استنبط الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى من هذا الحديث أنّها واجبة، فمثل هذا الوَعيد لا يلحق بترك غير الواجب، وقال المالكية والشّافعية والحنابلة: إنّها سُنّة مؤكّدة على المسلم الحُرّ البالغ العاقل المقيم الموسر، وليس على المسافر أضحية. وعن عائشة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ”مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا” رواه الترمذي وابن ماجه. وعن أنس قال: ”ضَحَّى رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، قال: وَرَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ، وَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، وَسَمَّى وَكَبَّرَ” متفق عليه. وحكمتها أنّ المسلم الموسر يعبّر بها عن شكره لله تعالى على نعمه المتعدّدة، منها نعمة الهدى ومنها نعمة البقاء، بقي على قيد الحياة حتّى عيد الأضحى المبارك، فخيركم مَن طال عمره وحسن عمله، ومنها نعمة السّلامة لا يوجد أخبار عن أمراض وبيلة ومنها نعمة السّلامة والصحّة ومنها نعمة التوسعة في الرّزق وهو فضلًا عن ذلك تكفير لما وقع من الذّنوب وتوسعة على أسرة المضحّي وأقربائه وأصدقائه وجيرانه الفقراء. ففي إحياء هذه السُّنَّة ذِكرى للذّاكرين وموعظة للمتّقين بما حصل لأبينا إبراهيم عليه السّلام من امتحان عظيم، فقد أمره الربّ عزّ وجلّ بذبح ابنه إسماعيل عليه السّلام وهو ابنه الوحيد حينئذ، فلمّا علم أنّه حسن التوجّه وصدق اليقين وتَلّه للجبين، فداه بذبح عظيم، فكان ذلك سُنّة في عقبه للمتّقين ولهم بها أجر عظيم.. صدَّق الرُّؤيا ولبّى، وتلّه للجبين، فناداه الله وفداه بذِبح عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول: ”فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ 0لسَّعْىَ قَالَ يٰبُنَىَّ إِنّى أَرَىٰ فِى 0لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ0نظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ 0فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء 0للهُ مِنَ 0لصَّٰبِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَٰدَيْنَٰهُ أَن يٰإِبْرٰهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ 0لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى 0لْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ 0لْبَلاَء 0لْمُبِينُ * وَفَدَيْنَٰهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ” الصّافات 102-107. نتعلّم منها الصّبر والامتثال لأمر الله: حينما نتذكَّر ما كان مِن الخليل وإسماعيل عليهما السَّلام من الامتثال لأمر الله والثَّبات، ونرى إيثارهما طاعة الله ومَحبَّتَه على مَحبَّة كلِّ شيء سوى الله، تَقْوى عزائمنا، وتتسابق هِمَمُنا في طاعة الله عزَّ وجلَّ. بالإضافة إلى أنّ فيها توسعة على الأهل وإطعام للفقراء والمساكين، وبها كذلك يكرم الجيران والأصدقاء المقرّبين، ألَا ترى أنّ السُّنَّة فيها أن تثلّث أثلاثًا، ثلث يأكله الرّجل وأهل بيته، وثلث يهديه، وثلث يتصدّق به على الفقراء والمساكين، ففيها نفع عظيم لآحاد المسلمين وجماعاتهم، إلى جانب أنّها شعيرة من شعائر هذا الدّين العظيم. ولا أقوى في بيان الحكمة من ذكر قول الله تبارك وتعالى: ”لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ” الحجّ37، يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره: يقول تعالى: إنّما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها فإنّه الخالق الرّزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها فإنّه تعالى هو الغني عمّا سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم، ونضحوا عليها من دمائها فقال تعالى: ”لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا”. ومن الحِكم الّتي نستطيع استنباطها واستخلاصها من مشروعية الأضاحي: التقرُّب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، ومنها إراقة الدم، ولهذا كان ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها –عند جميع العلماء- وكلّما كانت الأضحية أغلى وأسمن وأتم كانت أفضل، ولهذا كان الصّحابة رضوان الله عليهم يسمّنون الأضاحي. وكذلك التّربية على العبودية. والانخضاع التام لأوامر الله تعالى. وإعلان التّوحيد وذِكر اسم الله عزّ وجلّ عند ذبحها. وإطعام الفقراء والمحتاجين بالصّدقة عليهم. والتوسعة على النّفس والعيال بأكل اللّحم الّذي هو أعظم غذاء للبدن. في الأضحية شُكر لله عزَّ وجلَّ، إنَّ نِعَم الله عزَّ وجلَّ كثيرة جدًّا، لا تُعدُّ ولا تُحْصى ”وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا” إبراهيم 34، كنِعْمة الإيمان والطّاعة والسّمع والبصر والمال والأولاد، وهذه النِّعَم تحتاج إلى شُكر لِبَقائها، ومن طرُقِ شكر الله على نِعَمِه الإنفاق في سبيل الله، والأُضْحية من صور شكر الله سبحانه وتعالى. كلية الدراسات الإسلامية/ قطر