كارثة،مأساة، قضاء وقدر...اختلفت المفردات لكنها عجزت عن تفسير ما حدث يوم الأربعاء الأسود في بلدية "مولاي سليسن"، البعيدة بمسافة 52 كلم عن مقر ولاية سيدي بلعباس، كارثة سببها "الفيضانات وطوفان الوادي" الذي خلف حتى كتابة هذه الأسطر سبعة قتلى بينهم ثلاث فتيات من عائلة واحدة ورئيس الدائرة، وتركت وراءها مآسي بالجملة وخسائر لا تقدر بثمن، ورغم ذلك لم ترد السلطات الاعتراف بها كمنطقة منكوبة حتى الآن..." الشروق اليومي" اخترقت مولاي سليسن الغارقة تحت الماء، سمعنا الكثير قبل وصولنا إليها ساعات قليلة بعد الكارثة، حذرنا البعض من غضب شبابها الذي لا يفرق بين صحفي ومسؤول، ونصحنا آخرون أن ننتظر حتى تفتح الطرق المغلوقة..وبين التحذير والنصيحة، قررنا الذهاب كأول منبر إعلامي يصل المنطقة، وجناهم في انتظارنا، وهناك اكتشفنا ما لم نكن نتوقعه.. !؟ ...ول"مولاي سليسن" أربعاؤها الأسود أيضا الأربعاء 18 أفريل، الساعة الثامنة وعشر دقائق مساء..هذا التاريخ لن يكون عاديا بدءا من اليوم في ذاكرة سكان مولاي سليسن، الدائرة المنسية والمغيبة من أجندة المسؤولين..في ذلك المساء الحزين، تجمعت الغيوم في سماء المدينة، كانت تخفي وراءها الكارثة، فقطرات المطر الخفيفة كالرذاذ المنعش في البداية، سرعان ما تحولت إلى سيول جارفة...أول شخص التقيناه عند وصولنا عين المكان في حدود الساعة الواحدة زوالا، كان صاحب المقهى الموجود على بعد أمتار قليلة من مقر كتيبة الدرك...روى لنا بعض تفاصيل المشهد الطوفاني، احتار من أين يبدأ، استجمع ذاكرته وقال.."كانت الساعة الثامنة مساء أو بعدها بقليل، عندما سمعت أصواتا قوية في الشارع المحاذي، الضجيج كان صاخبا إلى حد اختراق السمع وكان الناس يجرون في كل حدب وصوب يحذرون ويقولون "الواد فاض..الواد فاض"..حينها قلقت على عائلتي ،أغلقت المقهى بسرعة واتجهت إلى بيتي، رأيت الناس مندهشين، كان معهم رئيس الدائرة الذي سمعت أنه مات فيما بعد...الظلام والأمطار تحالفا ليمنعا إنقاذ من سمعناهم يطلبون النجدة ..."..عند هذه الكلمة توقف الرجل عن الحديث، وكأن حزنا كبيرا منعه وأفقده الحروف فلم يعد يطيق إخراجها..الحزن ذاته كانت تتقاسمه كل العائلات، ..إحدى النساء الثكالى في بيوتهن وعائلاتهن قالت لنا إنها سمعت عدة أصوات تطلب النجدة"..سلكونا، سلكونا.. !"لكن دون جدوى، استمر المطر في الهطول، ولم تأت النجدة، واصل الواد الجارف مساره بعنف، ولم تأت النجدة،..ماتوا جميعا، سكتت الأصوات فجأة، ودبّ صمت مخيف قاتل...ورغم ذلك لم تأت النجدة... !؟ الحماية المدنية بعثت عونين فقط لمواجهة الطوفان عند وصولنا إلى "مولاي سليسن" بعد عناء وتفاوض كبيرين مع السائق الذي قبل بالمغامرة، خصوصا أن الطريق كان مغلقا وأخبار المنطقة لا تسر السامعين.."علابالكم بلي راهم يهرسوا في كل شيء..؟" قال لنا عمي محمد، السائق العامل على خط "بلعباس-راس الماء"..ورغم ذلك أجبناه أننا قررنا ولن نتراجع، كان معي زميلي مراد والمصور سيد أحمد ..وكان لابد من البحث عن سائق جيد يعرف كيف يخترق الطرق المغلوقة، وفعلا عبرنا إلى مولاي سليسن المنكوبة عبر الدواوير المهمشة التي يسكنها مواطنون تحت درجة المواطنة..دوار أولاد بن ديدة، أولاد عبيد..ثم دائرة سيدي علي بن يوب..وهناك اقتربنا من هدفنا..عند الدخول كان هنالك صمت رهيب، بعض الأشخاص تجمعوا عند بيت قديم عرفنا فيما بعد أنه لعائلة فقدت ثلاثة من بناتها..على بعد أمتار قليلة يوجد مقر الدائرة، وأمامها فيلا رئيس الدائرة الذي لفظ أنفاسه غريقا في الطوفان..ثم لمحنا بقايا حجر متناثر في كل مكان، كان المشهد يقول أن الأمر يتعلق بأعمال شغب وهو الأمر الذي أكده لنا شاب في الثلاثينيات من العمر استوقفناه للسؤال فأكد لنا شكوكنا.."نعم لقد غضبنا على المسؤولين وقمنا برشقهم بالحجارة ".. سألناه عن السبب،فرد منزعجا.."يا أخي لقد مات بعض أهلنا وفقدنا رزقنا، ونحن جائعون منذ الأمس ولم يأت أحد ثم تسألني عن السبب.. !" حاولت تصحيح خطئي بسؤال آخر" لكن ألم يتدخل أحد لإنقاذكم ؟"...أجاب مسرعا مرة أخرى" أتصدق أن الحماية المدنية أرسلت لنا عونين فقط لمواجهة طوفان بأكمله.. !" في البداية لم نصدق الأمر لكن الجميع أكده لنا فيما بعد، كل المتضررين قالوا لنا أن الحماية المدنية أخطأت هذه المرة، وبأنه لولا رجال الدرك لكانت الكارثة أكبر وأخطر.. في وسط المدينة الغارقة تحت الوحل، وجدنا الدرك ومعهم الجيش وقد استعملوا كل وسائلهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن لا فائدة من ذلك،..الليلة كانت صعبة للغاية، حبست الأنفاس، خصوصا أن مولاي سليسن لم تعرفها منذ 83 سنة، ربما ذلك ما جعل المسؤولين يستبعدون حدوث كارثة مثل هذه التي وقعت، "هم الذين لا يفكرون إلا عند أنوفهم وفقط".. من بين العائلات التي صادفناها للوهلة الأولى، كان بيتا يقع في زاوية ضيقة من شارع اللويات "طيبي الشيخ"..قالوا لنا أن امرأة عجوز في العقد السابع من العمر ماتت غرقا هناك..قريبتها قالت أنها "فوجئت بالمياه الجارفة ولم تستطع التحرك، لقد قتلتها الصدمة قبل الطوفان"،..العبارة التي تكررت كثيرا كانت هي المأساة، والكارثة..شيخ في العقد السادس من العمر، هيأته تدل على أنه فلاح، صرح لنا قائلا بنبرة لم تشف بعد من هول الصدمة" نحن زوالية يا ولدي ..الإرهاب قتلنا، ثم الآن نصاب بهذه الكارثة التي قضت على ما تبقى منا.." بعدها استطرد في كلامه وكأنه يصحح خطأه "لكن ماذا عسانا القول..قاع الحاجة اللي تجي من عند ربي مرحبا بيها.. !"..قالها بلغة الخاضع لحكم القضاء والقدر ثم استطرد قائلا " لقد بقيت أنا وجاري كل تلك الليلة ونحن فوق السقف"..مواطن منكوب آخر يدعى "دراني" فاجأنا بهول المشهد ونحن نلج منزله، اعتقدنا في البداية أن الأمر يتعلق بقصف جوي أو زلزال..ولكن الطوفان له أيضا ما يقوله مع هؤلاء "الزوالية" الذين فقدوا كل شيء.."حتى وثائقنا فقدناها...شهادات ميلادنا، بطاقات تعريفنا، صورنا..