من يتابع وسائل الإعلام الأجنبية يجد الكثير من العبارات والجمل المنحوتة التي تحاول أن تصرف الناس عن تسمية الأشياء بأسمائها أو تحثهم على استبدالها بمسميات أخرى. فالمتشرد أصبح، على لسان السياسيين والصحفيين وممثلي السلطات العمومية، شخصا لا يملك سكنا قارا! وأحفاد الأحفاد الذين هاجروا من القارة الإفريقية أو الآسيوية أو جنوبأمريكا إلى القارة الأوروبية أصبحوا يحملون مسمى “الأقليات المرئية”، والأمريكي ذو البشرة السوداء في الولاياتالمتحدةالأمريكية أضحى يسمى الأمريكي من أصل إفريقي (لاحظوا أن الرجل الأبيض في أمريكا لا يسمى أبدا الأمريكي من أصل أوروبي)، والأشخاص ذوو البشرة غير البيضاء غدوا يعرفون بالملوّنين، وخادمة البيت تحولت إلى مساعدة عائلية، والمعاقون أصبحوا يسمون ذوي الحاجات الخاصة، والكَنَّاسُ أطلق عليه مسمى تقني المساحات، والبطال أو المعطل عن العمل تحول إلى “باحث عن عمل”، والقصف الجوي تحول إلى عمليات جراحية، والإبادة أضحت تسمى تطهيرا عرقيا، و«الأضرار الجانبية” حلّت، في حديث وسائل الإعلام، محل قتلى الحرب، وغيرها من الكلمات التي تُسعد الروائية “هيرتا مولر”، الحائزة على جائزة نوبل للآداب، التي تقول إنها لا تستطيع فعل شيء آخر عند القراءة سوى البحث عن الكلمات، فإن وجدت مثل الكلمات والجمل المذكورة ستقف عندها مليًا لأنها أصبحت تشكّل متن ما اصطلح عليه “المستساغ سياسيا”، وهو ترجمة حرفية ل(politically correct) المتداول في اللغة الإنجليزية. لقد ظهر هذا المستساغ في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وانتقل إلى اللّغة الفرنسية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، فوظفه الصحفيون والسياسيون وممثلو السلطات العمومية والمثقفون ومحترفو الإشهار بشكل مكثّف. ويُقصد به طريقة في التعبير للتخفيف من وطأة تضمينات بعض الكلمات الحادة التي قد تصدم البعض وتجرح حساسية البعض الآخر أو توحي بميز عنصري تجاه مجموعة بشرية أو فئة معينة لجنسها أو سنها أو لون بشرتها أو شكلها أو أصلها أو مهنتها. لقد عرف العرب القدماء هذه الصيغ التعبيرية، والدليل على ذلك أنهم وصفوا الأعمى بالبصير، والأسود بذي البياض.. وهذا الأسلوب في التعبير لا علاقة له بالتورية التي تعد فنا من فنون البديع في اللغة العربية، والتي تحمل ازدواجية المعنى. المعنى الأول مألوف وهو المستبعد، والمعنى الثاني البعيد وهو المقصود. إن القول “المستساغ سياسيا” لا يحظى بالإجماع في أي مجتمع. فالبعض يراه تعبيرا عن حسن الذوق وتهذيب الكلام الذي يوحي باحترام الغير وتقديرهم، و«تطهير” الخطاب من كل إشارة تحمل أفكارا مسبقة أو ذات بعد عنصري أو تحقيري. بيد أن البعض الآخر يعتقد أن النبش في هذا القول المستساغ، يكشف أنه غير مقبول أصلا، لأنه يعمل من أجل تدجين اللّسان وتنمطيه بشكل معياري، وملئه بالكلمات التي يُعتقد أنها محايدة من أجل ترضية الضمير على الصعيد اللفظي وليس العملي. ليس هذا فحسب، فالمفكر الفرنسي جاك دريدا نعته، بمعية إليزابث رودنسكو، في كتابهما الموسوم “ماذا عن الغد؟”، بأنه شعار مسلح اخترعته الجماعات الأمريكية المحافظة النافذة للتحكم في اللّغة، بحجة محاربة تجاوزات بعض الأوساط اليسارية، وانتهى إلى استهداف كل فكر نقدي. أعتقد أن المسألة تتعدى هذا المستساغ من القول، بل ترتبط بمكر اللغة وتطويع كلماتها ولوي عنقها. فالرّوائي أمين معلوف يرى أن الكلمات غير بريئة تعمل على تغيير المجتمع، إذ يذكر أن كلمة “عدواني” كانت ذات دلالة سلبية قبل ثلاثين عاما، لكنها أصبحت اليوم إيجابية وتدل على الإقدام والجرأة، بفعل التسويق والإشهار والإعلام. وهذا المثال يثبت، مرة أخرى، أن معاني الكلمات غير ثابتة. إنها تتحرك وتتلون وتتبدل حسب السياقات والعصور. وهذا الرأي لا يعارض ما أكده الروائي ستندال في روايته الموسومة: الأحمر والأسود، والتي يقول فيها إن اللسان مُنح للإنسان من أجل إخفاء أفكاره. فترديد السلطات العمومية والصحفيين الجزائريين شعار فتح المجال السمعي - البصري “يخفي أفكارا مضَّمْرُةً لأن هذا المجال كان مفتوحا على مصارعيه منذ النصف الثاني من الثمانينيات من القرن الماضي، أي بعد أن أصبح بإمكان المشاهد الجزائري التقاط برامج الفضائيات الأجنبية. وكلمة إعادة هيكلة المؤسسات التي شُرع فيها خلال الفترة المذكورة أعلاه كانت، هي الأخرى، تستر أفكارا لم تتضح إلا في مطلع الألفية الحالية. حتى الخوصصة التي شاع تداولها في وسائل الإعلام الجزائرية، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كانت تخفي عكس ما تفصح عنه؛ أي النية في غلق أبواب الشركات الوطنية في قطاع النسيج والجلود والخشب والورق والبناء، وتسريح عمالها، وإهمال تركَتها دون استخلافها بمستثمرين خواص أو أجانب أقوياء وفاعلين! أخيرا، ألم يقل أفلاطون إن فساد المدينة يبدأ بتزوير الكلمات؟