كثيرة هي أوجه الشرّ الّتي تهدر فيها مقدّرات الأمّة، وأودية الخنا الّتي تضيع فيها ثرواتها وأموالها، كما تفوق الحصر والعدّ أندية الفساد الّتي تزهق فيها روح المال الّذي به تجري الحياة في عروق التنمية، فتخضّر الأرض بعد يُبوس، وتفرح بعد عبوس، وتنشط من موات، وتنطق بعد صُمات.. لذا وصف الحقّ هذا المفرّق للمال المشتّت له –المبذّر- بأنّه شقيق إبليس، وأنّ بينهما رَحمًا ذات وِصال، ومحبّة تزهو في دلال، وتعاونًا في كلّ مجال، قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} الإسراء:26-27، والتّبذير بذل المال في وجه الشرّ وإن قلّ، والسرف إنفاقه في المباح بكثرة، والسَرفُ والتّبذير كلاهما كبيرة، فلئن كان المبذّر أخًا لإبليس شقيقا، فالمسرِفُ أخ له شقيق، وقال تعالى في شأن الإسراف: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} الشُّعراء:151-152، كأنّ الإسراف الّذي هو إنفاق المال في المباحات بتوسّع ومبالغة، كأنّه عنوان الفساد في الأرض بل ولا يرجى منه خير، لا نقير ولا قطمير! وجاءت الآية في معرض الحديث عن ثمود الّذين بَنَوْا بكلّ رِيعٍ قصورًا ثابتة، ودورًا في الجبال نابتة، آية في الجمال، وعبثًا في إضاعة المال.. فلنحاسب أنفسنا قبل أن تحاسب، ولنصدق المسألة: هل ننفق في المباح بتوازن وندفع المال باعتدال؟! أو أنّنا نبلغ حدّ التُّخمة في كلّ شيء أكلاً ولُبسًا، وقنية لمواد ليست من ضرورات الحياة في شيء؟!. ويا ليت الأمر عند هذا الحدّ وقف، بل إنّ أموالاً ضخامًا، تُهدر من تافه، وتُكبُّ في سافه، تؤخذ من مصدر شحيح، لتنهب نهب الرّيح، والقرآن يقول: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}، بينما نجد أعمال البرّ يكسوها جفاف، ومشاريع الخير يجوس خلالها الموت، وأوجه الصّرف الشّرعي، من إطعام الطّعام، وكسوة العُراة، وتأمين الخائفين، وذي القربى والمسكين وابن السبيل وغيرهم تكسو وجوههم دهشة، وتعتريهم حيرة.. لتضيع {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} واستبدالها بأخوة الشّيطان الطّريد.. فاستفق قبل كشف الغطاء وتحقّق {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.