حارب الإخوان إلى جانب العصبة الظافرة وذلك دون تردد ومواربة في معركة هذه الأخيرة ضد جماعات الإسلام الراديكالي والمسلح، وساهم الإخوان في إضفاء الصدقية على الشريعة الناشئة عندما انضموا منذ الوهلة التي أعقبت إيقاف المسار الإنتخابي إلى المؤسسات الإنتقالية التي عوضت لحين البرلمان ومؤسسة السلطة التمثيلية على الصعيد المحلي، وكذلك إلى المشاركة في بناء الشرعية الناشئة عندما شاركوا في أول انتخابات رئاسية، تلي ذلك مشاركاتهم المستمرة في سلسلة الإنتخابات البرلمانية والمحلية التي كان شعارها الإنخراط في عملية إعادة بناء الصرح المؤسساتي.. واستمر الإخوان أوفياء للعصبة الظافرة عندما لجأت هذه الأخيرة إلى متعامل آخر، في خدمة منصب رئاسة الجمهورية بمساندته على الصعيد السياسي ورافقته في عملية الشرعية، للعملية السياسية المنضوية تحت الرعاية العصبوية من حيث الجوهر والباطن.. وهكذا قطع الإخوان كل خيط كان من الممكن أن يربطهم مع العصبة التي خرجت خاسرة من حربها، وأوكل للإخوان دور في احتواء الشرائح التي لم يعد لها من ملجأ أو خيار، والتي كانت منضوية تحت راية العصبة ذات الخطاب الإسلاموي الراديكالي، ومن هناك نشط الإخوان في افتكاك إدانات مختلفة من طرف شيوخ السلفية الوهابييين لما تقوم به الجيوب المسلحة للعصبة المتقهقرة من أعمال مسلحة، وهكذا لمع الإخوان في الدفاع عن جانب من المصالح الوطنية التي رفعت طُعم العفو الشامل عن المسلحين باعتبارهم مذنبين سابقين، وبالفعل أدلى رموز السلفية الوهابية بعدة تصريحات وخطابات توجه بها المتعاملون مع السلطة القائمة إلى المسلحين في الجبال، وبالفعل نزل الآلاف وغادروا العمل المسلح، وبالتالي تمكنت العصبة الظافرة بالتعاون مع الإخوان من تصفية الجيوب المسلحة التي ظلت تقض مضجع العصبة الظافرة وتهدد انتصارها والإستقرار الذي حققته بأخطار شتى.. وعشية اندلاع النزاع داخل العصبة الظافرة حول مسألة الإحتفاظ ببوتفليقة كممثل لها ولمصالحها تحت لباس رجل الإجماع والمصالحة الوطنية، وكان ذلك بمناسبة رئاسيات 2003، شارك الإخوان إلى جانب حزب جبهة التحرير وحزب التجمع الوطني الديمقراطي، في إنشاء محور كان يراد له عند البعض أن يتحول إلى كتلة تاريخية تتحلق حولها القوى الإجتماعية والسياسية لتحقيق عملية المصالحة الوطنية بشكل شامل، عميق، جذري، وبالتالي تاريخي ونوعي. وطبعا فإن هذه العملية تقتضي تحولا حقيقيا من مجتمع العصبة إلى مجتمع الدولة الأمة، الذي يقوم على الطبقة والحداثة السياسية التي تعني تجاوزا للرؤية العصبوية للمجتمع، والدولة والسلطة وبالتالي للسياسة. وهذا ما لم يتحقق، فقد كان التكتل تكتيكيا، محدودا في المكان والزمان، ولا يرمي إلا إلى توطيد مصالح الزمر المتكاتفة داخل العصبة المهيمنة وخلق المزيد من السيطرة على ساحة المجتمع السياسي وساحة المجتمع المدني، وبالتالي العمل على مأسسة الرقابة والرقابة الذاتية حتى لا نقول الرقابة الجماعية.. ومثل هذا الاتجاه شجع على إضفاء طقس ديني أسطوري على الشخصيات السياسية والأمنية النافذة، فقد تحول بوتفليقة إلى شخصية محاطة بالأسطورة، مثالية، نقية، استثنائية، حيث أن كل مظاهر الفشل والعجز والفساد من ورائها المحيطون به، الرجال الذين اختارهم لكنهم خانوا ثقته، لذا أصبحت بديهيات تروج في أوساط الشعب لكن أيضا في أوساط المتعلمين والنشطاء السياسين والإجتماعيين، أن الجزائر في حاجة إليه مدى عمره ليتمم ورشات الكبرى التي فتحها من أجل تحديث البلاد والإنتقال بها إلى مصاف الأمم المتقدمة والديمقراطية. ومثل هذه الأسطورة لم تتوقف العصب الحاكمة عن الترويج لها عندما تكون في حاجة إلى مواجهة أو إلى "رجل قوي" يضمن لها استمرار نفوذها وسيطرتها وتملكها في مفاصل الحكم الذي يحقق لها حماية مصالحها وما يترتب عن ذلك من جاه ومزايا ورفاه. حدث ذلك في التاريخ الوسيط.. التي خاضت حروبا في سبيل بقاء وسطوة ممالكها وعصبياتها ذات الطابع السياسي / الديني / المذهبي تارة والقبلي / العرقي تارة أخرى، لكن كذلك في فترة تاريخنا الحديث، بدءا من اللحظة العثمانية والمتحالفين مع عساكرها من العصب المحلية، ومرورا بدولة الأمير عبد القادر المتنقلة، وانتهاء بانبثاق الحركة الوطنية التي اتخذت شكلا مسلحا راديكاليا في لحظة مفصلية من حياة النظام الكولونيالي ذي الطراز الإستيطاني، وانبعاث يقظة محلية ذات طابع توحيدي اتخذت مظهر الوعي الوطني الثوري المنخرط في صعود حركة شعبوية تاريخية تقدمية.. لقد تشكل هذا المحور ليكون ردا على محاولات المنشقين من داخل العصبة الظافرة، لكن أيضا ليكون صمام أمان في حالة تمكن المحور المنشق أن يجذب إلى نفسه زمرا أخرى من داخل وخارج العصبة الظافرة تساعده على السيطرة على السلطة ووضع النواة الصلبة للمؤسسة العسكرية تحت تصرفه وسيطرته.. وبالفعل خرج جنرالات كانوا من رموز العصبة الظافرة عن صمتهم وتحفظهم وعبروا بشكل معلن، من خلال وسائل الإعلام، عن اعتراضهم أن يبقى بوتفليقة على رأس الحكم، وألقوا بكل ثقلهم على مرشح الزمرة المنبثقة علي بن فليس، ويشاع في تلك الفترة شعور أن ثمة انقسام داخل المؤسسة العسكرية، إلا أن الزمر المتحالفة مع بوتفليقة تمكنت من الانتصار لمشروعها وبالتالي أبعدت كل المنشقين من المناصب العليا التي كانوا يحتلونها وأحالت معظمهم على التقاعد، خاصة داخل المؤسسة العسكرية، حيث عاقبت كبار الموظفين الذين عبروا عن ميولاتهم مع المنشقين بالإبقاء والإقصاء.. لكن ما إن انتهت هذه المعركة العابرة حتى توارت الوعود وتراجعت فيما يتعلق بتحقيق عملية المصالحة الوطنية، وشعر أنصار الإسلام الراديكالي والمسلح الذين علقوا آمالا عريضة على عرض العصبة الظافرة من خلال الخطاب البوتفليقي، بالخيبة والخذلان والخديعة.. وانتشر شعور هو أقرب إلى اليأس من كل مشروع تغيير يأتي على إنهاء مرحلة منطق وثقافة العصب، ولم تسلم مع الوقت حتى العصبة الظافرة من الإنعكاسات السيئة لعدم إنجاز الوعد التاريخي بالمصالحة الوطنية، فهي لم تكن تعني على الصعيد الحرفي تجريد العصبة الإسلاموية من قوتها الضاربة ومجموعاتها التدميرية لبنية نظام العصبة العنيدة الحاكمة