تمهيد: لماذا تكتب؟ ولمن؟ قد يتساءل البعض عن الجدوى من تفكير الشخص في شؤون وطنه والاهتمام بما يحدث في العالم من حوله؟ وما الفائدة من تسجيل أفكاره واهتماماته في صورة مكتوبة أو فيلم سينمائي أو مقطوعة موسيقية.. وماذا يساوي فرد واحد داخل جهاز إداري أو تنظيم حزبي أو جمعية محلية، مهيكلة كلها غالبا من أعلى إلى أسفل..؟ وأن في كثير من بلاد العالم هناك مسافة بين من يعلم ومن يسيّر ويدبّر، يرجع ذلك أحيانا إلى تفضيل النزعة العملية أو البراغماتية وعدم إضاعة الوقت في الدراسة والاستشارة، فقد نصح أحدهم مسؤولا كبيرا في الدولة بحذف كلمة مستشار في محيطه والاكتفاء بكلمة مدير. ولكن ماذا يبقى من الأشخاص في أي موقع كانوا سوى الأفكار والمواقف التي قد تعبر المكان والزمان، وتبلغ إلى أجيال أخرى فتحظى بالقبول أو تواجه بالرفض أو الإضافة والتحوير؟ وعلى أي حال فإن مثل هذه الأعمال لا تبدأ أبدا من الصفر Ex Nihilo Nihil، إنها تكمل ما سبقها، فهي من كونفشيوس وهوميروس وما بعده سلسلة في متصل يؤدي انقطاعه إلى التخلف والجمود، وخاصة في عالم اليوم ويخطئ من يظن أنه البداية والنهاية، أي لا أحد قبله ولا أحد بعده. إن تشخيص واقع المجتمع واكتشاف جوانب القوة والتماسك وأعراض الخلل والضعف هو مرحلة ضرورية، ولكنها ليست كافية إذا لم ترفق بالأفكار- المفاتيح التي تسبق أي فعل مهما طالت المدّة الفاصلة بينهما، غير أن طول المدة علامة لا تخطئ على الغفلة وإنذار بأن الأمة قد دخلت في سبات عميق. لقد أجاب الكاتب البريطاني “إزرا باوند” 1885- 1972 “EZRA Pound” على تلك التساؤلات الهامة ماذا نكتب ولماذا نكتب؟ ماذا نقرأ ولماذا نقرأ؟ يقول في أحد أهم كتبه “ردود” “Ripostes” ماذا يبقى في الإنسان إذا التزم الصمت وتجاهل ما تنبض به القلوب من آلام وآمال، وعطّل عقله وعواطفه، إنه ميت قبل إعلان وفاته. إن المواهب والاستعدادات موجودة عند كل الناس، أسوياء أو معاقين حسيا أو حركيا، ومهما كانت الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، وبالتالي فإن بذرة الموهبة عند اكتشافها وتعهدها تكون منصة لانطلاق الشخص، وربما التحليق في سماء الإبداع والإتقان في مجتمعه وبمقاييس عصره، فالجزء الخام أو الوراثي عند البشر ضئيل مقارنة بقوة الإرادة ومدى الاستفادة من التجربة والخبرة، لا ينكر هذه المسألة إلا أنصار التفوق العنصري ودعاة التمييز الطبقي. التغيير والبديل تتردد في السنوات الأخيرة دعوة إلى التغيير تظهر في الخطابات السياسية وفي عدد من وسائط الإعلام، وقد تزايدت تلك الدعوة أثناء وبعد ما يسمّى في الغرب الأرو- أمريكي بموجة الربيع العربي على غرار ربيع براغ في تشيكوسلوفاكيا قبل الانفصال، وقد تسرّعت بعض الأوساط ووصفته بالثورات، قبل أن تعرف نتائجها، فهي توشك في بعض أجزاء من المنطقة إلى العودة إلى أسوأ مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات. إن التغيير عملية متواصلة في كيان الأمة قد تتباطؤ وقد تتسارع وتشبه عمليات الهدم والبناء catabolisme métabolisme، أي تعويض خلايا بأخرى التي تحدث في جسم الإنسان، وبالنسبة للشعب فإنه مرتبط بإرادة مجتمعية تناصرها أغلبية تقبل تكاليفها كأفراد وجماعات ولا يكون الوصول إلى السلطة أو استعادتها غاية في حدّ ذاتها، وأبرز مثال على الإرادة المجتمعية للتغيير الثوري هو ثورة نوفمبر 1954، ونحن لا نزعم أنها النموذج الوحيد في قائمة الثورات التي خاضتها شعوب العالم، ولكنها الأقرب إلينا مقارنة بما جاء بعدها في السنوات الخمسين الأخيرة، إنها ثورة لا شبهة فيها، ولذلك كلفت الجزائريين تضحيات باهظة، فهل كان بالإمكان أن تتواصل بمشروع ثقافي يؤسس تحديثا يحرّر الفرد والمجتمع من تراث الكولونيالية المغشوش، ويعيد بناء الشخصية الوطنية بكل روافدها من نوميديا إلى معطيات العصر الراهن؟ لقد أجبنا جزئيا على هذا السؤال في مقاربة بعنوان “الثقافة الجزائرية من الاقتلاع إلى الاستقطاب” نشرت في سنة 2005، وفي دراسة منشورة في صحيفة “مساء الجزائر” بعنوان: “الحداثة كيف؟ الركود لماذا؟”، ماي 2014 Modernité comment? Stagnation pourquoi? لا يمكن إنكار أن بعض تلك الانقلابات الموصوفة بالثورات من 1950 إلى سنة 2000 قد حققت لشعوبها بعض المكاسب وأحدثت تغييرات في مجتمعاتها، ولكنها تحمل رائحة صراعات الحرب الباردة وامتداداتها الإيديولوجية والتنافس عل مناطق النفوذ وخرائط التشكيل المتواصل لما يسمى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA والخريطة الجديدة لما بعد سايكس بيكو، أي عودة الكولونيالية والتدخل العسكري المباشر والابتهاج بالاحتلال الأجنبي بعد انسحاب مؤقت ترك وراءه قيادات من النخب في الحكم أو في المعارضة تعمل لصالحه خفية أو علنا وراء قناع الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، وهي كلها قضايا حق ولكنها في حالات كثيرة مجرد سيناريو لتنصيب أنظمة وقيادات أكثر موالاة وقابلية للخدمة الطوعية لمصالح القوى المهيمنة. يضاف إلى المسائل السابقة حكم متداول يزعم أن الشعب الجزائري غير مسيّس، وأن شؤون السياسة من اختصاص الخبراء وما يسمى النشطاء في الطبقة السياسية، ولكن إذا كان الجمهور الواسع غير مسيس فمن أين يأتي المناصرون والمناضلون على اختلاف دوافعهم وكفاءاتهم الأخرى؟ إن عامة الناس معنيون بشؤون بلادهم، سواء أكانوا في داخل الوطن أو في الهجرة، يظهر ذلك فيما يدور من أحاديث وتعاليق وتظاهرات ساخنة أو هادئة وتقييمات للأوضاع في الجزائر وما يجري في العالم من أحداث، يظهر فيها الحس السليم le bon sens بحكم تجارب الشعب الجزائري منذ الاحتلال، وخاصة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد أشار أرسطو في كتابه السياسة إلى أن الإنسان سياسي بالغريزة، إن كلمة بوليتيك التي تحمل تصغيرا وحتى احتقارا للمجادلات العقيمة بين الأحزاب خلال خمسينيات القرن الماضي تعني أن الزعامات السابقة لا تملك حلا لتحرير الوطن، وأن المفتاح كان بيد المنظمة الخاصة “OS”، أي خوض معركة التحرير بالصمود والتضحية. هناك مسألة ثانية تتعلق بالنزعة إلى الإجماعية unanimisme وهي ترجع إلى تراث ثورة التحرير، بعد أن فشلت الأحزاب والجمعيات الأهلية في الحصول على أي مكسب للشعب الجزائري المقهور، ولولا توحّد الجزائريين تحت راية وقيادة جبهة وجيش التحرير الوطني لما تحقّق النصر الأكبر سنة 1962، لقد كان الهدف واحدا، ولذلك لم تؤثر الخلافات الجزئية بين القيادات على المسار العام للثورة، كما بقيت السرية الموروثة أيضا عن فترة الكفاح المسلح ممارسة لدى مختلف التنظيمات، فإفشاء السر عن تحركات جيش التحرير الوطني ومحاضر الخلايا السرية لجبهة التحرير يعتبر جريمة لا تغتفر. وقد بقيت هاتان النزعتان بدرجات متفاوتة في الذهن أكثر منها في الواقع، وخاصة في وريث الحركة الوطنية وهو حزب جبهة التحرير الوطني، ويعرف من شارك في مؤتمراته ولجانه في مختلف المستويات أن الإجماعيّة تظهر في الخطاب العام أكثر منها في المداولات والحوارات التي تجري أحيانا وراء الأبواب المغلقة، كما تفعل أحزاب أخرى في الشرق والغرب، وهي تترك للمناظرات وللإعلام وقياسات الرأي العام مهمة المرافعة والشرح والتأويل. إن المشكلة الحقيقية لمعظم الأحزاب في بلادنا هي الممارسة الديموقراطية داخلها، بحيث يكون هناك اتفاق على النظرية السياسية العامة والسماح لمنابر داخل التنظيم بالاجتهاد فيها، وهو ما يضيف للنظرية حيوية وتجددا ويبعدها عن الدوغماتية Dogmatisme والتكلّس. إن الاختلاف في الرأي ليس من المحرمات، ولكن الاختلاف يمكن أن يتوصل إلى توافق ترجّحه كفّة الأغلبية داخل كل حزب وفي المؤسسات المنتخبة الأخرى. ومن الواضح أن رفض التوافق حول القضايا الأساسية قد يتجاوز الاختلاف في الرأي إلى أشكال أخرى من الصراع والاتهام بالتعصب والتطرف، والحل إما الخسارة أو العودة إلى طريق التوافق المفيد للجميع، وبالتالي فإن الاختلاف داخل التنظيم السياسي الواحد علامة صحية تمنع التفرد بالقرارات والمعارضة من خارج التنظيم، ثم انقسام الأحزاب، وليست السلطة هي دائما المتهم، كما أن الأحزاب ومنظمات أخرى هي جزء من الدولة وعين أخرى للمتابعة والرقابة داخل المؤسسات الدستورية ينبغي أن تدافع عن بديل أفضل في نظرها، ولا توظفها أي جهة خارجية للضغط والإضعاف، ومن المهم جدا أن تكون المعارضة داخل الوطن وليس في الخارج، فالضيافة في الخارج لا تكون أبدا لوجه اللّه. أما المسألة الثالثة فهي تتعلق بمرجعية الأحزاب المتنافسة أو المتحالفة والبدائل التي تقدمها والبرامج التي تقترحها للدفاع عن حصيلتها أو تطوير الأوضاع وفق رؤيتها للحاضر وما هو منتظر في المستقبل، فلا يكتسب الحزب أو المنظمة الاجتماعية مصداقية إذا لم تكن له مرجعيه فكرية سياسية وبرنامج يلبي رغبات شرائح من المجتمع، وبالطبع ليس كل المجتمع. مهما كانت دوافع وأهداف المطالبين بالتغيير في الجزائر فإن المطلبية الثلاثية المتمثلة في الحرية والعدل والتقدم هي التحدي الأكبر لجزائر اليوم والغد، مع مطلب آخر، هو في الحقيقة شرط أولي، وهو المحافظة على أمن الجزائر واستقرارها ووحدة شعبها، وهذا الشرط لا يكون محل خلاف بين الأغلبية والمعارضة، لأن إضعاف الدولة الوطنية خسارة للجميع- وليس ذلك ذريعة للتأجيل- وبناء اقتصاد ينمّي الثروة بتوزيع عادل لقيمتها المضافة كما تدعونا إليه قيم المجتمع الجزائري والحرص على تجانس مجتمع تعددي سياسيا وثقافيا، في إطار ولاء للوطن يسبق كل الخصوصيات والولاءات المحلية الأخرى، وهي في رأينا مسألة ذات أهمية بالغة، فالزعزعة تبدأ بالإضعاف من الداخل وتفكيك المجتمع إلى فصائل متصارعة باسم المذهب أو العرق وأشكال التطرف الديني الأخرى. ينبغي أن لا ننسى أن الكولونيالية الفرنسية قد حاولت زرع بذورها لأكثر من قرن، وقد خصص الباحث “ش.أ. أجرون“ Ageron لهذه المسألة فصولا كثيرة من أطروحته الضخمة بعنوان: المسلمون الجزائريونوفرنسا Les Algériens musulmans et la France T.1- 1967 قدمنا مختارات منه مرفوقة بتعليقات من واقع المجتمع الجزائري كما هو في العائلة الممتدة إلى العرش، والأسرة كما بدأت تظهر في المدينة التي تحمل الثقافة الريفية في السلوك والعلاقات مع المحيط كما يراه الملاحظ على سبيل المثال في منطقة زواوة أو القبائل، وذلك بعنوان: المجتمع الجزائري في مخبر الكولونيالية الفرنسية ط-2- 2013. لقد ناضل الجزائريون لعشرات السنين من أجل الحق في المواطنة ودولة القانون والحريات، وبعد التحرير تطلبت ضرورات بناء الدولة الوطنية وضع سلّم للأولويات المتراكمة والمتزاحمة تبدأ بتضميد الجراح وتأسيس مختلف المرافق بعد الانسحاب التعجيزي لحوالي مليون من المستوطنين احتكروا السلطة والثروة، ولم تعترف أغلبيتهم الساحقة بالحقوق الأساسية لأكثر من عشرة ملايين من الأهالي أو الأندجين. هناك بلا ريب بعض النخب السياسية والثقافية التي اعتبرت أن الديمقراطية هي أولوية في حد ذاتها، وقد تساءل البعض الآخر كيف تكون هذه الديمقراطيّة في مجتمع أغلبه من الأميين وتحت خط الفقر؟ وكان الجواب أن الديمقراطية تبقى هدفا لا مناص من الوصول إليه، وهو ما أشار إليه بيان الأول من نوفمبر 1954، على الرغم مما في مختلف مراحل البناء خلال حوالي 40 سنة بعد الاستقلال من تجريبية المحاولة والخطأ Tray and error المتعارفة في علوم الطبيعة والإنسان، حيث يؤدي الخطأ في التجريب إلى وضع فرضية أخرى تتقدم خطوة للتحليل والاستنتاج. ليس فيما سبق تبرير أو اتهام لأشخاص أو عهود عايشنا بعضها عن بعد أو عن قرب فلكل عهد سياقه المحلي والدولي وإكراهات حقيقية أو مفترضة، إن الذي يهمنا في هذه الورقة هو المرحلة الهامة من حزمة الإصلاحات التدريجية ومشروع تعديل الدستور، الذي قدّمنا ملاحظاتنا حول بعض فصوله على ضوء التحولات المجتمعية في بلادنا في العقد الأول من هذا القرن، وما يجري في عالم الأمس واليوم من تحولات أغلبها من دول المركز Core states نحو الأطراف، وانطلاقا من قناعة مؤداها أن الدستور والقوانين كلها لا تساوي أكثر من تطبيقها على الجميع مهما كانت درجة القرابة والطبقة والثروة والجاه، على الرغم من أن في هذه القناعة شيء من المثالية أو اليوتوبيا في كل بلاد العالم. ولكن أليس من المهم أن يكون للشخص مثل ومبادئ تسمى في العادة الضمير؟ وإلا أصبحت الحياة كلها حيوانية أي بلا معنى، على أن لا يتضخم ذلك الضمير ويصبح ورما عضالا يؤدي إلى الشذوذ أي عدم فعالية تلك المثل في محيطه القريب والبعيد فبين الأنا الأعلى Super ego وأنا الآخرين Alter ego ما يسمى بشعرة معاوية، وهي بالتعبير المعاصر الشبكة العلائقية Relationnelle مع المحيط المجتمعي بكل مستوياته. من المعروف أن لكل دستور والقوانين المتفرعة عنه أرضية سياسية، وإلا لما كان لكل بلد دستوره وقوانينه التي تعبر عن سيادته الوطنية النسبية التي تتسع أو تضيق، حسب قوة الدولة وقدرتها على توسيع نفوذها وكيفية تعاملها مع المعايير الدولية للديموقراطية وحقوق الإنسان ومحاكم في عواصم للديموقراطية وحقوق الإنسان تحرسها جمعيات أهلية ومنظمات دولية، ولها محاكم لا تعترف بالحدود والقوانين الداخلية تفرض عقوبات على الخروقات والتجاوزات على أي بلد وأحيانا بطريقة انتقائية. وعلى أي حال، فإن هذه مقاربة أولية تتعلق بأبجديات في مباحث الديموقراطية، وهي مجال واسع تراكمت أدبياته منذ أقدم العصور، ومرجعها المعياري هو الدستور المعلن منذ ألواح حامورابي ومملكة بابل بالعراق إلى اليوم، وأن فلسفة وتصميم الدساتير من أهم فروعه التي تتطلب الاطّلاع الواسع والاختصاص، في منطوقها ومضمونها الذي يتعلق بمدى الاقتراب أو الابتعاد عن القواعد العامة للديمقراطية وتنظيم العلاقة بين السلطات الثلاثة: التنفيذية والقضائية والتشريعية، لذلك فإنه في حالات الطوارئ ولمواجهة خطر يهدد الدولة من الداخل أو من الخارج فإن من أول الإجراءات هو إلغاء أو تأجيل العمل وفق الدستور وتركيز سلطة القرار في يد الجهة التي يوكل إليها مواجهة الخطر المحدق بالدولة والمجتمع. لهذه الاعتبارات، فإن هذه المقاربة ستتركز على مفهوم الديمقراطية في بعض التجارب الحديثة والمعاصرة والمسافة بين المبادئ المعلنة ومدى تطبيقها في المجتمعات كعينات، وليس كمسح شامل في حاجة إلى دراسة موسوعية قامت بها بعض الموسوعات منذ القرن 18، وخاصة عند علماء القانون في ألمانياوبريطانياوفرنسا، بعد ما يعرف بالنظام القديم، أي بعد إسقاط الملكية وانتصار البورجوازية على الأرستقراطية المتحالفة معها. التعديلات الدستورية: أمثلة يرى الكثيرون من أهل الاختصاص عندنا أن معظم التنظيمات القانونية، من أعلاها إلى أدناها، هي اقتباس بعد تحوير في الديباجة للمنظومة القانونية الفرنسية، وخاصة بعد الانقلاب الذي قام به أحد كبار الضباط الفرنسيين، وهو الجنرال ديغول سنة 1958 وأسس النظام الرئاسي بالاقتراع العام لانتخاب رئيس الدولة في الجمهورية الخامسة الباقية، بعد ما يزيد على نصف قرن 1958-2014 بتحسينات متوالية، بعد التحولات التي حدثت بعد تأسيس الاتحاد الأوروبي من سنة 1992 إلى سنة 2014. لغرض التبسيط والمعرفة العامة، نقول إن بعض القواميس ترجع مصطلح دستور إلى أصله الفارسي “دست”، أي يد وتعني القوة والنظام، وهذا الأصل مرجّح لأن القواميس العربية القديمة لا توجد فيها كلمة دستور. أما في اللغات ذات الأصل اللاتيني Constitutio فإن الكلمة مشتقة لغويا من التكوين الجسمي للشخص constitution، وأطلقت فيما بعد على مجموعة من النصوص الكنسية. وأما معناها السياسي فيرجع إلى حد ما إلى فلسفة السياسة عند أرسطو في كتابه الشهير السياسة Politica في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم تطور مدلولها بالاقتباس من القانون الروماني، وتعني في ذلك العهد مجموعة المراسيم التي يصدرها الإمبراطور. أما فيما يخص التعديلات التي تطرأ على الدستور، فإننا نذكر من بينها تلك التي اقترحت على الدستور الأمريكي بعد استقلال الولاياتالمتحدة عن التاج البريطاني سنة 1776، من بينها ما يعرف بوثيقة الحقوق Bill of Rights التي تتضمن مسائل تقنية وتنظيمية، مثل نسبة التمثيل في مجلس النواب وتعديل رواتب النواب.. ومن بين التعديلات نذكر الحق في حمل كل مواطن للسلاح والسلطات المخولة للولايات وإلغاء الرق ومنح السود (الزنوج) حق الانتخاب ومنح المرأة حق المشاركة في الانتخابات سنة 1920 وحق الانتخاب للشباب البالغين 18 سنة من العمر 1971، وقد بلغ مجموع التعديلات على دستور الولاياتالمتحدة من 1791 إلى الآن 27 تعديلا. أما في فرنسا فقد طرأ على دستورها 24 تعديلا منذ 