لقد أصبحنا بلا هوية.." قالها متحسرا المواطن "دراني محمد"، شخص آخر من نفس العائلة أراد أخذنا بالقوة إلى منزله وصوته لا ينطق إلا ليقول كلمة واحدة..لقد فقدت كل شيء"، عندما وصلنا إلى منزله،وجدناه عبارة عن بيت قديم مع مزرعة أو زريبة كما يسميها السكان المحليون..دخلنا وهناك اندهشنا.."أكثر من 50 رأس من الغنم وقد أصبحت جثثا في كل مكان..قطرات دم متناثرة، بعض المواشي كانت على وشك الولادة، بما يجعل الخسارة مضاعفة.." غير بعيد عن هذه المقبرة الجماعية، تحولت ورشة النجارة هي الأخرى إلى أطلال، البيوت المجاورة تهدمت، الأثاث تبعثر في كل زاوية، بعضه أخذته الفيضانات معها ولم يجده أصحابه بعد..إنها الكارثة بصيغة الجمع ! رئيس الدائرة مات شهيدا.. ولعل ما جعل كارثة مولاي سليسن تأخذ هذا الحجم من الصدى المحلي هو تناقل الناس لحادث وفاة رئيس الدائرة، شاب إداري في الثلاثينيات من العمر ،أب لطفلين، يقال أنه كان من أحسن المسؤولين الذين تولوا مهمة رئاسة الدائرة في بلعباس برمتها..لكنه مات بطريقة بشعة ومروعة..تحكي لنا إحدى النساء التي بقيت محتفظة فقط باللباس الذي على جسدها بعدما أضاعت كل شيء..أنها سمعت "السي عبد الكريم" رئيس الدائرة وهو يصرخ.." سلكوني، سلكوني".. دون فائدة ..طلبت منهم تركي لإنقاذه لكن رفضوا فالموت كان هنالك عند الباب يترصدنا جميعا، وبعد هدوء العاصفة وتفرق المياه، لم يترك الطوفان سوى الوحل والأشياء المبعثرة..وجثة هناك كانت معلقة في شجرة قالوا لنا فيما بعد أنها جثة السي عبد الكريم رئيس الدائرة.." الناس ما إن سمعونا نتلفظ بهذا الاسم حتى ردوا علينا "الله يرحمه، مات شهيدا"..حينها تساءلت بيني وبين نفسي "قليلون هم المسؤولين من رؤساء الدوائر والأميار الذين يشكرهم الناس على أفعالهم"..لكن الضحية كان من بين هؤلاء، يروي لنا أحد المواطنين أنه قام شخصيا برؤية الضحية وهو يحذر الناس من الطوفان ولم يكن يعرف أنها ستكون مهمته الأخيرة..حيث فاجأه سيل جارف من الخلف بينما كان في سيارته، وأخذه معه بالقوة.. المصير ذاته وربما أكثر عنفا تعرض له دركي، ولكن ليس دركيا عاديا بل مساعد قائد الكتيبة..لقد جرفه التيار أيضا ولم نعثر عليه إلا بعد مرور يوم كامل.."لقد وجدناه في بوشبكة، المنطقة المجاورة" ! عائلة "بركات"....النكبة والطوفان القاتل "أسمعتم ماذا حدث لبنات محمد بركات؟ ...لقد فقدت زوجته عقلها من هول الكارثة..مساكين زوالية وزادهم الفيضان"...هذه الجمل كانت تتردد كثيرا على ألسنة الناس وشجعتنا على سؤالهم فكانت الإجابة قصيرة، مختصرة، وقاتلة..لقد توفيت ثلاث بنات من العائلة ، "جرفهن الواد الحامل ولم يترك فرصة لإنقاذهن"..لحظة وجودنا في مولاي سليسن، تصادفت مع آذان الظهر الذي ظل صامدا في وقته، ثم شقت جنازة مهيبة كل الجموع بما فيها جموع مسؤولي الدرك والجيش الذين وصلوا المكان لتفقده، الجنازة كانت للأخوات الثلاث اللواتي تصادف موتهن مع وجودهن في الخارج ..