مهنة بسيطة تدرّ أرباحا خيالية يحترفها الناس من أجل تضليل العدالة بدلا من تنويرها، وبالتالي كسب أرباح طائلة جدا، وهي لا تختلف من حيث الإدمان عليها والأرباح الخيالية التي تدرّها عن حرفة المتاجرة بالمخدرات. والطامة الكبرى أن الظاهرة لم تعد محصورة في أروقة العدالة، بل امتدت إلى كل القطاعات، خاصة الإدارية منها، مثل البلديات والدوائر ومراكز الشرطة والدرك وغيرها، لتظل بذلك شهادة الزور من ”المهن القليلة” التي تدرّ الملايين يوميا على أصحابها. والأمثلة الحية التي وقفت عليها ”الخبر” مدهشة فعلا، سواء في قطاع العدالة أو البلدية أو الدائرة أو المصالح التنفيذية الأخرى. وخلال تنقّلنا إلى مجلس قضاء بجاية اتصلنا بعدد من المحامين ورجال القانون، الذين اعترفوا أن ظاهرة شهادة الزور أصبحت تهدد مصداقية العدالة، بسبب كثرة القضايا المطروحة، واقترح الكثير منهم تنظيم أيام دراسية لحصر الظاهرة والقضاء عليها، أو على الأقل التخفيف من حدّتها وخطورتها. إدمان جديد اسمه شهادة زور يقول عدد من ”الممتهنين” لهذه الحرفة إن الإدمان عليها يجعل الإنسان خاضعا لها بصفة مطلقة، وبعد مرور الوقت والتعوّد مع المبالغ المالية الكبيرة يصبح من المستحيل التخلّص منها، رغم إدراكه للعواقب الوخيمة التي قد تنجر عن تصرّفه، مثل إيداعه السجن أو ذهابه ضحية تصفية حسابات، وهو يدرك كذلك أن مهنة شهادة الزور تجرّده من إنسانيته لتلبسه ثوب الوحشية لما يقدّم شهادة غير صحيحة يضلّل بها العدالة، ويغرق بذلك شخصا آخر في بحر المشاكل، مثل إيداعه السجن دون سبب حقيقي، أو تعبيد الطريق لضحية لدفع غرامات مالية خيالية وغيرها من الأضرار التي تلحق بأناس دون ذنب يذكر. ويرى البعض أن شاهد الزور أصبح ينافس حتى المحامين والقضاة في حجم المداخيل، خاصة وأن ”أتعاب” شهادة الزور تقيّم على حسب نوع وقيمة الشهادة والقضية، وتضيف مصادرنا أن بعض الشهادات تصل قيمتها إلى عدة ملايير، خاصة لما يتعلّق الأمر بالاحتيال المفضوح. شهادة بملايير! وخلال اطّلاع ”الخبر” على نماذج من قرارات الإحالة على مستوى العدالة، تبيّن لها فعلا أن شهادة الزور ليست في الشكل والمستوى الذي يتصوّره رجال القانون، بل أكثر من ذلك بكثير، وهو الأمر الذي دفعنا إلى إنجاز هذا التحقيق، خاصة وأن دفعات التخرّج بدأت تتهاطل، وشبح تبييض الأموال دخل النفق الذي لا يمكن التحكم فيه. وقد تكون بجاية مجرد نموذج بسيط لما يحدث على المستوى الوطني، علما أن الطرق والنتائج هي نفسها و«البورجوازيون” الجدد يظهرون يوميا كالفطريات ليبهروا الناس من حيث مصدر ثرواتهم التي تجاوزت عتبة المعقول، دون أن تتدخل أي جهة لمساءلتهم أو البحث عن مصدر ثروتهم التي يعترف الجميع بأنها ”مشبوهة”. شاهد زور.. مقر دون عنوان قبل سنوات قليلة بدأت مجموعة من الشباب تتخذ الأرصفة المتواجدة بالقرب من مقرات مصالح الحالة المدنية أمكنة لهم، وبأيديهم وثائق هوية وبطاقات التعريف الوطنية، وكان هؤلاء يصنفون ضمن ”الشهود الصغار”، لأنهم يكتفون بالتوقيع على شهادات عدم العمل أو لتحرير وثائق إدارية أخرى مقابل مبلغ رمزي، يتراوح ما بين 50 دينارا إلى 100 دينار، لكن مطاردة مصالح الأمن لهم دفعتهم إلى تغيير الطريقة، والتي تتمثل في ترك ممثل واحد عنهم، يكون على اتصال بالآخرين يطالبوهم بالتدخل واحدا تلو الآخر. وفي بعض القرى والبلديات ”شهود الزور” معروفون لدى عامة الناس، مثلما هم المحامون والأطباء معروفون، حيث كل من يحتاج إلى ”خدمتهم” يعرف أين يجدهم، سواء في المقاهي أو في بيوتهم، وهناك يتم التفاوض حول طبيعة الوثيقة المراد تحريرها لتقييم حجم ”شهادة الزور”. ويبقى قطاع العقار التابع للأملاك الوطنية والأوقاف هو الأكثر تضررا من هؤلاء، حيث تؤكد مصادر موثوقة أن 70% من شهادات الحيازة التي تحررها مصالح البلديات، عبر مختلف مناطق ولاية بجاية التي أخذناها كمثال فقط، مبنية على أساس شهادة الزور، حيث لا يجد أي شخص يرغب في استخراج شهادة الحيازة لقطعة أرض ليست ملكا له صعوبة في ذلك، بعدما يستنجد بخدمات شهود زور يحضرون بوثائقهم إلى مصالح البلدية، ويوقّعون بصفة عادية مقابل حفنة من المال الحرام. وحسب المصادر نفسها، فإن قرى بأكملها ببلدية بجاية أنجزت حديثا، وبناء على شهادات زور، مثل قرى احدادن أوفلا وتقليعت وإحداذن بوادى، تيزي وغيرها، حيث لا أحد من السكان المقيمين في هذه الأحياء يملك عقودا شرعية، بل أحسنهم من يتوفر على وثيقة ضريبة الدمغة التي تحرر على شاهدي زور، باعتبار أن الأراضي المعنية كانت أصلا ملكا لمحافظة الغابات والتي لم تعرف كيف تحافظ عليها، والبعض الآخر يبيع ويشتري مستعينين بشهادة الحيازة التي تبنى على أساس شهادة زور. بمصلحة الحالة المدنية رفض الكثير من الأعوان فتح الموضوع لسبب معروف وهو الخوف، رغم أن أغلبهم يؤدي عمله بشكل عادي، لأن المسؤولية يتحملها الموقّع على الوثيقة وليس محررها، وهو ما أكده لنا أحد المنتخبين الذي قال إن الإشكال مطروح على مستوى المتابعة اللاحقة لهؤلاء الشهود. وحسبهم، فإن غياب المتابعة وراء تمادي هؤلاء الشهود في تضليل العدالة ومصالح البلدية وإلحاق أضرار بليغة بالأملاك الوطنية. أفلام رعب يخرجها شهود زور في قاعات المحاكم وقفت ”الخبر” خلال إعدادها للملف على نماذج كثيرة لشهادة الزور وغالبيتها الساحقة متعلّقة بالعقارات، حيث من بين القضايا التي أثّرت على الرأي العام كثيرا قضية مواطن جزائري مغترب ميسور الحال، قرر أن يعود إلى أرض الوطن لاستثمار أمواله في قطاع السياحة، وبدأ في إنجاز فندق سياحي بقرية بوليماط، ولما أنهى الأشغال كلّف أحد أقاربه بتسييره، إلا أن هذا الأخير استغل غياب صاحب الفندق واستعان بشهود زور واستخرج شهادة الحيازة، ومن خلالها سجل تجاري، ثم شرع في استغلال الفندق، ولما عاد صاحب الفندق وأدرك ما حدث لجأ إلى العدالة، وبعد مدة طويلة من الزمن اقتنعت العدالة أن شهادة الحيازة مزوّرة، ثم أصدرت حكما