إرساء أرضية جلسات وحوارات على المدى الطويل. قامت ”الخبر” بزيارة خاصة للطلبة للتقرب أكثر من ظروف إقامتهم الاستثنائية داخل المدرسة والورشات الفنية التكوينية التي يقومون بها خلال عطلة الربيع. ورشات في تعلم الكاريكاتير.. وأخرى لإنشاء مجلة اقتربت ”الخبر” من الطلبة لمعرفة يومياتهم خلال الإضراب وتسليط الضوء أكثر على مطالبهم التي يرفعونها، وقد حرصوا على ضمان زيارة قانونية لنا بعد أن قاموا بإبلاغ أعوان الحراسة داخل المدرسة بزيارتنا، استقبلتنا أولا المكلفة بالإعلام التي تم تعيينها من طرف زملائها الطلبة للتواصل مع الصحافة ووسائل الإعلام. توجهنا مباشرة إلى مقر إحدى الورشات التي أعدّها الطلبة بعدما قاموا بدعوة رسام الكاريكاتير أمين لبتر، دخلنا مقر المدرسة في حدود الساعة الثانية زولا، ولاحظنا أن الجميع منهمك بأداء مهمة معينة، بينما أكدت لنا المكلفة بالإعلام، أن اثنين من زملائها المكلفين بالتواصل مع الوزارة في طريقهم للقاء وزيرة الثقافة نادية لعبيدي بمكتبها وذلك لوضع الروتوشات الأخيرة حول مستقبل الإضراب غدا، حيث تنتهى العطلة ويجب على الطلبة اتخاذ قرار نهائي ”مواصلة الإضراب أم العودة إلى مقاعد الدراسة وتعليق المطالب إلى حين إشعار آخر”. عمل الطلبة عبر لجان قاموا بتشكيلها في مجالات معنية الإعلام،الإطعام،الإدارة وحتى المالية، مما حوّل مدرسة الفنون الجميلة إلى مؤسسة متكاملة يشرف عليها ويديرها الطلبة بتنظيم محكم. في ورشة تعلّم ”فن الكاريكاتير” كان حوالي عشرون طالبا ملتفون حول المشرف الذي كان يقدّم النصائح ويستمع إلى أسئلة وآراء الطلبة حول شكل مجلة المدرسة التي يريد الطلبة إعادة إحيائها بعد أن اختفت لسنوات، يعمل الطلبة حول طاولة كبيرة في جو صداقة دون رسميات، حيث يعطى لكل طالب حرية تقديم رأيه وعرض أفكاره دون قيود ويقترح تصوره للمجلة، وبينما كنّا نرقبهم من بعيد لاحظنا أحد الطلبة يحمل كاميرا ويقوم بتصوير الورشة وتصويرنا أيضا، واكتشفنا فيما بعد أن هذا الطالب كان يعدّ ”فيلما وثائقيا” حول المدرسة ويوميات الطلبة، كما أبلغنا فيما بعد أنه يشعر بالحزن لأن هذه المدرسة التي تعدّ مركزا وطنيا هاما في الفنون لا تتوفر على أرشيف مصور يؤرخ مراحلها. ساحة المدرسة.. للموسيقى والإبداع قام الطلبة بتحويل الساحة الرئيسية للمدرسة إلى فضاء إبداعي تعزف فيه الألحان والموسيقى، كما يقدّم العروض. فهؤلاء الطلبة الذين يحملون روح المبدعين الكبار لا يريدون من إضرابهم أن يكون عاديا، بل لوحة جميلة ترفع من مطالبهم عاليا وتكون رسالة إلى كل من يشكك في عشقهم للفن، وقد أنشأوا خلال أيام الإضراب معرضا للوحات التشكيلية التي قاموا برسمها، وهو معرض متجول نقل جزء منه إلى خارج المدرسة كي يتواصل مع الجمهور. إقامة استثنائية بمصارفهم الخاصة ”كيف يقيم الطلبة وهم بنات وأولاد” في عمر الزهور داخل مدرسة، من يتكفّل بمصاريف إطعامهم؟ هذا السؤال الذي يدور خارج أسوار المدرسة كانت له إجابة واضحة بين خمسين طالبا يقيمون بالمدرسة، ينحدرون من عدة ولايات عبر الوطن، حارسين على أن يكون الإضراب قانونيا، لهذا تم تخصيص قسم من المدرسة لإقامة البنات وقسم آخر للذكور يقيمون بالتناوب في المدرسة، للإشراف على تنظيم الإضراب ويومياته، كما يشرفون على صفحة الفايسبوك ”انفجار” التي تضم 3 آلاف شخص آمنوا برسالة الطلبة وبحقوقهم، كما يتكفّل الطلبة بجميع مصاريفهم فيما يخص الإطعام والتنقل. المدير المستقيل لا يزال يقيم بالمدرسة كان المطلب الأساسي الذي رفعه الطلبة يوم 15 مارس الماضي، رحيل المدير كمال شاعو، وقد حقّق الطلبة ذلك بإصرارهم ولم يجد المدير أمامه إلا خيار تقديم الاستقالة والاستجابة لمطالبهم بعد أن حمّلوه مسؤولية تردي الأوضاع وسوء التسيير، الوزارة من جهتها وجدت نفسها في ”ورطة” أمام شغور المنصب وعدم وجود بديل، ورغم ذلك فلا يزال المدير يقيم وعائلته في المدرسة ولم يغادرها بعد ويعتقد الطلبة أن رحيل المدير بشكل كامل بات أمرا أساسيا ليفسح المجال أمام مدير جديد يقود القافلة ويتدارك ما فات الطلبة من فرص للتكوين في ظروف حسنة. قصص من داخل المدرسة زيارتنا إلى مدرسة الفنون الجميلة، حملت مفاجآت متعددة، خصوصا لقاء العديد من النماذج الفنية الذين آمنوا بالفن ”رسالة ومستقبل وحياة”، فالطالب عبد الرحمان داودي قرر السفر قبل نحو أربع سنوات إلى العاصمة ليلتقي مع عشقه الأبدي ”الفن”، فبعد أن تحصّل على شهادة البكالوريا كغيره من شباب الجزائر الناجح التحق مدفوعا برغبة المجتمع والعائلة للدراسة في كلية”العلوم الدقيقة” ولكن بعد سنتين من الدراسة وجد أن حبه للإبداع والفن أقوى من أي إرادة أو منصب اجتماعي، لهذا قرر الالتحاق للدراسة بمدرسة الفنون الجميلة بعد أن اجتاز الاختبار بنجاح. يقول عبد الرحمان، إن السنة الأولى من الدراسة حملت معه طموحات عالمية، رافقه السهر والمثابرة على الدراسة حتى نجح في أن يكون الأول على الدفعة بين 167 طالب، لكن هذا الحلم بدأ يصطدم بالواقع بعد مرور سنتين من الدراسة، حيث تحولت الأحلام إلى كوابيس أمام ”بيروقراطية الإدارة” واكتشافه أن برامج التكوين في المعهد قديمة لا تواكب سرعة التطور الذي وصل إلى العالم في مجال التصميم. كما يقول عبد الرحمان إن أكبر مشكلة في المدرسة هو غياب الجانب التطبيقي واعتماد المدرسة على منهاج تدريسي قديم، وهو ما فجّر موجة غضب الطلبة، وما زاد الطين بلة، حسبه، هو الشهادة التي تقدمها المدرسة ولا تحمل ختم وزارتي الثقافة أو التعاليم العالي رغم وجود اتفاق قانوني يشترط ذلك. مروى المكلفة بالإعلام ”تركت دراسة العلوم لأن عشقي للفن أكبر” تقول الطالبة مروى” 23 سنة”، إن اختيار الفن في الجزائر يحتاج إلى التضحية في مجالات كثيرة، خصوصا بالنسبة للفتاة التي تقف أمام المجتمع والأسرة أحيانا، فالمجتمع ”لا يفهم الفنان” ورغم ذلك، فإن الطالبة مروى التي تخلت هي الأخرى عن دراسة ”التكنولوجيا” بالجامعة في سبيل الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة، فهي تعتقد بأن ”الفنان لديه دور وواجب ورسالة عليه القيام بها مهما كانت الظروف” في معركة لترسيخ القيم الفنية لدى المجتمع. فحسب مروى، فإن إحساسها بأهمية دور الفنان هو ما يقودها على مواصلة الدراسة للسنة الرابعة بالمدرسة ويجعلها تحلم بأن تكون أقوى في المستقبل ليس بمناصب سياسية وإنما ب« ريشتها الفنية” التي تريد أن ترسم الجزائر أجمل لوحة.