1958 إلى الآن، ويعتبر أهمها، وهو الذي حوّل فرنسا إلى النظام الرئاسي بعد النظام البرلماني المعمول به حتى الجمهورية الرابعة. ومنذ سنة 1962 ينتخب الرئيس بالاقتراع العام المباشر، وهو تعديل ساري المفعول إلى الآن. وقد أدخل سنة 1974 تعديل يدعم صلاحيات المجلس الدستوري ويعطيه حق النظر في القوانين التي تصوّت عليها الغرفتان قبل المصادقة عليها من رئيس الجمهورية، ثم التعديل الذي يستهدف المناصفة بين الرجال والنساء في المناصب والعهدات الانتخابيّة. وقد بقي قسم كبير منه حبرا على ورق أو مجرد إعلان للنوايا. وفي سنة 2000 تم تعديل آخر يجعل العهدة الرئاسية من 5 سنوات بدلا من سبع سنوات كما كان الأمر في السابق. أما بقية التعديلات فهي إما ذات صيغة تقنية وإما فرضتها التحولات الجيوسياسية بعد تأسيس منظومة الاتحاد الأوروبي، وقد تم رفض بعضها بعد معاهدات روما وماستريخت Maastricht وامستردام في عدة استفتاءات. وعلى العموم، فإن دستور فرنسا يقوم على توجه ديموقراطي ليبيرالي بصلاحيات للوزير الأول باعتباره مساعدا لرئيس الجمهورية، فلا هو برلماني كما كان قبل 1958 ولا هو رئاسي كما هو الشأن في الولاياتالمتحدة، فهو بالتالي مزيج منهما. أما في مصر، التي تعتبر من أول البلدان المستقلة في المنطقة بعد انتهاء الحماية البريطانية في عشرينيات القرن الماضي، فقد عرفت أول إعلان للدستور من قِبل الملك فؤاد الأول سنة 1923، وقد بقي ساري المفعول حتى 1952 مع تعليق لأحكامه سنة 1930، وقد تم إلغاؤه بعد عزل الملك فؤاد الثاني وإعلان قيام الجمهورية سنة 1953 من قِبل القيادة الجديدة برئاسة الجنرال نجيب في البداية ثم الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أقام نظاما رئاسيا بقي ساري المفعول حتى الوحدة المؤقتة (1958-1961) بين سوريا ومصر، حيث وُضع دستور آخر ملائم للوضع الجديد تم إلغاؤه بعد فشل مشروع الوحدة والعودة إلى السابق الذي تمّ تعديله سنة 1964، وفي سنة 1971 تمّ التصويت على دستور آخر أدخلت عليه تعديلات حتى 1980 بمبادرات من الرئيس السادات، وقد أدخل الرئيس الأسبق لمصر حسني مبارك ثلاثة تعديلات أخرى، آخرها قبل تنحيته سنة 2011، وخلال الاضطرابات التي حدثت في مصر قام الجيش بتجميد الدستور، وفي بداية سنة 2014 تمت المصادقة عل الدستور الحالي. وقد عرف المغرب من 1962 إلى 2011 ستة تعديلات للمشروع الأولي غير الرسمي قبل الحماية الفرنسية، أي سنة 1908 لم ير النور، نذكر من بينها الدستور الأول الرسمي سنة 1962 وتعديلاته سنة 1970 ثم سنة 1972، وكذلك سنة 1992 وسنة 1996 والتعديل الأخير سنة 2011. أما في الجزائر وبعد إجهاض مجلس شورى الأمير عبد القادر في ثلاثينيات القرن 19 وتدمير العاصمة المؤقتة للمقاومة تم القضاء على مشروع الدولة الوطنية للأمير حتى انتصار الثورة سنة 1962، وبعدها أدخلت عدة تعديلات على أول دستور بعد الاستقلال سنة 1963 ثم في سنة 1976 ثم في سنة 1979 وفي سنة 1980 وآخر سنة 1988 وسنة 1996 وسنة 2002 و2008. وأغلب تلك التعديلات إما تخص الهيئة التنفيذية، وإما تتعلق باستكمال المؤسسات (مجلس المحاسبة سنة 1980)، وإما النصّ على بعض الحقوق وإلغاء الاتجاه الاشتراكي، وإما إنشاء الغرفة الثانية للبرلمان 1996، وإما إضافة الأمازيغية باعتبارها لغة وطنية، وإما