يقضي بإلغائها مع إدانة شهود الزور بخمس سنوات سجن لكل واحد منهما، وخمس سنوات سجنا نافذا لمزوّر الشهادة، مع دفعهما مبلغ تعويضي مقدر بحوالي 100 مليون سنتيم للضحية، وباءت جميع محاولات القضاة بانتزاع اعتراف عن المبلغ المحصّل عليه بالفشل، وأن غياب التنفيذ جعل الحكم فارغا من محتواه. وذكر مجموعة من المواطنين بقرية بأعالي مدينة تيشي أن خبيرا عقاريا جرّدهم من كل أراضيهم التي يستغلونها منذ عشرينيات القرن الماضي، مستعينا بشهود زور، حيث الملّاك الجدد لهذه الأراضي قدّموا مبالغ خيالية من أجل الاستحواذ على هذه الأملاك العقارية، وهؤلاء جميعا استعانوا برئيس الجمهورية عن طريق رسائل مفتوحة يطالبونه بفتح تحقيقات لكشف الحقيقة التي طمستها شهادة الزور، لكن دون جدوى. كما وقفنا، في السياق ذاته، على قضية امرأة متزوّجة يكرهها جميع أفراد عائلة زوجها إلا هو ودبّروا لها مكيدة أخلاقية عن طريق شهود زور، وتمكنوا من إقناع زوجها بتطليقها، وهو ما حدث لكن الزوج لم يتوقّف عند هذا الحدّ، بل باشر التحقيقات بمفرده إلى أن توصل إلى الحقيقة التي يبحث عنها، حيث استغل دقائق احتضار عمّه ليقسم عليه باللّه ليكشف لها الحقيقة أن زوجته كانت وفية، وأن شهود آخرون تلقوا مبالغ مالية مقابل الإدلاء بشهادة زور. شهادة الزور.. مرض أخلاقي وجريمة في حق الإنسانية يرى عدد من الضحايا أن العدالة لا تتعامل بشكل جدّي مع جريمة شهادة الزور، اقتناعا منها أن الشاهد الذي يحضر إلى المحكمة ويؤدي القسم هو شاهد إثبات وليس شاهد زور، ويبقى عنصرا مكملا لرسالة العدالة، وهذه السياسة، حسب هؤلاء، هي ما جعل عديمي الأخلاق والضمير يتمادون في جرائمهم مستغلين امتياز اللاعقاب، لتتحوّل بذلك شهادة الزور إلى سلعة تجارية يروّجونها على نطاقات أوسع لتحقيق أرباح أكبر. ويقول أحدهم إن امتهان شهادة الزور لفترة طويلة جعلته يتقن ويتحكم في كل تقنيات الحيل الماكرة في التصريح بالشهادة الباطلة أمام القضاة والمحققين في الضبطيات القضائية. وفي كثير من الحالات ساهمت شهادته في إصدار أحكام قضائية كارثية على أشخاص أبرياء، لكن المال الوسخ أعماه وضميره لم يكن بوسعه تأنيبه، هذا ما جعل أحد المحامين يؤكد أن ”مهنة شهادة زور خبيثة، تسكن المرض الخبيث في عقول ممتهنيها، وفي كثير من الأحيان تكون وراء حدوث أزمات عصبية أو قلبية”، ويضيف المتحدث أن الملفات العقارية والأراضي المتنازع عليها قد يجني من ورائها شاهد الزور الملايين الكثيرة مقابل إدلائه بوقائع غير صحيحة. رأي رجال الدين: ”شهادة الزور.. كارثة أخرى تهدد المجتمع” أجمع كل الأئمة الذين طلبنا منهم رأي الدين في المسألة أن شهادةَ الزُّورِ مَفْسَدَةٌ للدين والدنيا وللفرد وللمجتمع على حدّ سواء، إلى جانب كونها معصية للّه ورسوله، وهي كذب وبهتان وضياع للحقوق وإسقاط للعدالة، وزعزعة للثقة والأمانة والأمن أيضًا في المجتمع، وإِرْبَاكٌ للأحكام وإشغال للمسؤولين على اختلاف