{فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم} كثيرًا ما يحبّ المرء أن تكون صورته بين النّاس أشرق ومكانته بينهم أشرف، فيطرب لمدح المادحين، ويأنس لثناء المثنّيين، ويسعى لدفن ما قبح من فعله، ويستر كلّ شيء ومشين، وإن كان الأمر لا يعدوا أقنعة أو ستارًا ذات رقم، أو حجبًا ذات رسم، {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} إذا ذكر العلم فهو أحسن الخلق قيلاً، وإن ذكر التُّقى والنقى فهم أهدى النّاس سبيلاً، هم ملائكة في الأرض يمشون وسواهم مردة شياطين، إن ذكر الملك قالوا: {أينا أشدّ قوّة وبأسًا}... وهكذا تزكية دائمة ومِدَح قائمة، فهو يُزكّون أنفسهم، كذبًا وزورًا، وعُجبًا وغرورًا، امتطوا الكمال، وغيرهم في نقص وتاهوا في مركب العظموت، وغرقوا بعقدة الجبروت، ولم يدركوا أنّ الإنسان على الخطأ غلب، وبالنقيصة قرن، “كلّ بني آدم خطّاء” ولا كمال إلاّ للحقّ ولا عصمة إلاّ لنبيّ، وهذا سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم يستغفر الله في اليوم سبعين أو مائة مرّة، وهو من كان ينشد في تواضع الكبار: “إِنْ تَغْفِرْ اللّهمّ تَغْفِرْ جَمًّا، وأيّ عبدٍ لك لا أَلَمَّا”، لذلك قال تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} وقد ورثوا صورًا منقطعة النّظير في أدب التعامل مع النّفس وعدم الرّضا بما هي عليه، واتّهامها بالتّقصير وإن جدّت وبالتأخير وإن سبقت، ودعاؤهم: “اللّهمّ اغفر خطأي وعمدي، وهزلي وجدّي وكلّ ذلك عندي”، غلا يلبسون غير لَبوسهم، فهم أعرف بأنفسهم من غيرهم.. لكن أناسًا عرفوا من الدّين رسومًا، ومن الأخلاق جسومًا، غاب عنهم الجوهر والروح، فلا يسعون في مراتب الكمال لأنّهم وصلوا، ولا يعبئون بتغيير أنفسهم فهم بلغوا، ولا يجاهدون أنفسهم أمرًا ونهيًا فلا أحد يدخل الجنّة إن لم يكونوا هم، ولا أحد حبيب لله إن لم يكونوا هم، كما قال بنو إسرائيل: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَاؤُهُ}، هي تزكية خاوية، ومدحة هواء، وثناء أخفّ من هباء، على خلاف قوم عملوا وجدّوا، وكدّوا واجتهدوا، ومع ذلك وصفهم {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} يتّقون الله ألاّ يقبلوا، قال ذو النون: “مَن خاف الله ذابَ قلبه، واشتدّ لله حُبّه، وصحّ له لُبّه”، فرحم الله امرءًا عرف قدره فنزل دونه! أستاذ بجامعة المسيلة وإمام ببوسعادة