فتيات في عمر الزهور بين 14 و 15 سنة..تعبن من الصراخ وطلب النجدة، الكلمة التي ترددت كثيرا على ألسنتهن قبل الغرق هي" ..أباّ..أماّ.."نادين بأعلى صوت لكن الموت كان سريعا، مؤلما..لكنه كان أيضا محتما..أحد الشباب زعم أنه رأى الأخوات الثلاث وهن يتخبطن في المياه الموحلة، حاول التدخل لكن دون جدوى...أنه الموت عندما يأتي بغتة فلا ينتظر الأعذار، ..أو انه القدر.."المكتوب" الذي طارد الأخوات الثلاث،..حاولنا الحصول على صورهن فلم نجد ..الطوفان أخذ معه الدليل أيضا والذاكرة الجريحة..ثم حاولنا الكلام مع الأب فقالوا لنا انه بقي متسمرا عند قبرهن لا يتحدث إلى أي أحد، أما الأم الجريحة فلم تعد تفرق بين الناس من كثرة الصدمة.. الجوع ..طوفان آخر ! الناس في مولاي سليسن بعد الكارثة لا يتحدثون إلا عن غياب المساعدات.."تصوروا أنهم تركونا بلا خبز أو مؤونة حتى هذه اللحظة"..قال لنا مواطن وأضاف آخر "لا نملك خبزا لإطعام أطفالنا وهم لا يملكون إلا عبارات عليكم بالصبر....هل سنطعم أبناءنا صبرا أم يريدون خلق صومال أخرى حتى يرتاحوا"..هذه الأسئلة وغيرها لم تجد جوابا عندنا على كل حال، بل دفعتنا لنتساءل نحن أيضا عن جدوى الهلال الأحمر، وميزانيات الدولة ومخططات الكوارث والتعامل معها...إنها تسقط جميعا أمام جملة واحدة واجهنا بها كل الأطفال.."إننا جائعون".. مسؤول الاتصال في المجموعة الولائية للدرك وقائد الكتيبة ..جميعهم قالوا لنا إنهم قدموا كل ما يملكون من وسائل للتقليص من حجم الكارثة، فقد كانت وحدات الدرك هي أول من تدخل وأهم من تدخل..في الطوفان وبعده...معاناة أخرى تتمدد مع مرور الأيام وتواليها عقب الأربعاء الأسود، وهي انقطاع الكهرباء، وأيضا غياب الوثائق التي تثبت هويتهم،..لدينا أبناء سيجتازون الامتحانات ولم يعد لهم أي وثيقة أو كراس..مثل حزام نبيل وعبدو سمير اللذان سيجتازان امتحان التعليم المتوسط خلال هذه السنة، وهم لا يفكرون اليوم إلا في مشاهد الطوفان ، لقد أصبحوا يمتلكون ذاكرة مائية مؤلمة ! منكوبون..اللقب الجديد لسكان مولاي سليسن بعد الأربعاء الأسود، تغير كل شيء في "مولاي سليسن"، الدائرة المنسية المهمشة..بعد الأربعاء الأسود، أصبح الناس هنا يؤرخون بميلاد ذلك اليوم وانتهائه، فيقولون" قبل الأربعاء نتاع الحملة وبعده.."..حزن وصمت وقلق من المستقبل، تلك هي المشاعر المتناقضة التي أصبحت كل العائلات تحملها بعد هذا اليوم الذي لم تشهد له المنطقة مثيلا منذ 83 سنة..عائلات "دراني، طلحة، عبدو، حزام، مقني، بختاوي، عنان"..سكان حي اللويات،الحي الذي قاوم الإرهاب وصمد أمام الطوفان ..كل هذه العائلات أصبحت تدرك اليوم أن الواقع تغير وأنهم لم يعودوا كما كانوا في السابق..سيضيفون لقبا جديدا الى ألقابهم مثل "الزوالية والشومارة والمساكين.."، لقد أصبحوا منذ تاريخ الأربعاء 18 أفريل الفارط، في عداد "المنكوبين" أيضا !؟ مبعوث الشروق الى مولاي سليسن: قادة بن عمار