يعود يسعد مبروك، رئيس النقابة الوطنية للقضاة، في حوار مع "الخبر"، إلى قضية سجن القاضيين بعين مليلة وتيارت، المثيرة للجدل، فيقول بأن النيابة في هذا الملف "افتقدت لشرف الخصومة القضائية". ويرى بشكل عام، أن الإنصاف في المتابعات "غير متاح للقضاة ولا المتقاضين في المنظومة الحالية". ويتناول في ردوده على الأسئلة أيضا، التوتر بين النقابة ووزير العدل وسبب انسحاب القضاة من مظاهرات الحراك، بعد أن كانوا في صفه الأول خلال اندلاعه. في بيان يستنكر سجن وكيل جمهورية مساعد بمحكمة عين مليلة، طالبت نقابة القضاة بمحاكمة عادلة لقضاة متابعين بارتكاب جرائم. أليس غريبا أن يصدر هذا عنكم، ففي العادة القضاة هم من يطالبون بأن يكونوا منصفين في معالجة القضايا، وفي الأحكام التي ينطقون بها باسم الشعب؟ يحتكم القضاة عند فصلهم في المنازعات المعروضة عليهم، إلى مبدأ الشرعية بشقيه الموضوعي والإجرائي، وعليهم التقيد بالتجرد والمساوة وفقا للأدلة والأسانيد المثارة أمامهم، من الأطراف ومحاميهم أو ما يقرره نص القانون بصورة تلقائية في مواضع أخرى، وما يسري على عموم الناس يسري على القاضي عندما يكون محل متابعة أو دعوى، إذا ما استثنينا الشق الإجرائي في بداية المتابعة أو الدعوى. وما حدث للزميلين بتيارت وعين مليلة خرج عن السياق الإجرائي السليم، ذلك أن وكيل الجمهورية المساعد بمحكمة عين مليلة أودع الحبس المؤقت على ذمة التحقيق ثم استفاد من الإفراج أمام غرفة الاتهام، وهو ما لم يرق الوزارة وجهة المتابعة التي لجأت إلى تقديم طلب إضافي لا يلجأ إليه إلا في حالة ظهور وقائع جديدة، وتمت دعوة القاضي للحضور أمام قاضي التحقيق مجددا على أساس استجوابه في موضوع الوقائع السابقة، إذ وجهت له تهمة جديدة وقائعها كانت معلومة في الملف الأصلي وأعيد إيداعه الحبس من جديد، وهي نفس الحيلة التي تم استعمالها مع مساعد وكيل الجمهورية بتيارت لإيداعه الحبس المؤقت، بعد أن استفاد من الإفراج سابقا، علما أن رئيسة غرفة الاتهام بمجلس أم البواقي قد أنهيت مهامها في رئاسة الغرفة، بسبب قرار الإفراج، فأين الحماية التي يقررها القانون الأساسي للقضاء من كل أشكال الضغط والمناورات؟! هذه الممارسات هي في الحقيقة عمل تحكمي لا يمت بصلة لمبدأ الشرعية، ويؤشر لفقدان النيابة العامة لشرفها في الخصومة القضائية خلافا لما تلوكه ألسن ممثليها في مرافعاتهم - مع استثناء البعض- بأنها خصم شريف. هذه المعطيات غير العادية هي التي دفعت النقابة إلى إصدار بيانها المشار إليه في سؤالك، ونحن كقضاة مواطنون بالدرجة الأولى ويسري علينا ما يسري على عموم المتقاضين، بل إن صفة القاضي تعدّ ظرف تشديد عند ارتكاب جرم ما، ولا يحق لنا أن نعلق أو ننتقد الأداء القضائي من حيث موضوعه، لأن ذلك غير جائز قانونا بالدرجة الأولى ولا يليق بنا كنقابة بالدرجة الثانية، مع الملاحظة أن الإنصاف الذي تتحدث عنه غير متاح للجميع، قضاة ومتقاضين، في ظل المنظومة السائدة حاليا، ونحن نسعى إلى تغيير مقتضياتها لأن ما طالبنا به هو احترام الإجراءات القانونية التي وضعت لحماية الشرفاء، خلافا لقواعد قانون العقوبات التي وضعت لعقاب المجرمين. اتضح من رد فعل النقابة حول عدم إشراكها في تعديل قانون العقوبات، أن التيار لا يمر بينها وبين ووزير العدل بلقاسم زغماتي. لماذا ؟ النقابة الوطنية للقضاة بتركيبتها الحالية، لم تعجب البعض لأنهم تعوّدوا على لجان مساندة تعتمد الزبائنية أسلوبا، وهو ما نرفضه بشكل مطلق، هياكل النقابة منتخبة بصورة ديمقراطية شفافة لم تحدث في أي تنظيم آخر، وربما بسبب هذا الوضع ظل البعض متوجسا منها رغم أننا نعمل في شفافية تامة دون تزلف أو تجني. علاقتنا بالوزير والوزارة باهتة ومتشنجة بسبب ذهنيات ألفت ممارسة الوصاية والأبوية على النقابة والقضاء برمته، ونحن مستعدون للحوار حتى مع الشيطان، ولكن بعزة نفس ومسؤولية، بعيدا عن تضخيم الأنا السائد في بناية الأبيار وملحقاتها. وبهذه المناسبة، أنبّه إلى أن استمرار الوضع الحالي وتكريس التفكير المسطح سيفرز تداعيات يصعب تلافيها أو تدارك نتائجها وفي المدى المنظور، وعلى رئاسة الجمهورية أن تقدر حجم الاحتقان والتذمر السائد في قطاع العدالة. لم نشارك في شيء حتى الآن، لا الحركة ولا مشاريع القوانين ولا حتى الاجتماعات التي تمت مع رؤساء الجهات القضائية، بل هناك دعوات وجهت للنقابة لحضور فعاليات قانونية عن طريق الوزارة، تم حجبها عنا لأسباب غير معلومة، وهو ما يعطي صورة عن كيفية التسيير التشاركي المثالي في وزارة سيادية، ولن أزيد عن هذا. كنت أنت والعديد من القضاة في واجهة الحراك عند اندلاعه، لكن لم يعد لكم أثر بعد ذلك، هل يفهم من ذلك أنكم نلتم الاستقلالية التي طالبتم بها؟ الحراك محطة تاريخية مهمة في مسار البلاد، ورغم المعوقات القانونية التي تمنع القضاة من الخوض في الشأن السياسي، بادر بعض القضاة في مجالس بجاية وڤالمة وعنابة إلى كسر تلك الحواجز، وأعلنوا مساندتهم لمطالب المجتمع الرامية للتخلص من نمط حكم استبدادي، يعتمد على الفساد والإفساد كطريقة في تدمير مكونات المجتمع، والكل يشهد أن خروج القضاة عبر كل جهات الوطن ومساندتهم للحراك الشعبي أعطاه دفعا قويا في مرحلة حساسة جدا، غير أن تطور مساراته لاحقا، لاسيما الاستقطاب السياسي وبروز متابعات قضائية ضد بعض المشاركين فيه- عن حق أو عن باطل- حتم علينا كقضاة العودة إلى الضوابط العادية في عمل القاضي الملزم بالحياد والتجرد، إذ لا يعقل أن يستمر القضاة في التظاهر أيام الجمعة والثلاثاء مع عموم الناس ويعتلون منصات القضاء للفصل في قضايا أطرافها كانوا يسيرون معهم جنبا إلى جنب في الشارع. هذا الموقف ليس تعاليا من القضاة ولكن أملته الواجبات المهنية التي تقع على عاتق القاضي، والذي يبقى ملزما بالقانون حتى ولو كان مخالفا لرغبته وتطلعاته المجتمعية، لا يمكن لأحد أن يتهمنا بالنكوص أو التراجع طالما أن الأمر معقد جدا، لاسيما أن الحراك تتعدد فيه المشارب والمآرب. ولا نقبل أن يكون القضاة أداة في أي صراع مهما كانت طبيعته وأطرافه، لأن البعض حاول أن يجرّ القضاة في احتجاجهم إلى الانسياق وراء أجندات لتعطيل الانتخابات الرئاسية، وهو ما رفضناه مطلقا لأنه مهما يكن سخطنا على وضع القاضي، مهنيا واجتماعيا، لن نقبل أن نكون سببا في ليّ ذراع الدولة الجزائرية، رغم معارضتنا الصريحة لطريقة إدارة الشأن القضائي وشؤون البلد برمته. في المحصلة، هذه نقابة فتية كانت نتيجة الحراك ولولاه ما كانت بهذه التركيبة والأداء، ولكن