استعمل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في البيان، الذي أعطى فيه موقفه من الصراع المحتدم تحسبا لانتخابات الرئاسة، ألفاظا خطيرة. فقد تحدث عن ”أوساط تخرق الأجواء” و”التكالب” و”يهز استقرار البلاد وعصمتها”، وعن ”تعريض الجيش والمؤسسات الدستورية الأخرى إلى البلبلة”. وفي كل ما قاله توجد حقيقة لا غبار عليها: الاحتقان الذي تعيشه البلاد سببه تشبث بوتفليقة بالسلطة ورفضه التداول على الحكم. ما يشد الانتباه في بيان بوتفليقة أول أمس، بمناسبة حادث تحطم الطائرة العسكرية في أم البواقي، أمران أساسيان. الأول أنه ”نفض يديه” من عمار سعداني بعد هجومه الحاد على جهاز المخابرات وقائده. غير أن هذا الموقف لا يستقيم، لأن سعداني ما كان يجرؤ على توجيه تلك التهم الخطيرة ل”توفيق” لو لم يكن بوتفليقة رئيس جبهة التحرير الوطني التي يوجد سعداني على رأس أمانتها العامة. لا يمكن لبوتفليقة أن يتملص من مسؤوليته في هجوم سعداني على المخابرات، لأن كل المتتبعين متأكدون بأن الإيعاز صادر من أشخاص محسوبين عليه. قد يكون هؤلاء من الصف الرابع أو الخامس أو حتى العاشر، في طابور المتزلفين لبوتفليقة ولكنهم في كل الأحوال ينتمون إلى حاشيته. أما الأمر الثاني فهو أن الرئيس استغل حادثا يثير الاستعطاف الإنساني، ليقحم الصراع السياسي المحموم حول العهدة الرابعة والانتخابات الرئاسية المقبلة، والذي يخصه هو شخصيا ويتعلق بمصير عائلته والمقربين منه. فما الذي منع الرئيس من التدخل لوقف كرة الثلج في بداية تدحرجها؟ أليس غريبا أن يكشف بوتفليقة عن موقفه من قنبلة سعداني، بعد قرابة 15 يوما من إلقائها في ساحة التداول السياسي، بينما هو يعلم، أو على الأقل يعلم شقيقه ومستشاره بأن المتفاعلين مع هجومات سعداني، تعاملوا معها على أنها صادرة عن رئاسة الجمهورية؟ واستقر لدى قطاع واسع من المهتمين بالظرف السياسي الدقيق، بأن سعداني ناطق باسم حاشية الرئيس إن لم يكن الرئيس شخصيا. ويستدعي دخول بوتفليقة على الخط بشكل علني، عدة ملاحظات. أهمها أنه بعث برسالة تعزية إلى نائبه في وزارة الدفاع، وليس للمؤسسة العسكرية ولا لعائلات الضحايا، بعكس ما فعله الوزير الأول. وتحدث بوتفليقة عن ”أوساط تخرق الأجواء قبيل كل استحقاقات”، وأنها ”متعودة” على ذلك! من دون توضيح من هي هذه ”الأوساط”؟ فهل يقصد الأحزاب التي قاطعت الانتخابات؟ أم الأطراف التي عبّرت عن رفضها العهدة الرابعة، وكان آخرها موقف عبد النور والإبراهيمي وبن يلس؟ أم أنه يقصد سعداني وحده؟ وقد استخدم الرئيس كلمة ”تكالب” وهي ثقيلة المعنى. فإذا كان يقصد بها الصراع على السلطة، وهذا هو المرجّح، فهو اعتراف ضمني بوجود مقاومة لاستمراره في الحكم. وجاء في حديثه أيضا ”المساس بوحدة الجيش” و”هز استقرار البلاد”، و”تعريض الجيش والمؤسسات الدستورية الأخرى إلى البلبلة”، وإذا وصلت أوضاع الجزائر إلى هذه الخطورة، فهذا يعني أن بوتفليقة أخلّ بأهم تعهداته الدستورية، عندما أقسم على السهر على السير العادي للمؤسسات والنظام الدستوري (المادة 76 من الدستور). وإذا تعرض الجيش والمؤسسات للانقسام والبلبلة كما يقول، فالسبب هو إصراره على البقاء في السلطة مهما كان الحال. مع أن رئيسين قبله تعرضا لنفس الموقف ففضلا مصلحة البلاد، على المواجهة مع الجيش أو جزء منه. الشاذلي استقال تحت ضغط العسكر، وزروال فعل نفس الشيء عندما اشتد عليه الضغط من رفاقه في المؤسسة العسكرية. أما بوتفليقة فيفضّل أن يرحل الجميع ليبقى هو! ثم إن هناك جزئية هامة في الغليان الذي تعيشه البلاد.. التفاعل القوي مع الجيش وجهاز المخابرات وصراعه المحتمل مع رئيس الجمهورية، لم ينطلق من تصريحات سعداني النارية ضد المخابرات و”توفيق”، وإنما من التغييرات التي أجراها بوتفليقة في سبتمبر الماضي في الجيش وجهاز المخابرات، والتي تركت انطباعا قويا بأن شيئا غير عادي يجري على صعيد التعايش بين الأشخاص في المؤسستين المسيطرتين على الدولة.