بينما يتجه النظام السياسي الذي أنشأه الرئيس بوتفليقة وكرسه طيلة عقدين من الزمن نحو الزوال، بدأ الفراغ الذي أحدثه انهيار هذا النظام عملية إعادة إنتاج للمنظومة الأمنية العسكرية التي سيطرت على الحالة السياسية قبل قدوم بوتفليقة إلى الحكم. إعلان القيادة العسكرية ممثَّلةً في رئاسة أركان الجيش عن مبادرات سياسية للخروج من الأزمة مؤخرا، والرسائل السياسية الأسبوعية التي ترسلها رئاسة أركان الجيش الوطني الشعبي عبر خطابات الفريق أحمد قايد صالح، جاءت في سياق حالة تغير جذري تعيشها الجزائر، بدأت بالانتفاضة السلمية يوم 22 فيفري وما نتج عنها من انهيار للمنظومة السياسية القائمة، ثم جاءت عودة العسكر لملأ الفراغ. واليوم باتت العملية السياسية الجارية عبارة عن حوار غير مباشر بين رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي من جهة، والمسيرات اليومية والأسبوعية من جهة ثانية، والنتيجة أن مصير الجزائر ومصير نظامها السياسي ستحكمه صفقة معلنة أو غير معلنة بين قيادة الجيش والحراك الشعبي. قيادة الجيش التي أكدت في السنوات الماضية عدة مرات أنها ملتزمة بواجباتها وحدود دورها الدستوري، وردت أكثر من مرى على دعوات شخصيات وأحزاب سياسية للتدخل من أجل إصلاح الأوضاع، قبل انفجارها في فيفري الماضي، بعبارات حادة وحاسمة تؤكد أن الجيش لا يتدخل بالمطلق في العملية السياسية. القيادة نفسها تتحرك الآن من أجل المساهمة في إيجاد حل للأزمة السياسية، وتقدم مقترحات لحلحلة الوضع في العلن، وتتلقى رسائل الشارع الغاضب وترد عليها بالبيانات والخطابات الرسمية، ما يعني أنها تتحرك في هذا الاتجاه، وهو سلوك كان إلى غاية أشهر قليلة ماضية ممنوعا بشكل كلي عن العسكريين طبقا لعقيدة ”الجيش المحترف” الذي لا يجوز له ولا لمنتسبيه التعبير عن مواقف سياسية، بل إن عقيدة ”الجيش المحترف” امتدت إلى العسكريين المحالين على التقاعد بحكم واجب التحفظ، هذا الدور السياسي الجديد سيتطور مع الوقت. ما حدث من تطورات سياسية مهمة في الأسابيع الماضية، وبشكل خاص على مستوى المؤسسة العسكرية، ”زلزال” حقيقي غير الكثير من المفاهيم التي هيمنت على ما يسمى ”العقيدة السياسية” للجيش الوطني الشعبي طيلة ما لا يقل عن عقد من الزمن، التغيير الذي طرأ على العقيدة السياسية للجيش حوله إلى طرف أصيل في اللعبة السياسية الجارية الآن، هذا ما يعني أن الجيش حجز مكانه في العملية المستقبلية القادمة من البداية حتى قبل وقوع التغيير الفعلي. من جانب ثانٍ يقول محللون وسياسيون جزائريون إن الجيش ساهم بشكل مباشر في كل التغييرات التي شهدتها الجزائر، وصنع كل الرؤساء المتعاقبين على السلطة، لكن هذا الدور تراجع بل انهار في العهدتين الثالثة والرابعة للرئيس بوتفليقة، فقد بسطت الرئاسة في الفترة بين عامي 2009 و2019 أو على الأقل من عام 2009 إلى غاية منتصف عام 2018 سيطرتها الكاملة على المؤسسة العسكرية، الدليل على هذا السلاسة الكبيرة التي عرفتها عملية تفكيك دائرة الاستعلامات والأمن ”دي أر أس”، وتنحية الجنرال توفيق، بل وسجن جنرالين اثنين هما بن حديد وحسان في عام 2015.