خلافا لعدد كبير من الكتاب الذين أصبحت تحفل بهم باريس خلال الأعوام الأخيرة باسم التخصص في الإرهاب، لم يرد غالب بن شيخ على أسئلة ”الخبر” في قالب أمني وعدائي، بل ألبس الإشكالات التي تطرحها ظاهرة الإرهاب ثوبا فكريا بتحليل ثاقب وشامل، يضع القارئ أمام صورة بانورامية تتجاوز الأطروحات الاستهلاكية الجاهزة التي تسيطر على الساحة الإعلامية الفرنسية من منطلق يؤجج نار التطرف المتبادل. تناول غالب بن شيخ في هذا الحوار، بالتحليل، قضايا عدة مرتبطة بالإرهاب والتفجيرات الأخيرة بباريس، وبالنقد آراء بعض المثقفين الفرنسيين من بينهم إريك زمور وميشال أوفري، وبالثناء موقف المؤرخ الجزائري محمد حربي. كيف تفسرون الهجمات الإرهابية الجديدة التي هزت باريس والعالم بعد أشهر من هجمات شارلي ايبدو؟ أولا، يعد حدوث اعتداءات إرهابية جديدة بشكل نوعي وغير مسبوق قبل مرور سنة على هجمات جانفي أمرا مذهلا في حد ذاته، لما تركه من آثار نفسية على المجتمع بمختلف أطيافه الأيديولوجية والدينية، وخاصة على المواطنين المسلمين الذين أصبحوا ضحية جاهزة أكثر من أي وقت مضى، من منطلق الخلط المغرض بين انتمائهم لوطن لم يحسن معاملتهم وأخفق في مقاربتهم اجتماعيا وإنسانيا، ولدين يدفع اليوم ثمن صراعات وممارسات سياسوية، يتحمل نتائجها وانعكاساتها عالم عربي وإسلامي متسلط وفاسد، وغرب مكيافيلي ومتواطئ، يبحث عن مصالحه الدائمة تجسيدا للواقعية السياسية أو ما يسمى أمريكيا ”الريال بوليتيك”. تدخل هذه الاعتداءات الإرهابية الشنيعة والمقيتة بكل المعايير، ضمن مسار القتل الإجرامي الذي يستهدف فرنسا كرأس حربة الغزاة خارجيا، وكظالمة داخليا بحرمانها المسلمين من ممارسة دينية يرى أصحابها أنها تشكل ظلما في حقهم. ويعد ضرب فرنسا بالطريقة التي تمت أسلوبا عمليا وتكتيكيا في غاية الدقة والمنهجية، باعتباره كيفية مثلى لزرع الفوضى والرعب في الغرب ككل، ويهدف أصحابها إلى التأثير على الفرنسيين المسلمين بالشكل الذي يحدث مواجهة بينهم وبين فرنسيين غير مسلمين. اتهمتم كمفكر بالتركيز على التحليل التربوي والفكري والنقد العلمي للبنية الدينية التقليدية على حساب التحليل السياسي، بل والأيديولوجي الذي يمكّن من تجاوز الخطاب الإعلامي الغربي القائم على تقديم مسؤولية المسلمين في انتشار التطرف والإرهاب، مقابل مسؤولية الغرب المتواطئ مع الحكام المسلمين والعرب غير الديمقراطيين؟ الاتهام الذي تتحدثون عنه باطل ولا أساس له من الصحة. وأقول منهجيا وفكريا إن التحليل الأول لا يتناقض مع الثاني، والذين يروّجون للتحليل الأول هم الذين يرفضون الاعتراف بالقصور التربوي والتعليمي الذاتي الذي أدى إلى قراءة الإسلام بشكل أصبح يعادي الأنسنة ويغطي على عظمة السعة الفكرية والتاريخية للإسلام الذي دخل تاريخ الحضارات الإنسانية الكبرى قبل أن يسقط في مستنقع تسييس الحكام الفاسدين كما هو معروف. والقصور الذي أتحدث عنه هو الذي أدى إلى الخطاب الجهادي الذي ولد الإرهاب، بواسطة أئمة يرفضون الفكر الإسلامي ويدعون إلى التسطيح الديني القائم على الترهات والشكليات التي لا تؤخر ولا تقدم. نحن اليوم ندفع ثمن هذا الخطاب الذي فسح له المجال بخلفيات غير بريئة عربيا وإسلاميا وعالميا. التحليل الأيديولوجي الذي يؤدي حتما إلى إدانة الغرب الذي تآمر على الإسلام منذ أكثر من قرن لا يتناقض مع المسؤولية الداخلية عربيا وإسلاميا، وهو غير منفصل عن التحليل التربوي بل يعززه. والنظام الوهابي ليس إلا نتيجة لإسلام غيب العقل الذي وظفه الغرب لصالحه، تاركا التسطيح الديني لحلفاء يخدمون أجنداته، في إطار صراع دولي تتقاسم فيه الأدوار، كما حدث من قبل ”مع سايكس بيكو”، العائدين اليوم في حلة جديدة قديمة مع ”داعش”. ألا ترون أن خطأ الغرب إرادي إن صح التعبير، الذي اعترف بعجزه عن توقع انتفاضات أدت إلى سقوط حكام عرب قمعيين واستمرار آخرين في الحكم بصفة غير ديمقراطية بتزكية منه؟ ولهذا هناك ”عودة العصا” كما يقال في فرنسا، نتيجة تحالفات الغرب الذي يدّعي الديمقراطية مع أنظمة عربية وإسلامية قمعية تناهض كل الأصوات المعارضة. السياسة الغربية التي كانت دائما أسيرة ”الريال بوليتيك” هي التي تدفع إلى التطرف، وفرنسا مثلا تتحمل مسؤولية مساندة مسؤولين مسلمين فاسدين وغير أكفاء، لا يمكن أن نحارب بهم التطرف ماداموا غير مؤهلين لتمثيل المسلمين، ومسؤول مثل العميد دليل بوبكر لا يمكن أن يكون القدوة الحسنة لمواجهة المتطرفين، وفرنساوالجزائر تعلمان بذلك وتسكتان على الأمر، باسم الواقعية السياسية المرادفة لمبدأ ”الغاية تبرر الوسيلة” المكيافيلي والعكسي النتيجة كما نرى. في الإطار نفسه، هل تؤكدون صحة المواجهة بينه وبين شافية منتلشيه؟ لا أؤكد فقط صحة المواجهة التي تمت بينه وبين السيدة شافية التي اتهمته بمساندة عمدة نيس المتصهين باسم الجزائر، كما جاء في ”الخبر”، بل أذهب بعيدا وأنقل للقراء صحة شتمها بطريقة لا تشرف مسؤولا يمثل المسلمين ولقد سمعته يسبها ويلعنها. هل تعتقدون أن تحليل الإعلاميين والسياسيين الغربيين بوجه عام والفرنسيين بوجه خاص حيال تطرف الشبان لم يعد مجديا بيداغوجيا؟ وأن المقاربة الأيديولوجية والسيكولوجية التي يحاولون تمريرها أصبحت مفضوحة؟ الرد على سؤالكم يندرج ضمن المقاربة الفكرية الشاملة التي تسمح لنا بمعالجة ظاهرة شبان ولدوا وترعرعوا في أوروبا وأصبحوا يحقدون عليها تحت وطأة اعتبارات اجتماعية وسيكولوجية وتربوية وعائلية واقتصادية، وتركتهم يعيشون على هامش المجتمع الذي لفظهم ورفضهم، وهي الاعتبارات التي تكشف عن الاختلالات الخطيرة التي عرفتها المجتمعات الأوروبية التي تربوا فيها، وبهذا المعنى يعدون أبناءها وليسوا أبناء العالم العربي والإسلامي، كما يذهب إلى ذلك المثقفون العنصريون الذين يربطون بين إرهاب هؤلاء الشبان وأصولهم الدينية والعرقية. المسؤولية الغربية والفرنسية بوجه خاص، التي أكدها الشبان الذين خرجوا من حي ”مولنبيك” البلجيكي في ثوب ديني، لا تسمح لنا بالقفز على عامل غسل الأدمغة الذي تعرض له هؤلاء الشبان على أيدي أئمة متزمتين وجدوا في تمزقهم الهوياتي وضياعهم الاجتماعي وهشاشتهم النفسية أرضية خصبة لتخديرهم دينيا، وفي هذا المستوى من التحليل يبرز فساد المسؤولين المسلمين الذين أتوا بأئمة تقليديين تربوا على ثقافة دينية ضحلة، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل. أفهم أنكم مع غلق المساجد كإجراء وقائي شكلي؟ نعم، أنا مع غلق المساجد التي يقول فيها الأئمة إن الموسيقى تحول الناس إلى قردة وخنازير، وإنه يجب على الفتيات ارتداء الحجاب قبل سن الرشد، وحتى مع إقصائهم، وهذا الإجراء لا يعوض المعالجة العميقة لأزمة ناتجة عن تراكمات تاريخية انفجرت اليوم في وجه المسؤولين الغربيين الذين يجنون ما حصدوه رغم سلسلة الإنذارات التي أطلقها المتخصصون، ومن بينهم عبدكم المتواضع، ومسيرة المهاجرين التي نظمت قبل 32 عاما من أجل حياة اجتماعية عادلة مازالت ماثلة في الأذهان في سياق مسلسل التنبيه من عواقب كارثية. قلتم إنكم مع غلق المساجد التي يعمل فيها أئمة يدعون إلى التطرف والتزمت. لكن ماذا نفعل إذا تبين أن الظاهرة الإرهابية عميقة وتتحكم فيها عوامل داخلية وخارجية أخرى؟ بطبيعة الحال، لا يحل إجراء غلق المساجد مشكلات كبرى وعويصة تحتاج إلى ورشات كبيرة من التفكير العميق في كل التجليات والخلفيات والنتائج التي أدت إلى بروزها، والأئمة الذين يندد بهم اليوم ما هم إلا نتيجة لسوء تسيير المسؤولين الفاسدين والجاثمين على صدر مؤسسات يقال إنها تمثل المسلمين. عندما يكتشف الشبان أن مسؤولا مثل عميد مسجد باريس يساند كريستيان استروزي المساند للصهاينة والعدو للمهاجرين، كيف تريدون أن لا يقعوا في حبال التطرف والحقد، خاصة أن كل المعطيات الاجتماعية والسياسية والثقافية المحلية تشجعهم على العناد والتعنت؟ كيف تردون على إريك زمور الذي ذهب مؤخرا إلى القول عقب هجمات باريس الأخيرة، إنه كان يجب على فرنسا قنبلة حي مولنبيك البلجيكي وليس الرقة السورية؟ هذا الشخص الذي يعتبره البعض مثقفا يساهم في تقسيم وتسميم المجتمع الفرنسي تحت ذريعة حرية التعبير، وعوض تمحيص الأسباب الكثيرة والمتشابكة والمعقدة التي أدت إلى الطامة الكبرى، المتمثلة في إرهاب شبان لا يمثلون الهجرة والإسلام في المطلق، نجد أنه يعمق التمزق الذي أصبح يهدد النسيج الاجتماعي بأفكاره العنصرية الجاهزة والمسبقة، مثله مثل ”ألان فينكلكروت” و«إليزابيت ليفي” و«ميشال ولبيك” و«إيفان ريوفول” وعدد كبير من المثقفين والصحفيين المتطرفين الذين أصبحوا لا يترددون في الإفصاح عن عدائهم بشكل سافر لكل ما هو عربي وإسلامي، وبذلك يتحملون مسؤولية كبرى في تعميق ونشر التطرف والعنف وزرع التحريض والإجهاز على ما تبقى من هامش أمل لتجاوز الأخطار المحدقة بفرنسا، وسوف لن نستغرب حدوث اعتداءات إرهابية أخرى ردا على زمور المتطرف. خلافا لإريك زمور وبعض المثقفين الفرنسيين، أكد المؤرخ الجزائري محمد حربي في مقال وقّعه في ”لوموند”، على علاقة السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط بوجه عام وموقفها من المأساة الفلسطينية بالأحداث الباريسية الأخيرة. إلى أي حد تشاطرونه الرأي؟ لا شك أن الظلم التاريخي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ 70 عاما تقريبا، واستباحة المسجد الأقصى، يولدان عداوة في نفوس العرب والمسلمين أينما كانوا في العالم، ولاسيما في نفوس الشبان الذين ترعرعوا على إيقاع مأساة الشعب الفلسطيني المستمرة حتى الساعة، والظلم الذي يولد ردات فعل تتميز حتما بالعنف، هي ليست فقط نتيجة المأساة الفلسطينية، بل نتيجة المؤامرة الصهيونية العالمية التي حيكت ضد العالم العربي والإسلامي منذ أكثر من قرن ونيف، على يد ”ماكماهون” مرورا ب«سايكس بيكو” و«ألنبي” ثم ”بلفور” ووصولا إلى الغزو الأمريكي للعراق. الإرهاب الذي يلصق اليوم بالعرب والمسلمين فقط، تجاوز حدودهم كما نرى، والعالم الغربي يدفع ثمن تغطرسه، والشبان الذين ينتحرون باسم ”داعش” اليوم في قلب أوروبا هم ثمرة الغبن التاريخي المذكور، ومحمد حربي محق عند ربطه بين سياسة فرنسا في الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة، والإرهاب الأعمى الذي طالها مؤخرا، وبين العمليات التي تعتبر استشهادية في نظر مرتكبيها الموظفين داعشيا، خاصة إثر التحاقها بالتحالف الدولي لضرب التنظيم الجهادي، بعد أن كانت تطالب برحيل الأسد. بالمناسبة، أحيي المؤرخ الكبير حربي الذي نطق بالحق الإنساني بحكم تاريخه النضالي والوطني والفكري وأدعو الله أن يطيل عمر الرجل الذي أكنّ له كل الاحترام والتقدير.