تحديد أو فتح العهدات الرئاسية وإقرار الثلث من النساء في المجالس المنتخبة على التوالي (تعديل سنة 1996) وما قبل الأخير سنة 2008، وهو المطروح الآن للتشاور والحوار. الديموقراطية: العنوان ومشاهده يظهر كثير من الساسة وكبار المفكرين في الغرب تعجبا مصحوبا بتحليلات اجتماعية وتاريخية عن بطء البناء الديمقراطي وانتكاساته المتوالية في البلدان العربية والإسلامية (مشهد ما يسمى الربيع العربي في نظر النخب الغربية بين الديمقراطية المؤجلة والأسف المخفي على الحكم السابق)، وقلما يذكر أولئك المحللون أن فرنسا أقرت حق الانتخاب للمرأة سنة 1944، أي بعد 153 سنة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1791 والمرأة أيضا إنسان في أي مكان في العالم. كما أن سويسرا الدولة المسالمة والمحايدة جدا هي البلد الوحيد في العالم الذي يملك جيشا مسلحا من الاحتياطي يمثل الشعب كله، هذا البلد- الجنة- لم يعترف بحق الانتخاب للمرأة حتى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، بينما تولت في بنغلاديش وباكستان وتركيا نساء لم يصلن الخمسين من العمر منصب رئيس الحكومة لأسباب سياسية وأخرى ديماغوجية يعرفها المطلعون على التركيبة الاجتماعية في بلدان يتقاسم السلطة والثروة فيها “الخان” الإقطاعي مع الجنرال، سواء بالكاكي أو البدلة أو الزي التقليدي مع شريك ثالث هو الماغنا الرأسمالي. وأما في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن أهداف المجتمع السعيد (Good society) والمبادئ الأربعة للحقوق الاجتماعية للمواطن التي أعلنها الرئيس روزفلت(F.D.Roosevelt) سنة 1941 تحت اسم مشروع الرخاء (Fair deal) لم يعط حق المواطنة إلا بعد نضال مرير لملايين الملونين الذين ساهموا كعبيد تم جلبهم من إفريقيا والكراييب في بناء الازدهار الأمريكي، ولم يبق من السكان الأصليين (الهنود الحمر) سوى عينات للعرض السينماتوغرافي والمتاحف الأثرية. وقد أعطيت المرأة في الولاياتالمتحدة حق الانتخاب سنة 1920 إثر التعديل الثالث عشر للدستور، وذلك بعد 75 سنة من الكفاح للاعتراف بحقها في المواطنة. وعلى الرغم من اقتحام المرأة لمختلف المجالات، في الحياة المدنية والعسكرية منذ زمن مبكر، فإنها لازالت تتعرض لأشكال من العنف داخل الأسرة والابتزاز الجنسي من قِبل الزملاء والرؤساء في مواقع العمل والإدارة بوجه عام، وتكافح إلى اليوم من أجل المساواة مع الرجال في الأجور في مناصب العمل نفسها. فهي لا تتقاضى الأجر نفسه مثل زملائها الذكور في شمال أمريكا وأغلب بلدان أوروبا، كما أكد رؤساء البرلمانات في اجتماع مارسيليا في مارس الماضي على العكس من المساواة التامة في الأجور بين المرأة والرجل في الجزائر منذ 1962، فضلا عن حق المرأة الجزائرية في منح جنسيتها لأبنائها. والملاحظ أنه قلما تذكر الجمعيات المختصة ووسائل الإعلام مثل هذه المكاسب التي شرّفت المرأة داخل الوطن وخارجه. أما ما يسمى الثورة الهادئة في بريطانيا (Silent Revolution) فلم تكن على يقين قبل كرومويل بأن النساء هن من البشر، إنهن أكثر من “ناقصات عقل ودين” ويكثر اقترانهن في أدبيات القرنين السادس عشر والسابع عشر بالشياطين والخنازير. أما أعمال السخرة بالنسبة لأطفال تقل أعمارهم عن 12 سنة مات منهم الآلاف بأمراض السل والربو