قصّة الهجرة من روائع القصص وأهم الأحداث في التّاريخ، ستبقى مثابة للمُعتبرين يرجعون إليها استنباطًا للحكم واستخلاصًا للعبر وتلمُّسًا للمواعظ، وقد أُلّفت في ذلك كتب ولم تستوعب، وعقدت في ذلك ملتقيات ولم تصل إلى النّهاية! إنّ الهجرة ليست قصّة شخص عاديّ بل هي قصّة الإنسان الكامل سيّد الخلق وحبيب الحقّ صلّى الله عليه وسلّم، وهي أيضًا قصّة أمّة تنشأ وحضارة تؤسّس. ورشفًا من ديمة الهجرة المباركة، نعرج هنا على موقفين من أحداثها، فيهما الكثير من الأمل والثّقة في الله سبحانه. الموقف الأوّل في الغار حين وصله القرشيون ووقفوا على مدخله، فقال أَبو بَكرٍ رضي الله عنه للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو معه فِي الغارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا. فقال: ”مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا” رواه البخاري. وخلّد الله عزّ ذِكره هذا الموقف في قوله: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وهكذا تكون الثّقة في الله عزّ شأنه. وأمّا الموقف الثاني فيرويه لنا أيضًا أبو بَكرٍ الصدّيق رضي الله عنه في سياقه لقصّة الهجرة فيقول: قلتُ: قد آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: ”بَلَى”. فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ على فرس له. فقلتُ: هذا الطّلبُ قد لَحِقَنا يا رسولَ الله. فقال: ”لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا” رواه البخاري. وفي رواية له: فَارْتَحَلْنَا بعد ما مَالَتِ الشّمس، واتَّبَعَنا سُرَاقَةُ بنُ مالِكٍ، فقلتُ: أُتِينَا يا رسول اللهِ. فقال: ”لاَ تَحْزَنْ، إِنَّ اللهَ مَعَنَا”. فدَعَا عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إلى بَطْنِهَا في جَلَدٍ منَ الأرض، فقال: إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا علَىَّ فَادْعُوَا لِي، فاللهُ لكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ. فدَعَا لهُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَنَجَا فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أحَدًا إلّا قال كَفَيْتُكُم ما هُنَا. فَلاَ يَلْقَى أحدًا إلّا رَدَّهُ. قال: وَوَفَى لَنَا. وروى الإمام الشافعي قال: لمَّا قَدِمَ على عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه بِمَا أُصيبَ بالعراق قال له صاحبُ بيت المال: أَلَا أُدْخِلُهُ بيتَ المال؟ قال: لا ورَبِّ الكعبةِ لا يُؤَدَّى تحت سقف بيتٍ حتّى أَقْسِمَهُ فأمرَ به فوُضِع في المسجد، فرأَى منظرًا لم يَرَ مثلَهُ رأَى الذّهب فيه والياقوت والزّبرجد واللُّؤلؤ يتلألأ، فبَكَى عمر بن الخطّاب، فقال له أحدُهُما: والله ما هو بيومِ بُكاء، ولكنّهُ يومُ شُكر وسرور. فقال: إنِّي وَالله ما ذهبتُ حيث ذهبتَ، ولكنّه واللهِ ما كَثُرَ هذا في قوم قطُّ إلّا وَقَعَ بَأْسُهُم بينهم، ثم أَقْبَلَ على القِبلَةِ ورَفَعَ يديه إلى السّماء، وقال: اللّهمّ إنّي أعوذُ بك أن أكونَ مُسْتَدْرَجًا فإنّي أسْمَعُك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}، ثمّ قال: أَيْنَ سُرَاقَةُ بْنُ جَعْشَمٍ؟ فأُتِيَ به فأَعطاهُ سِوَارَيْ كِسْرَى، فقال: الْبَسْهُمَا؛ ففَعَل، فقال: اللهُ أكبرُ، ثمّ قال: الحمدُ للهِ الّذي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بنَ هُرْمُزَ وأَلْبَسَهُمَا سُرَاقةَ بنَ جعشم أعرابيًّا من بَنِي مُدْلِجٍ، وجعل يُقَلِّبُ بعض ذلك بعضًا، ثمّ قال: إنّ الّذي أدَّى هذا لَأَمِينٌ، فقال له رجل: أنَا أُخْبِرُك أنتَ أمينُ الله وهم يُؤَدُّون إليك ما أدَّيْت إلى الله عزّ وجلّ فإذا رَتَعْتَ رَتَعُوا، قال: صَدَقْتَ ثمّ فَرَّقَهُ. وإنّمَا أَلْبَسَهُما سُرَاقَةَ؛ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لِسُرَاقَةَ ونظر إلى ذِرَاعَيْهِ كأنّي بِك، وقد لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى”. فتحقّقَ وعدُ الله في ظرف ست عشرة سنة، فهل بعد هذا نيأس من نصر الله ووعده؟؟ إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة