إن الدبلوماسية الدولية بعيدة كل البعد عن كونها نهرًا هادئًا، لا سيما في الوقت الذي نشهد فيه إعادة ترتيب جيوسياسي وصراعات أيديولوجية باطنها أساسا السيطرة على الموارد الطبيعية والمساحات الاستراتيجية واقتصادات العالم. لا يمكن للبرلمان الأوروبي، تلك المؤسسة الموقرة التابعة للاتحاد الأوروبي، التنصل أولاً وقبل كل شيء عن مصالح الشعوب التي يمثلها. كما أنه مما لا شك فيه أن هذه المؤسسة، على هذا النحو، هي تحت تصرف الدول التي تشكلها، وبالتالي فهي تستجيب للحتميات السياسية لحكوماتها. الجزائر، دولة مستقلة وذات سيادة (ينبغي ربما أن نعيد التذكير بهذا) تحافظ على علاقات حسن الجوار والتعاون الاقتصادي والأمني مع الاتحاد الأوروبي. تستدعي اللباقة الدبلوماسية من هذا الأخير السعي إلى توفير الاستقرار والازدهار والتنمية لجارتها في الجنوب، خاصة أن الجزائر لم تكن لها يوما أطماعا توسعية أو نية للتدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها. من جهة أخرى، من المفترض أن تشكل اتفاقية الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي إطارًا رسميًا للتعاون بين الطرفين وليس ترسيما لولاء الطاعة أو تبعية طرف لآخر. منذ استقلالها عام 1962، والجزائر تبني نفسها بصعوبة. عاشت أحلك الفترات في تسعينيات القرن الماضي، مكرهة على مواجهة حرب أهلية فرضها إرهاب أعمى، حرب عاشتها وحيدة أين تخلت عنها الدول التي يريد نوابها اليوم تقديم دروسا في الإنسانية. ومع ذلك، في سنوات الرخاء التي بنيت على ريع المحروقات وفساد النظام البوتفليقي، كانت أوروبا متسامحة جدا، مستفيدة من سوق مضمونة وصفقات مشبوهة وتحويلات مالية إليها. أما الآن، فقد تغيرت الظروف. سقط نظام بوتفليقة، وانهارت أسعار النفط الذي كان النظام الريعي يعتمد عليه. أصبحت الجزائر ضحية أزمة سياسية معقدة جعلتها عرضة لوضع لا يفك ولا يحل. ضف إلى ذلك أزمة عالمية جراء جائحة كوفيد19، الاضطرابات الأمنية على حدودها التي سببتها بعض الدول الأوروبية، وأخيراً غياب الرئيس بسبب المرض... تكتمل بهذا الصورة. في هذا الوقت وفي هذا المناخ المتدهور، يتخذ البرلمان الأوروبي في 25 نوفمبر 2020، لائحة أقل ما يقال عنها أنها "حادثة مروحة جديدة". إذ قرر البرلمان الأوروبي تناول قضية "حراك شبكات التواصل الاجتماعي" حسب قولهم، بما أن "الحراك الفعلي قد توقف في مارس 2020 بإرادته"، حسب نفس الوثيقة دائما. لذلك لم يبقى لهم لسرد قصتهم سوى الاستناد لهذا الاحتجاج الافتراضي. بما أن حقوق الإنسان وطبيعة النظام الجزائري هما السبب وراء تدخل البرلمان الأوروبي، فمن المفيد التذكير بمواقف جيل جديد في هذا الموضوع حتى يُقطع الشك باليقين. شخصياً نضالي السياسي يعود لأكثر من 30 عامًا في مجابهة هذا النظام. لطالما انتقدته، وقاطعته وناهضته. كتبت، وصرحت، وجلت عبر كامل تراب الوطن.... لا أنكر أو أتراجع عما قمت به. على العكس تماما. في هذه المسار، وبالنيابة عن جيل جديد، كان لي أن أقابل بحسن نية سفراء وصحفيين أجانب ومسؤولين من الاتحاد الأوروبي. يمكنهم أن يشهدوا بأنني لطالما أبديت وبكل صراحة مواقفي المنتقدة للنظام الجزائري. خلال الانتخابات التشريعية ثم المحلية في عام 2012، كنت قد ركزت لكل من حاورته من الاتحاد الأوروبي على الحقيقة المريبة المتمثلة في أن هذا الأخير كان يغض الطرف عن التزوير الانتخابي والمخالفات الخطيرة في إدارة الاقتراع. لقد شجبت صمت هذه المؤسسة ولا سيما المساندة باسم الشعوب الأوروبية، لنظام بوتفليقة. على غرار عدد من رؤساء أحزاب المعارضة كنت أطالب بشيء واحد وفقط: الحياد التام وعدم تقديم غطاء سياسي لهذه الانحرافات الخطيرة. ولكن لا حياة لمن تنادي،ما دامت المصالح مصانة. عندما عدل رئيس الجمهورية السابق الدستور غصبا في عام 2008 على نحو يسمح له بالخلود في الحكم، لم نجد انتقادا من قادة هذه البلدان. لم تثر نتائج انتخابات بوتفليقة الرئاسية بنسبة 81.53٪ في عام 2014 مفاجأة ولم يتردد زعماء هذه الدول على تهنئته بالفوز رغم أنه كان عاجزا تماما على التسيير بسبب المرض. أكثر من ذلك، وفي الوقت الذي كان فيه الحراك في أشده وفي صراع مع النظام لمنع العهدة الخامسة لبوتفليقة، لم يجد رئيس دولة أوروبية أفضل من دعم تمديد العهدة الرابعة بسنة أو سنتين إضافيتين خارج الأحكام الدستورية وتقديم هذا التعدي الصارخ على أنه "ديمقراطية". حينها، كان جيل جديد وحده من استنكر علنًا هذا التدخل الفاضح. صحيح أن المصالح الشخصية، بالنسبة للعديد، تتطلب أحيانًا غض البصر! أليس كذلك...؟ في 28 نوفمبر 2019، عندما سمح البرلمان لنفسه التدخل في الأزمة الجزائرية، كان لجيل جديد آنذاك نفس ردة الفعل في إدانة الموقف. قلتها وسأقولها مرة أخرى. الجزائر للأسف لم تصر بعد دولة قانون. الديمقراطية لم تتجسد بعد. المجتمع في حالة من التشنج، يعيش تحول أنثروبولوجي واجتماعي، يتسبب في اختلالات وتوترات ما بين نظام هش وشعب غاضب بشكل مشروع من جهة، وبين المواطنين أنفسهم من جهة أخرى. العنف للأسف أضحى جزء من الحياة اليومية، جسديًا كان أم لفظيًا، وهو ليس من عمل السلطة وحدها. لقد فرضت السنوات العشر من الإرهاب عقيدة بوليسية لإدارة المواطنين، خاصة أنه خلال عشرين عامًا من البوتفليقية، بدعم مما يسمى بالعالم المتحضر، تم تقييد العمل السياسي وتضليله من أجل تحييده. كل هذا لأجل أن يستمر حكام تلك اللحظة في السلطة ونهب ثروات البلاد. فيما يخص معارضة النظام، فلا يسع جيل جديد إلا الافتخار بما أنجزه خلال تلك الفترة القاسية، عندما كان "الشيجيفاريون" الحاليون في صمت أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. ربما سيسجل التاريخ هذا يومًا ما... أما الآن، فقد انتقل نواب البرلمان الأوروبي إلى مرحلة أخرى أشد خطورة وأكثر إثارة للقلق. في الواقع، تم إطلاق عملية واسعة النطاق بعد تعليق من الرئيس ماكرون، فُسِّر على أنه مؤيد للنظام الجزائري، وضع البلاد بعد ذلك تحت لوائح الاتهامات الإعلامية والسياسية. الضجة الإعلامية اختتمت بقرارات خبيثة ومسمومة للبرلمان الأوروبي هي بمثابة منشورات تحريضية أكثر من كونها إعلانًا سياسيًا من قبل هيئة بهذا الحجم. نلاحظ أن نواب حزب الرئيس ماكرون، صوتوا ضد موقف علني لزعيمهم، هل هناك التباس؟ وهكذا، وتحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، التي أعترف أنها بعيدة كل البعد عن كونها نموذجية في الجزائر، فإن نواب البرلمان الأوروبي الآن يهاجمون "عيوب" النظام الجزائري "العديدة"ويملون عليه خريطة الطريق الواجب إتباعها، وبالتالي الحل محل سيادة الجزائريين. لذا، فإن سلسلة من الاعتبارات، بعدد 18، تمت على إثرها تهيئة المشهد وإعلان النقاط العشرين القاتلة بصيغة إعذار. من بين العديد من الحجج، البعض في محلها والأخرى تقترب أكثر إلى الازدراء، تم تمرير سلسلة من الأفكار التي وددت أن أفصلها لولا حدود هذه المساهمة. في نظر نواب البرلمان الأوروبي، لقد تحولت الجزائر في غضون عام إلى دكتاتورية غير مرحب بها وإلى دولة بلطجية، وجب إعطائها دروس في الديمقراطية وتعليمها حسن التصرف كبلد متحضر. - أمروا بمنح نفس الحقوق للجميع، بمن فيهم "البربر" (هل يعيشون تمييزا عنصريا رسميًا؟). -لاموا الدستور الجزائري "وضعه شرط لحرية الصحافة والمكرسة رسميًا في المادة 54 احترام "الثوابت والقيم الدينية والأخلاقية والثقافية للأمة" (ربما لأن البرلمان الأوروبي يناضل من أجل عدم احترام الثوابت، ونشر الرسوم الكاريكاتورية للرسول، والفجور وانتحال الثقافات الأخرى؟) -حددوا قائمة من المعتقلين تحتوي على أشخاص قد أطلق سراحهم منذ شهور، وآخرون لم يُسجنوا قط، وآخرون لأسباب لا علاقة لها بالحراك. انتهجوا الخلط والحشو حتى يعطوا نظرة أكثر سوداوية للوضع. الأدهى والأمر أنهم يحددون القوانين، بتفاصيل المواد الواجب مراجعتها، يحلون بهكذا تصرفات محل المجلس الدستوري أو على الأقل محل غرفة ثالثة للبرلمان الجزائري. لماذا هذه الخطوة الآن؟ لأي غرض ولمصلحة من يُصعّد البرلمان الأوروبي؟ بطبيعة الحال، الجزائر لا تحتل دول أخرى، ولم تغزو أراضي ليست لها، ولا تمارس الفصل العنصري، ولا الاغتيالات المستهدفة للمدنيين في دول أخرى، ولا تسجن الأطفال بالآلاف، لا تدمر منازل من تستعمرهم، ولا تحكم على حراكييها بعشرين سنة نافذة، ولا تقبر صحافييها في السجون السرية، ولا يتم تقطيعهم بالمنشار. لأن هذا النوع من البلدان، ليس للبرلمان الأوروبي الكثير ليقوله فيهم. نعم، هذا صحيح، مشكلة الجزائريين هي أنهم رغم خلافاتهم، ورغم أزمة التخلف، ورغم نظامهم الهش، رغم كل هذا، إلا أنهم مصرون على التمسك بسيادتهم. قد لا تعني هذه الكلمة الكثير في أي مكان آخر، ولكنها تعني الكثير عندنا. كفانا استهزاء الجزائر تمر بأزمة، ولا أحد يشك في ذلك. من الواضح أن الأنظمة السياسية المتعاقبة لم تكن الديمقراطية عندها في الحسبان. هل هم تاريخيا المسؤولون الوحيدون عن هذا الوضع؟ ومع ذلك، فإن الجزائريين من الجيل الجديد يناضلون من أجل تغيير حقيقي لا مفر منه. شروط هذا التغيير متوفرة. الوضع أكثر نضجا. يجب أن نؤمن به، وفوق كل شيء التوقف عن إثارة التصرفات الهستيرية والدفع إلى صدامات محتملة داخل المجتمع، وهو ما يقدم عليه البرلمان الأوروبي بكل أريحية ومن دون أي تأنيب للضمير. يعتقد بعض الجزائريين، وبحسن نية، أن الوقت سانح لإضعاف الدولة والجيش للتخلص من هذا النظام بشكل نهائي وإرساء الديمقراطية في النهاية. غالبًا ما تؤدي التوقعات الخيالية، المثالية والبعيدة عن الواقع، إلى المآسي. الدوافع العاطفية تحول بسرعة "حكمة الشعوب" إلى "جنون الحشود". على عكس ما قد يُعتقد، الأمن ليس حالة مستقرة، يمكن أن يتبخر في رمشة عين، ما يفسح المجال لأسوأ السيناريوهات الممكنة ولا تزال مرحلة التسعينات حية في المخيال الجماعي الجزائري. يمكن للسياسي أن يقود الشعوب إلى الصدام والصراعات القاتلة، كما يمكن أن يقودهم إلى بر الأمان بالتهدئة والجهد المفيد. الاختيار متروك للشعب وعليه تحمل مسؤولية نتائجه. على الجزائريين أن يتأملوا مطولا في قضية هيثم مناع وزهير سالم. كلاهما سوريون. الأول كان من أشد المعارضين للنظام السوري حتى أنه فقد شقيقه في هذه الحرب ضد النظام. والثاني مقيم في بريطانيا يجوب القنوات التلفزيونية منذ اللحظة التي اندلعت فيها الحرب لشحن معنويات المواطنين "تع لبلاد". دعا هيثم المناع أنداك إلى قبول الحوار مع السلطة، من أجل إنقاذ وطنه قبل حدوث ما لا يحمد عقباه. فتعرض للسب والشتم والتخوين والاعتداء من قبل أولئك الذين طالبوا بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والذين أعلنوا "يتنحاو قاع". في أثناء ذلك، ظل زهير سالم يروج ل "الثورة" عبر الإعلام الغربي، يعد من خلاله الشعب السوري بالجنة الأرضية التي وعدت بها داعش. صحيح أن سياسيين بارزين في أوروبا كانوا يستمتعون بالعمل الجيد الذي تؤديه "جبهة النصرة"! فقد صفق له دعاة الحروب والخراب وأولئك الذين ظنوا أنفسهم من الأبطال. اليوم، سوريا مدمرة. لقد فقدت مئات الآلاف من الأرواح. يهوم ملايين اللاجئين من دولة إلى أخرى... جحيم فوق الأرض. هيثم مناع، الذي تآمرت عليه أصوات الكراهية المغرضة، متهم بخيانة القضية، قال وفعل ما يمليه عليه ضميره من أجل مصلحة بلاده. سيبقى رجل الشرف في معارضة سخيفة وعديمة الضمير. هذا ما كتبه في يناير 2018: "لقد أصبحت الثورة والشعب مصطلحات تهدف إلى تغذية الشبكات الاجتماعية؛ ذريعة لجمع الأموال. الآن لا أحد مهتم بالثورة ولا بالشعب، ولكن بالمقابل، مداخيل ضخمة تحققت بفضل هذه الشعارات." أما زهير سالم، فهو الآن يعيش "معززا مكرما"،أنيق الهندام، يواصل الحديث عبر شاشات التلفزيون ولكن لم يعد يتحدث عن سوريا (لم تعد موجودة بالنسبة له). يعيش حياته السعيدة، بعيدًا عن سوريا، على دماء مواطنيه وأنقاض وطنه. من دون تأنيب ضمير. الجزائر ليست بحاجة إلى حميد كرزاي الأفغاني ولا أحمد الشلبي العراقي. الجزائر لا تحتاج إلى البرلمان الأوروبي ليعين لها سياسيين ليمثلوا شعبها. الجزائر بحاجة إلى شركاء سياسيين، جيران وأصدقاء يحترمونها. وإلا فإن الجزائر لها الحق في عدم احترامهم!وتدرك الجزائر جيدا كيف تقوم بذلك....