والاختناق في المناجم، فقد أفاض في وصفها كبار الروائيين في الأدب البريطاني مثل تشالز ديكنز، حتى بداية القرن العشرين. إذا تتبعنا الآن بعض المفاهيم الفلسفية والسياسية للديمقراطية، فإننا نجدها تدور حول الأصل اللساني الفيلولوجي للكلمة اليونانية الأصل الشعب (Dêmos) والسلطة (Kratos)، وكلاهما يلفت الانتباه إلى حقيقتين: أولاهما أن الديمقراطية ليست بناء ذهنيا منفصلا عن الواقع، بل إن التحولات التي حدثت في الواقع هي التي حددت مضامين الاقتران بين الشعب (داموس) وحكامه (كراتوس)، ولذلك فإن الشعب هو الذي يصنع ديمقراطيته، وبالتالي فإنه ليست هناك أي صيغة جاهزة للممارسة الديمقراطية صالحة كوصفة كاملة للحكم في كل مكان وزمان. أما الحقيقة الثانية فهي أن الديمقراطية هي درجة ما من المزج(Dosage) بين الحرية والعدالة يتناسب مع التطور التاريخي للمجتمع. ويعني التطور هنا خصائص الثقافة السائدة ومدى الانتشار الأفقي للأفكار الديمقراطية بحيث تصبح جزءا من التنظيم الاجتماعي، أي أن الثقافة الديمقراطية للأفراد والجماعات ضمن التنظيم الاجتماعي هي السبيل الوحيد لتجسيد الفكر الديمقراطي من العائلة النووية إلى التنظيمات الحزبية ومنظمات المجتمع المدني، وطريقة تقاسم السلطة بين مؤسسات الدولة ومدى سيولة الإعلام في الاتجاهين الأفقي والعمودي. ويصل مفهوم الديمقراطية إلى أقصى درجات التعقيد عندما ننظر إلى علاقته بالحرية، لأن المفهوم الأخير (الحرية) يرتبط بالقصد (Intention) وبالغاية (Target)، وبما أن القصد هو في الحقيقة فعل داخلي، أي تفكير صامت لابد من مثير خارجي (Stimulus) يجعل ذلك الفعل حرا نسبيا، أي هو في النهاية مفاضلة سماها أرسطو في كتاب “الأخلاق إلى نيكوماخ” المفاضلة بين الوسائل وإجبارية الغايات، وهذا هو الحل نفسه الذي توصل إليه علماء الكلام الإسلاميين مثل الأشعريين الذين وجدوا حلا بين مذهب الجبرية الكاملة وانعدام القصد، والاختيار الكامل الذي يلغي مسألة القضاء والقدر باقتراح فكرة الكسب، أي أن الإنسان يتحمّل نتائج أعماله المرتبطة بالنية والإرادة، ولا يحاسب على أفعاله اللاإرادية في حالة الإغماء والنوم والأفعال القهرية الأخرى. أما في الفلسفة الحديثة، فإن كانط Kant يضع في كتابه “نقد العقل العملي (Critique de la raison pratique) الكتاب الأول– الفصل الأول، يضع القصد في منزلة بين الواجب والقانون ويسميه في جملة عصية على الترجمة: القاعدة العامة للتطبيق المتذايت (Maxime)، أما هيغل الوفي لجدليته، فإنه يرى أن الفكر GEIST يجتاز ثلاث مراحل لإنجاز الحرية أولها العبور من الرغبات الحيوانية إلى التعقلن، ثانيهما الانتقال من الفهم البحت إلى الإرادة البحتة، ثم الجمع بينهما بما يسميه هيغل العلية المتبادلة (Causalité réciproque)، أما المرحلة الثالثة فهي الانتقال من الإرادة المتذاينة إلى الحرية أو الإرادة الموضوعية. والواقع أن إشكالية الحرية حظيت باهتمام فلسفي اجتماعي عند الفينومونولوجيين والوجوديين أكثر مما عني بها مؤسسو الأنساق الفكرية، مثلما هو الحال عند كيركغورد (Keirkegoord) وميرلوبونتي (Merlo-monty) وسارتر (J.P. Sartre) وكامو (A.Camus).. فهم الذين قدموا البديل بما يسميه سارتر الالتزام بعدم الالتزام والاختيار المتجدد بلا انقطاع. ..يتبع