استقلاليتنا هي رأس مالنا في العمل النقابي الذي نمارسه وفي الأداء القضائي الذي نطمح إليه، والاستقلالية التي تحدثت عنها لا تتحقق بالمسيرات في الشارع، بل تتطلب جملة من العوامل ترتبط بالإرادة السياسية والنصوص التشريعية، وتكوين وذهنية القاضي، فضلا عن المحيط المهني والاجتماعي لكل فواعل الشأن القضائي. قلت في أحد حواراتك الصحفية إن قضاة يفرّطون في أوامر إيداع الحبس المؤقت "من تلقاء أنفسهم". فهم من كلامك أنهم لا يتعاملون مع القضايا المعروضة عليهم وفق إملاءات فوقية، لكن هذا التفسير غير مقنع بالنسبة للكثيرين، قياسا إلى التساهل في اتهام نشطاء الحراك وسجنهم، حسب محاميهم؟ القانون واضح جدا في مسألة الحبس المؤقت، فهو إجراء استثنائي طبقا للمادة 123 من قانون الإجراءات الجزائية، والأصل أن يبقى المتهم حرّا أثناء إجراءات التحقيق القضائي، غير أن الممارسة تظهر بعض الامتعاض المعلن، لاسيما من هيئة الدفاع في قضايا معيّنة. في الحقيقة، الأمر مرتبط بتكوين وذهنية القاضي بالدرجة الأولى أكثر مما هو مرتبط بإملاءات فوقية، لا أنفي وجودها ولكنني شخصيا أحمّل القضاة مسؤولية الأوامر التي يصدرونها، وعليهم التقيّد بالقانون نصا وروحا، مع إعمال ما يقتضيه الضمير الحي وروح الإنسانية، دون الإخلال بضمانات الحضور وحسن سير التحقيق. القاضي الذي لا يطيق مواجهة التدخلات والضغوط والإملاءات عليه أن يتنحى ويبحث عن عمل آخر، لأن شرف القضاء أن تكون منصفا وعادلا عندما يتغوّل الظلم والتعسف، وإلا فلا فرق بين القاضي والأجير الخادم لسيّده وولي نعمته من البشر. بالنسبة لآراء السادة المحامين وهم أصدقاء وأساتذة لنا– مع استثناء فئة التجار والسماسرة منهم - هي جديرة بالاهتمام والمعالجة بحكم معايشتهم اليومية للأداء القضائي. وفي اعتقادي، فإن المحامي هو الطرف الذي عليه أن يبدع في الملف القضائي لأنه المعني بالبحث وتقديم الأدلة وما يدحضها، فيما يكون دور القاضي هو الترجيح والموازنة بين ما يقدمه الخصوم وإخضاعه لمسطرة النص التشريعي. غير أن تبني المواقف السياسية أمام منصات القضاء، يحول دون تحقيق رسالة العدالة التي أمثلها بطائر حر جناحاه هما القضاة والمحامين، ولا يمكنه أن يحلق بجناح واحد. إذا غادر رئيس السلطة التنفيذية ووزير العدل المجلس الأعلى للقضاء، في التعديل الدستوري المرتقب، هل تعتقد أن ذلك سيكون ضمانة كافية لتحقيق استقلال القضاء؟ يشكل المجلس الأعلى للقضاء محورا رئيسيا، من شأنه أن يسهم في تكريس استقلالية القضاء وإبعاد السلطة التنفيذية عن تركيبته البشرية، سيكون عاملا أساسيا في ممارسته لوظائفه الدستورية، بعدما كان مجرد غرفة مصادقة على قرارات تتخذها الوزارة. ومن شأن تحرّر المجلس أن يحوّل وزارة العدل ومديرياتها إلى مهامها الأصلية، خدمة للقضاة بدلا من الوضع الحالي، إذ يعتقد موظفو وزارة العدل بأنهم أوصياء على القضاة والعمل القضائي. نترقب التعديل الدستوري المقبل لطرح وجهة نظرنا، والدفاع عنها بمعية باقي الفاعلين تأسيسا لقضاء مستقل وعدالة حرة ونزيهة، تضمن حقوق الجميع وفي كل الظروف، وهو ما ينشده المجتمع بكل أطيافه على اختلاف توجهاتها الفكرية والسياسية، لأن العدالة قيمة اجتماعية إنسانية تشبه الماء في اللون والطعم والوظيفة.