هذا ما قرّره القرآن العظيم في آيتين كريمتين: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَحمَةِ رَبِّهِ إِلاّ الضَّالُّونَ} الحِجر:56، {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَوحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَوحِ اللهِ إِلَّا القَومُ الكَافِرُونَ} يوسف:87. لا يقنط من رحمة ربّه إِلَّا ضَّال ولا ييأس من روح الله إلاّ كافر، جاهل بسعة رحمته تعالى، ذاهلٌ عن كمال قدرته سبحانه. لا علم له بعظمة ربّه وكمال اقتداره، غافل عن واسع جود الله الرحيم بعباده. أمّا المؤمن الذي أنعم الله عليه بالهداية والعلم فلايزال راجيًّا لفضل الله وإحسانه، وبَرّه وامتنانه، عالما بما لله سبحانه من حكمة، في تقدير الأمور، وتوقيت الأحداث. إنّ القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلاّ عند الجهل بأمور ثلاثة: أولها: الجهل بكونه تعالى قادرًا على الأمر المرجو. وثانيها؛ الجهل بكونه تعالى عالمًا باحتياج ذلك العبد القانط إليه. وثالثها: الجهل بكونه تعالى منزّهًا عن البخل والحاجة والجهل؛ فكل هذه الأمور سبب للضلال، فلهذا المعنى جعل الله عزّ وجلّ القنوط طريق الضلال واليأس سبيل الكفر. قال الإمام الثعالبي الجزائري: [جعل اليأسَ مِن رحمة اللَّه وتفريجه مِن صفة الكافرين إِذ فيه إِمّا التكذيبُ بالرُّبوبية، وإمّا الجهل بصفات الله تعالى]. وقد يجتمعان. ثمّ إنّ اليأس من روح الله فيه تسوية بين قدرة الله عزّ وجلّ الّتي خلقت الحياة وقوانينها وقوة هذه القوانين الّتي تحكم الحياة أو النّاس الّذين يستخدمون هذه القوانين حسب طاقتهم. وشتّان بين الأمرين، فأمر الله كلّه بين الكاف والنون، والله إذا شاء تفريج كربة هيأ لها أسبابها، ومن كان يؤمن بأنّ الله واسع القدرة لا يحيل مثل ذلك؛ فحقّه والواجب عليه أن يتّخذ الأسباب ويعتمد على الله في التّوفيق وينتظر منه التّيسير؛ لأنّ المؤمن دائمًا على رجاء من رحمة الله، وعلى ترقّب لفضله، وتوقّع لغوثه.. ويوم ينقطع رجاء العبد من ربّه، فذلك شاهد على انقطاع الصلة بينه وبينه، وعلى فراغ القلب من أي ذرّة من ذرّات الإيمان به!. وأمّا القوم الكافرون بالله فهم يقتصرون على الأمور الغالبة في العادة وينكرون غيرها؛ فلا يعرفون الله، ولا يقدرونه قدره.. فالحقيقة الكلية: أنّه لا يقنط من رحمة ربّه إلاّ الضالّون عن طريق الله، الّذين لا يستروحون روحه، ولا يحسّون رحمته، ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته. أمّا القلب النّدي بالإيمان، المتّصل بالرّحمن، فلا ييأس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد، ومهما ادلهمّت حوله الخطوب، ومهما غام الجو وتلبّد، وغاب وجه الأمل في ظلال الحاضر، وثقل هذا الواقع الظاهر.. فإنّ رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين. فلا ييأسون من رَوْح الله ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضّيق؛ لأنّ المؤمن في روح من ظلال إيمانه، وفي أنس من صلته بربّه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه.