في سبت أسود كمثل هذا التاريخ منذ 17 عاما، شهدت العاصمة الجزائر واحدة من أشد محنها، كان القدر قد خبّأها للعباد امتحانا لهم.. كانت كارثة على منطقة باب الوادي وأعاليها، كارثة مهّدت لها أياد بشرية، ولم يغش الليل نهار ذلك اليوم 10 نوفمبر الغاضب إلا وقد فعلت الأقدار في باب الوادي ما فعلت، إذ أخذت الأمطار المتهاطلة ليلة كاملة دون انقطاع في التدفق والتجمع بداية من بوزريعة ونزولا على بوفريزي وتريولي، جارفة معها كل ما في طريقها، ولتكون آخر نقطة تصل إليها الأوحال الجارفة شاطئ البحر الذي اكتسى بلون الدم والوحل، بحر غاضب هائج مائج أثار الرعب في كل من سوّلت له نفسه التدخل والإنقاذ، إلا أنه واجه أصحاب همم عالية ونفوس طاهرة تأبى أن تترك الغضب للطبيعة وحدها، فقاومت وتصدت.. يومها نزل شباب ورجال باب الوادي يدا بيد، مرافقين فرق الحماية المدنية والشرطة وقوات الجيش الشعبي الذين انتشروا في الميدان، كل يلبِّي نداء الواجب والإنسانية، وكم كان المنظر مرعبا، وكم كانت المهمة صعبة وعسيرة. يروي سيد علي أحد أبناء حي باب الوادي ممن عايشوا الفاجعة آنذاك "أمام تلك المناظر المرعبة لم يكن أمامنا سوى التدخل، لعلنا نجد من لا تزال تدب فيه الحياة لننقذه، لكن أغلبهم كانوا قد تجمدوا عند تدخلنا وفارقوا الحياة منذ ساعات، لقد كانوا رجالا ونساء، شابات وشبانا وأطفالا، هالنا منظرهم وهم عراة متجمدون، وجوههم تنم عن هول ما رأوه قبل مماتهم، لقد كان الجميع يظهر عليه الهلع والفزع والخوف حتى وهم أموات سلّموا أرواحهم إلى بارئها.. لقد كنا أمام مشاهد لا يمكن للمرء تحملها إلا تحت حماية مخدر عقلي.. لقد لجأنا لتناول حبوب مخدرة جلبها بعضنا حتى يمكننا تحمل المشهد المأساوي، لكن لم يكن لتلك الحبوب أن تمحو أبدا آثار ما عشناه ورأيناه أمامنا، فنحن لا زلنا نذكر الأحداث كسلسلة تطرأ على ذاكرتنا مع أبسط محفز وحتى دونما أي تحفيز، نحن سنعيش الذكرى لآخر أيام حياتنا، ولو أن لهذه الذكرى أثرا طيبا واحدا، وهو تفكيري الدائم في أن للحياة أجلا وما الدنيا إلا متاع الغرور"، يقول محدثنا. أرخى الليل سدوله على باب الواديوالجزائر كلها وما أحلكه من ليل: مستشفيات تعج بالجرحى والجثث التي انطلقت رائحتها لتغشى سماء المنطقة ككل، أهالي يبكون ذويهم، وآخرون يبحثون بين هذه الجثث وتلك عمن يودون عدم رؤيته بينها، أملا في نجاته وبقائه على قيد الحياة.. مراكز صحية تعج بالمنكوبين ممن انهارت بيوتهم.. شعب بأكمله يتناقل أخبار الفاجعة، وكلّ يحاول الاطمئنان على أهله وأحبابه في الجزائر العاصمة، لتشرق شمس الأحد الحزين كاشفة بشاعة الوضع وهول الفاجعة.. أحياء بكاملها اختفت من على خريطة باب الوادي.. عمارات طالما قاومت الزمان سويت بالأرض وذهب أثر أصحابها.. مركبات لا يمكن معرفة أوصافها، والأقسى من ذلك كله الجثث، جثث في كل مكان، لقد حصدت كارثة باب الوادي مئات الأرواح لشيب وشباب، نساء ورجال، وفقد آخرون لم يُر لهم بعد ذلك أثر، وبقي الأرامل والثكالى واليتامى والعديد ممن اقتلعت من أفئدتهم وأكبادهم أجزاء لم يجدوا لها بعد ذلك بديلا، ليطبع التاريخ في ذاكرتهم يذكرهم كلما حلّ بذلك العزيز الذي كان حاضرا معهم قبل 17 عاما..
الفيضانات.. نتيجة حتمية غير مباشرة لأوضاع أمنية متردية
سيناريو فيضان باب الوادي، وهو يعاد على الذاكرة، كان كفيلا بكشف العوامل الرئيسية المتسببة في هذا الأخير، إذ لم يكن للعاقل أن يصدق أنه يمكن لأمطار شهدتها ولاية بأكملها أن تفعل في حي واحد ما فعلته بباب الوادي وأعاليه دون باقي الأحياء، إلا أن اجتماع عوامل أخرى مع أمطار كثيفة لم تتوقف لليلة كاملة، كان من البديهي أن يؤدي لنتيجة كهذه، إذ إن الكارثة التي ألمت بباب الوادي قد رسمت خطتها قبل ذلك بكثير، ولو أن الأمر كان بغفلة من واضعي الخطة، خاصة أنه كثيرا ما كان ولاة الأمر يلجئون للحلول السطحية غير المدروسة. ففي سنة 1997 وفي خضم معركة الجزائر الثانية التي لم تكن ضد مستعمر أجنبي وإنما كانت ضد الإرهاب الذي تفنن في تحويل حياة الجزائريين إلى جحيم حقيقي، وضع البلاد والعباد في قوقعة كان ثمن الخروج منها باهظا جدا، ففي تلك السنة أغلقت جميع المجاري والمنافذ التي كانت الجماعات الإرهابية المسلحة تتخذها أوكارا للهروب والاختباء تحت الأرض، وذلك لحصرها في جحورها، ولكن بالمقابل لم يفكر المسئولون آنذاك بالجحيم الذي فتح بابه على المنطقة، والذي لم يظهر للعيان إلا بعد دفع ثمن آخر كانت عملته الأرواح لا الدراهم. أزيد من 700 جثة، وأكثر من 100 مفقود، وآلاف مؤلفة من الثكالى والأرامل واليتامى، وما يفوق 250 مليار سنتيم خسائر مادية كانت كفيلة بالتعويض، لكن هل عوضت الأرواح؟ هل عاد الغائب؟ هل جفت دموع الأمهات على فلذات أكبادهن، والأبناء على آبائهم وأمهاتهم، والأزواج على أزواجهم والأصحاب والأحباب؟ هذا ما تسببه سياسة "البريكولاج" والحلول السطحية في المجتمع، فهل من معتبر؟ إذن، ما ذنب العاملين الذين كانوا يسارعون مستقلين سياراتهم ووسائل النقل المختلفة للحاق بمناصب عملهم؟ وما ذنب التلاميذ والطلاب وهم يهرولون لمؤسساتهم ومقاعدهم؟ وما ذنب الأطباء والصحيين وأعوان النظافة والأمن والحماية والحرفيين، وغيرهم كثير؟ وما ذنب الوطن الذي لم يزل يبكي على شهداء سقوا بدمائهم أراضيه حتى فقد ضحايا ليد الغدر ثم سيل الطوفان؟ أنبكي هذا الوطن أم نبكي أنفسنا؟ أنحاسب وطننا أم نحاسب أنفسنا؟ فلمن الحساب يا ترى؟
باب الواد.. بعد 17 سنة من الطوفان
هنا بباب الوادي ونحن نمر من أمام ساحة تريولي التي كانت في يوم من الأيام سوقا يجتمع فيه الباعة من مختلف أنحاء الولاية لعرض منتجاتهم وسلعهم، أو بعد مرورنا من أمام حديقة رشيد كواش التي فتحت أبوابها عاما بعد الكارثة، بعد أن كانت في يوم من الأيام تعلو أرضيتها عمارات تحكي قصص الأهل والجيران والأحباب، كثير منهم اليوم التحق بالرفيق الأعلى وكل لاحقوه. من كان يعرف خريطة باب الوادي قبل كارثة 10 نوفمبر سيستطيع أن يلحظ التغير الذي طرأ عليها، وقد زالت ملامحها القديمة ورسمت أخرى، لكن الذي لا يزول هو أثر تلك الذكرى الأليمة التي بقيت راسخة في الأذهان، رغم بذل جهود معتبرة لإزالتها، فقد خصصت الدولة أغلفة مالية معتبرة جدا للتكفل بالمتضررين من الفيضان، ونُقل هؤلاء على جناح السرعة إلى منازل جديدة في أحياء أخرى، مع التعهد بمحو كل آثار الكارثة وتحسين وضعية المنطقة العتيقة، واليوم وبعد هذه السنين الطويلة ونحن على بعد أيام قلائل على موعد هام مع الوطن، موعد سيكون فيه سكان بلدية باب الوادي وولاية الجزائر وعلى غرار كل بلديات وولايات الوطن لاختيار من يمثلهم في المجالس الشعبية البلدية والولائية، المطالبة هي الأخرى بالنظر بعين رحيمة إلى هذا الشعب الأبي، وبعين مسؤولة أمام الخالق في الدنيا وفي يوم الحساب، وهذا هو منتهى أماني وآمال سكان الحي العتيق.