ما الذي أوصلنا إلى هذه الحالة المتردية، وإلى هذا المستنقع المتعفن المليء بالتماسيح والأفاعي التي توشك أن تلتهم كل شيء.. وما الذي جعل هذه الزمرة الفاسدة تتحكم في بلد بحجم ومقدرات الجزائر ورقاب أربعين مليون جزائري، وتتمادى في عبثها السياسي واستخفافها بعقولنا وتقامر بمستقبل البلاد والعباد في سبيل أن تبقى في الحكم، تمارس فسادها وتوغل في الدوس على القوانين والدستور ومؤسسات الدولة.أليس صمتنا نحن الشعب بكل أطيافه، بداية من المواطن البسيط الكادح وراء لقمة عيشه إلى المثقفين والطلبة والفنانين والرياضيين وصولا إلى السياسيين الشرفاء ممن لم تتسخ أيديهم بقاذورات السلطة، هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة التي تعجز الكلمات عن وصفها، وفتح الباب واسعا أمام الرئيس ومحيطه ليُحيلوا الدولة إلى بناء فوضوي هشّ. ألم نرض نحن الشعب بدور المتفرج على هذه المسرحية الهزلية، التي بدأت فصولها الأكثر خزيا وعارا بتعديل الدستور وفتح العهدات من دون الرجوع إلى الشعب، ولن يكون آخر فصولها ترشحُ رئيس مريض مختف عن الأنظار لاستخلاف نفسه في أعلى منصب في الدولة؟ نعم فينا من صفق وهتف بحماسة لغاية في نفسه، والعوام من الناس صمتت ورضيت بالأمر الواقع، لأن الجروح لم تندمل بعد، ولأن عشر سنوات من الخوف والدم والدموع مازالت ذكرى متقدة في ذاكرة الجزائريين. أما من يسمون نخبة المجتمع من المثقفين والإعلاميين والمحامين والقضاة والكتاب وغيرِهم فلم نسمع لهم صوتا ولم يتجرأ أحد منهم على إبداء موقف علني وصريح يرفض فيه هذه الأفعال المشينة في حق الجزائر وشعبها، اللهم إلا بعض الهمسات هنا وبعض الغمزات هناك. لقد عشنا طيلة خمس عشرة سنة ونحن نتفرج على عصبة من المنتفعين والمافياويين يُحكمون سيطرتهم على البلاد ويزجّون بها في مسالك ملتوية، علمنا بداياتها واللّه وحده يعلم نهاياتها. وحتى لما عصفت الثورات ببلدان عربية مجاورة وغير مجاورة ظل الشعب المغلوب على أمره صامتا، ولم تحرّك النخب ساكنا، ماعدا ذلك التململ الذي قامت به بعض الأحزاب التي غرفت من عسل النظام، وأدركت بعد ذلك أنها ارتكبت خطأ فادحا فقررت التحرك في الوقت بدل الضائع لاستدراك الفرصة الضائعة، وهذه الأحزاب بفعلتها هذه فقدت كل مصداقية وكل تأثير يمكن أن تحدثه في الشارع. لقد ظل المجتمع الجزائري، وعلى مدار ثلاث سنوات كاملة، منذ انطلاق الثورات العربية، يراهن على التغيير السلمي الذي يأتي بمبادرة من النظام القائم نفسِه، وازدادت وازدهرت الآمال عندما خرج علينا الرئيس في ماي 2012 ليقول لنا في خطاب مدوّ صدح فيه بملأ صوته إن زمانه انتهى وإنه يجب تسليم الشعلة إلى جيل جديد من القيادات، ليعود هو أو من معه ويقضون على آخر أمل في التغيير المنشود بالترشح لعهدة رابعة وهو على فراش المرض. للأسف الشديد لم يستوعب هذا النظام الدروس التاريخية مما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن، وآخرها ما حدث ويحدث في سوريا. لقد ظلت الأنظمة في هذه الدول تنكر الواقع والوقائع إلى آخر لحظة وضيّعت فرصا كثيرة كان يمكن من خلالها إحداث التغيير السلمي وتجنيب هذه البلدان ويلات المؤامرات والتدخلات الخارجية، التي دأب نظامنا على تذكيرنا بها وتحذيرنا منها، ولم يتذكر أن ما يحدث في سوريا اليوم نتيجة التدخلات الخارجية ما كان ليحدث لو أن الرئيس بشار الأسد ومن معه استغلوا ما عرف بربيع دمشق، وقاموا بالإصلاحات المطلوبة. وللأسف الشديد أيضا أننا نحن الجزائريين لم نتعلم من التجربة التونسية والمصرية؛ لم نتعلم أن إسقاط هؤلاء لأنظمتهم الفاسدة لم يكن وليد الصدفة، وإنما كان مسيرة أعوام وأعوام من الكفاح السلمي المستمر لشباب ومثقفين وإعلاميين وكتاب وفنانين ومحامين وقضاة، تعرضوا خلالها لكافة أنواع القمع والاضطهاد والتهديد والتعذيب والتشهير. ولذلك كله، علينا أن نعتبر ونطوي صفحة الصمت الذي طال أمده ولم يثمر شيئا إلا مزيدا من الانسداد والتأزم، ليس بعد 01 مارس، على الذين تحركوا يومها ونزلوا إلى ساحة أودان، وعلى رأسهم الناشطة ”أميرة بوراوي” التي نادت إلى هذه الوقفة وكافة الإعلاميين الذين تواجدوا بكثرة، وعلى كل من شارك من قريب أو بعيد وتفاعل على صفحات التواصل الاجتماعي ضد اغتصاب البلاد، علينا جميعا نحن الغيورين على الجزائر أن نستمر وأن نراكم كفاحنا وألا نيأس أو نخشى شيئا، وعلينا أن نتوقع من هذا النظام كل شيء مادام قد سوّلت له نفسه أن يفعل بالجزائر ما فعل. علينا ألا نترك من ينظر إلينا بعين الشك والريبة أن يقنعنا بعدم جدوى ما نقوم به. علينا ألا نولي اهتماما لكل تهم التخوين والعمالة للخارج التي قد تطال كل من يقول كلمة حق، وأن نجعل خوفنا على الجزائر، وليس خوفنا منهم أو من آلة قمعهم، هو من يحركنا ويزرع فينا الأمل والقوة. على شرفاء هذا البلد، رجالا ونساء، أن يهبّوا هبّة رجل واحد في وجه الظلم الذي لحق بالجزائر وأبنائها من هذا النظام ورجاله الفاسدين. والأهم من ذلك كله علينا أن نعي جميعا ونفهم أن المشكلة ليست في رجل واحد هو رئيس الدولة أو في عهدة رابعة أو خامسة أو حتى عاشرة، المشكلة في نظام كامل أصابه الفساد، وبلغ ذروة العفونة خلال الخمس عشرة سنة الماضية، ولم يبق له بعد العفونة إلا أن يتحلل وإلى مزبلة التاريخ.