وجه صديقي الذي التحق بمهنة الصحافة منذ 26 سنة قبل أن نودع القرن الماضي، نصيحة إلى الصحفيين المبتدئين. لقد دعاهم فيها إلى قراءة الروايات العربية الكلاسيكية، مثل النظرات والعبرات، وماجدولين للكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي، وغيره من مجاليه. صديقي يعرف ماذا يعني بنصيحته، لأنه يمتلك وجهة نظر فيما يكتب ويتمتع بنظرة نقدية لمهنته. لقد لاحظ ركاكة الأسلوب ووهنا في التعبير لدى بعض الصحفيين. وإن كانت القراءة مفيدة في وقت قلّت فيه، فأولويات ما يجب أن نقرأ كصحفيين يحتاج إلى نقاش. وأعترف بأني سمعت بهذه النصيحة أكثر من مرة. ولو تجنبنا الحنين الذي تثيره فإنها تجرنا إلى طرح بعض الأسئلة. ألا توحي هذه النصيحة، بشكل مبطن، بأن الكتاب المعاصرين لم يصلوا بعد ليشكلوا مرجعا للغة العربية، ومتكأً لصقل أسلوب الكتابة؟ فماذا عن كتابات محمود درويش النثرية، مثلا؟ ألا تساعد الصحفي والقارئ بصفة عامة على تهذيب أسلوبه وتطويره؟ قد يقول قائل إن لغة محمود درويش شعرية حتى وإن كانت نثرا. إذا، فليقرأ الصحفي المبتدئ روايات الكتاب العرب الذين وصلوا إلى الأدب عن طريق الصحافة. وحتى لا أتهم بالشوفينية لن أذكر أي كاتب صحفي جزائري، وأكتفي بالقول إن الكثير من كتاب اللغة العربية كانوا صحفيين وقد نالوا جوائز مرموقة، وقراءة إنتاجهم يمكن أن يساعد المبتدئين في مهنة الصحافة على امتلاك الأسلوب السلس في الكتابة. ثم ألا تتضمن هذه النصيحة اعترافا ضمنيا بأن ”لغة الصحافة” المطلوبة اليوم هي لغة مطلع القرن الماضي، وكأن الزمن العربي ظل معلقا؟ إن اللسان كائن اجتماعي حيّ يتطور بالاستخدام ويتلاشى بتلاشيه أو يفنى على غرار اللغات القديمة: الآرامية والفينيقية والأكادية والسريانية. إن لغة مصطفى لطفي المنفلوطي السلسة التي تتسم بصدق العاطفة، لم تبك القراء المراهقين فقط، بل سلحتهم بنظرة مثالية للحياة والعلاقات الإنسانية، فأتعبت الكثير منهم في تعاملهم اليومي عندما بلغوا سن النضج. فاللغة تعكس البيئة التي تنمو فيها. لذا يمكن القول إن لغة المنفلوطي لغة هادئة وساكنة ومتأنية. وجملها طويلة مسترسلة يرفدها الإطناب والاستطراد. الأمر لا ينطبق على المنفلوطي فقط، بل يشمل الكثير من مجايليه الذين حافظوا على نقاء اللغة العربية من اللهجات المحلية، إلا أنهم لم يجددوها لأسباب مفهومة. وإن كانت لغتهم قد أفادت الأسلاف من الصحفيين، فإن الكتابة الصحفية، اليوم، بحاجة إلى لغة عملية، رشيقة ومتدفقة. تعتمد على الإيجاز والتكثيف. فإذا أضاف أهل الأدب للقصة القصيرة نوعا آخر وهو القصة القصيرة جدا، التي يحلو للبعض تسميتها القصة التويترية – نسبة إلى موقع تويتر، فلا غرابة أن نطالب بلغة صحفية ”تقتصد” الكلام، وتعبر عن الأحداث والأفكار بدقة وإنصاف دون مبالغة. وسيكسب الصحفي المبتدئ الكثير إن اطلع على مؤلفات الكتاب العرب والأجانب من المعاصرين. فليقرأ للروائييّن إرنست همينغوي وغارسيا ماركيز، على سبيل المثال، اللذين مهدت لهما كتابة الربورتاج الصحفي الطريق إلى الكتابة الروائية. فمن يقرأ كتاب غارسيا ماركيز: ”عشت لأروي” يجد فيه مادة تساعده على التفكير في الفرق بين الأدب والصحافة. وتكشف له عن تجربة ثرية في كتابة الروبورتاج والبورتري الصحفييّن. وأعتقد أن الكاتب ”إدواردو غاليانو” الأوروغواياني يظل أفضل معين للصحفيين في الكتابة. أليس هو القائل لنكتب الكلمات التي يجب أن تقال؟ لقد حاول أن يلج الأسرار الغامضة في الحياة والمجتمع، حيث يمكن للحقيقة أن ترتدي قناعا، كما يقول. فكان كتابه الرائع: ”أبناء الأيام”. لقد كتبه في شكل مقاطع مختصرة استلهم منها بعض الصحفيين العرب والأجانب الكثير في كتابة أعمدتهم الصحفية. فهل تريد عزيزي القارئ الاطلاع على ما كتبه عن يوم من هذه الأيام؟ إليك المقطع التالي: نابليون لم يكن فرنسياً، وستالين لم يكن روسياً، وهتلر لم يكن ألمانياً وإنما ولد في النمسا ومارغريتا سارافاتي المرأة التي أحبها موسوليني المعادي للسامية كانت يهودية.. والنحات اليخادينهو، الأكثر دعامة بين البرازيليين.. ولدت من بين يديه أعظم ملكات الجمال البرازيليات، والسود الأمريكيون الشماليون، أكثر البشر تعرضاً للاضطهاد؛ أبدعوا الجاز ”أكثر أنواع الموسيقى تحررا”.