ومحيطها، بل كانت تتجاوز ذلك كمشروع بعيد المدى للإنهاء التدريجي لحكم العصب والإنخراط في عملية بناء دولة القانون، والتحضير من الداخل للدولة الوطنية والدفع التاريخي لسيرورة دمقرطة حقيقية وعميقة.. فما الذي بدأ يحدث على الأرض؟! سقطت الساحة السياسية في الجمود، وهيمن الإنكماش فتحولت العطالة إلى قانون، وسمح كل ذلك بانطلاق عملية التآكل من الداخل للعصبة الظافرة، حيث دخلت في فترة التفكك المتنامي والمطرد.. وتمثل ذلك في أن الزمرة بدأت تفقد رجالها الأقوياء، فالجنرال العربي بلخير الذي كان يعتبر من الرؤوس المدبرة للزمر القائدة للعصبة، جرد من قوته بإبعاده من منصب رئيس الديوان بالرئاسة ليتحول ثقله إلى مستشار الرئيس بوتفليقة. وشاءت الصدف أن يكون مستشار الرئيس شقيق الرئيس، وكانت وفاة الجنرال العربي بلخير بمثابة بداية النهاية لهذه الزمرة العتيدة داخل العصبة الظافرة.. ثم توالت الإختفاءات من المشهد ومن الحياة لكل تلك الرموز التي قادت العصبة الظافرة إلى الحكم والسيطرة، فقد خفتت السلطة المعنوية والسياسية للجنرال خالد نزار، وتوفي كل من الجنرال محمد العربي، والجنرال فوضيل والجنرال اسماعيل العماري. وفي المقابل فقد الرئيس بوتفليقة بعض الرجال المحسوبين عليه، مثل نورالدين زرهوني وزير داخليته، والإقتصادي عبد اللطيف بن أشنهو، وشكيب خليل وزير الطاقة، إثر فضيحة فساد، لكن ذلك لم يضعف من موقعه وقدرته على المناورة، لأنه تحول إلى أب روحي لعصبة راحت تتشكل من مجموعات ضيقة عبر تحالفات معقدة ومضللة تجمع بين المال والجهة والزبانية والنفوذ والرغبة في الإستحواذ الصريح والعلني على السلطة السياسية كمصدر متحكم في السلطة الإقتصادية.. وكان لهذه الإنطلاقة المفاجئة للديناميكية الجديدة التي تشكلت على هامش الصراعات الظاهرة وفي ظل الإنكماش السائد، آثارها على انهيار الحلف الرئاسي الذي حدث في ظل رياح الربيع العربي، حيث خرج منه "الإخوان المسلمون" منكسرين ومنقسمين على أنفسهم، كمقدمة لإعادة صياغة الحلف على ضوء ميلاد عصبة جديدة ذات مشروع يشكل على المدى المتوسط والبعيد بسط هيمنة جديدة وشاملة تنهي تاريخيا حقبة العصبة المشكلة اليوم لنواة النظام القائم.. لقد تمكنت العصبة الناشئة من الإنشقاق على جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي، وذلك عبر الإزاحة الإستعراضية لكل من أمينيهما العامين، عبد العزيز بلخادم وأحمد أويحيى، وأحدثت انشقاقا داخل تنظيم الإخوان المسلمين (حركة مجتمع السلم) حيث تولد من صلبه حزبان جديدان هما حزب جبهة التغيير بزعامة عبد المجيد مناصرة، وحزب تاج بزعامة عمار غول الموالي للعصبة الناشئة. كما أنها انتقلت إلى لحظة غير مسبوقة على الصعيدين الحقيقي والرمزي تمثلت في تعديل حكومي يخضع بشكل واضح لسلطتها واختيارها المباشرين، ويصب في استراتيجيتها للسيطرة بدون منازع أو شريك قوي على السلطة، لكن أيضا في التغييرات التي مست المناصب الحساسة في الجيش والمؤسسة الأمنية التي ظلت لوقت طويل تشكل السلطة الفعلية واليد الفولاذية للعصبة الحاكمة..