مسؤولياتهم. وشهادة الزور تعادل الشرك باللّه مثلما ورد في الحديث: ”عدلت شهادة الزور الشرك باللّه”، وما قيل في شهادة الزور لقول اللّه تعالى ”وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ”. ولِعِظَمِ قُبْحِ شهادةِ الزورِ وتأكيد تحريم قول الزور وشهادته كان الرسول متكئًا عندما أخبر عن عدد من كبائر الذنوب، ثم جلس عندما ذكر قول الزور وشهادة الزور وأصبح يردّدها حتى قال مَنْ سَمِعَهُ: لَيْتَهُ سَكَتَ. فهذا يَدُلّ على أن الذي يدفع ويحمل الشخص على قول الزور وشهادته أشياء متعددة، منها: العداوةُ والبغضاءُ والحسدُ والغلُّ والحقدُ والانتقامُ وغيرُ ذلك، فلما كانت مفسدةُ الزور متعدّيةً إلى غير الشاهد بخلاف الشرك المقتصر مفسدته على الشخص غالبًا لذلك كان الاهتمام بذلك من رسول اللّه الذي قال: ”ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين. وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”. وقال أيضا: ”من لم يدع قول الزور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. من المسؤول عن تفشي ظاهرة شهادة الزور في المحاكم والبلديات؟ يؤكد أغلب المحامين الذين اتصلنا بهم أن الظاهرة استفحلت في المجتمع، رغم إدراك الجميع بالأضرار التي تلحقها بالعدالة والبلديات والدوائر وحتى للأفراد، ليتساءل أحدهم: ”كم من طفل تيتّم؟ وكم من زوجة صالحة تطلّقت؟ وكم رجل صادق دخل السجن لسنوات؟ وكم من صاحب أملاك لم يعد يملك شيئا؟ وكم من صاحب حق حُرم منه بسبب شهادة الزور؟”، ويؤكّد هؤلاء أن المشكل لا يكمن في وفرة النصوص القانونية الردعية للظاهرة، ولكن في تطبيقها، ليتساءل آخر ”كم من شاهد زور حكمت عليه المحكمة بسنوات سجن لم يقض يوما واحدا فيها؟”. ويرى هؤلاء أن العدالة لا يجب أن تتساهل مع شهود الزور، لأن ذلك سيُفقِد القضاء مصداقيته ويحرمه من ثقة المواطن، وقال لنا أحد ضحايا شهود زور إنه خسر كل ما يملكه بسبب شهادة زور لشخصين ضلّلا العدالة، ورغم أنها أنصفته في الأحكام الصادرة، إلا أن عدم تنفيذها أبقاها مجرد أحكام فارغة، وهو ما جعل المهنة الجديدة تتوسّع أكثر مستغلة مرحلة اللاعقاب. وضعية اللاعقاب جعلت السماسرة يسابقون الزمن في الاستيلاء بطرق غير قانونية على أكبر نسبة من أملاك الدولة، سواء أراضي أو غابات، وما يحدث اليوم بمنطقة سيدي بودرهم بأعالي مدينة بجاية، وبمنطقة بئر السلام، ومنطقة إرزا خير مثال على تساهل مصالح الدولة مع الناهبين الذين يستعينون بشهود زور معروفين لإضفاء الشرعية على أملاك لم يشتروها ولم يرثوها عن آبائهم. ويرى عدد من محدثينا أنه حان الوقت لتتحرك السلطة التشريعية لسنّ قوانين رادعة لشهادة الزور، وتتكفّل السلطة التنفيذية بتنفيذها وتسهر بجديّة السلطة القضائية في مراقبة تنفيذها ميدانيا، وبالتالي وضع حدّ للملايين الكثيرة التي تتجوّل في دهاليز ”مملكة شهود الزور” من الفاعلين والمتواطئين معهم، وحتى من جانب الضحايا والمتضررين منها.