يتحدث عضو الأمانة العامة ل"حركة أبناء البلد"، محمد أبو أسعد كناعنة، عن الوضع في أراضي 48 وكيف عاش أبناء الداخل الفلسطيني الحرب الأخيرة، كما تطرق في الحوار الذي خص به "الخبر" إلى مدى تأثير صواريخ المقاومة على الكيان الصهيوني. وتوقف كناعنة أيضا عند عدة قضايا تتعلق بالوحدة الفلسطينية وعند تأثير الشباب الفلسطيني في الرأي العام الدولي وموقفهم من الدول المطبعة ودور الجامعة العربية ومؤسسة القدس في الدفاع عن القضية الفلسطينية والمقدسات. كيف عشتم في الداخل الفلسطيني الحرب الأخيرة على غزة؟ لقد شَكّل العدوان الأخير على قطاع غزة مفصلًا تاريخيًا وغير مسبوق في الصراع الصهيوني/الفلسطيني، ورسم فصلا جديدًا في مسيرة هذا الصراع. وكانَ تهديد المقاومة في غزة للكيان في قضية استباحة باحات المسجد الأقصى واضحة، وتنفيذًا لوعدها أطلقت صواريخها الثلاثة باتجاه مدينة القدس وكانت الحرب، حرب عُدوانية، ولكنّها مختلفة عن سابقاتها، صواريخ المقاومة أوقفت الحياة وشلت الحركة في أهم منطقة جيو/سياسية في الكيان الصهيوني، وهي ما تُسمى بمنطقة المركز، حيثُ باتت مُدن كاملة تحت وطأة الصواريخ التي شلت العمل في المصالح الحيوية، كالمواصلات على مختلف أنواعها، من الحافلات حتى القطارات، وصولًا إلى إغلاق مطار "اللد" الدولي وتحويل مسار الرحلات الجوية إلى دول أخرى أو إلغاؤها نهائيًا، وهذه هي المعادلة الجديدة في هذه المعركة، فتهديد المقاومة بتوسيع رقعة استهدافها داخل الكيان كانَ أمرًا مرعبًا بالنسبة للقيادة السياسية والعسكرية قبل التجمع الاستيطاني السكاني، هذه المعركة أثبتت معنى أنَّ الكيان الصهيوني "أوهَن من بيت العنكبوت"، مما جعل بعض القادة العسكريين ورجال الاستخبارات السابقين للحديث عن الصراع الوجودي الذي يمر به الكيان، فالصواريخ القادرة على ضرب جنوبفلسطين ومركز البلاد وشل حركة المرور والطيران والسياحة والفندقة والحياة المدنية ووضع بعض المراكز الأمنية الحساسة تحت مرماها، هي فعلا قد غيّرت من المعادلة القائلة بقوة الردع الذي يمتلكها جيش الاحتلال. الفلسطينيون في الداخل المحتل عام 1948 تابعوا المعركة بشغف، كما أنّهم كانوا منذُ بداية هبة رمضان جزءا من المعركة، فقد انتفضوا لمشاهد الدمار والقتل في غزة وهبّوا من أقصى الجليل شمالًا حتى أقصى النقب جنوبًا، ليلتحموا مع أبناء شعبهم في هذه المعركة المصيرية.
أمام هذه المعطيات.. هل نحن أمام نقطة تحول في مسار القضية الفلسطينية؟ ما حصلَ في هذه المعركة لهُ أبعاد مهمة، فقد ثبتَ للقاصي والداني أنَّ يدُ المقاومة هي العُليا وهذا تطوّر جوهري في مجرى الصراع، أضف إلى ذلك الالتفاف الشعبي والجماهيري حولَ المقاومة وتيارها السياسي من حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وغيرها من فصائل العمل الوطني المقاوم، وهذا وضعَ السلطة الفلسطينية وحركة فتح كحزب السلطة في مأزق كبير أمام الاستحقاق الطبيعي المطلوب في ظل هذه المعركة مع استعمار يبطش بالشعب الفلسطيني ويقصف أطفاله ونساءه وشيوخه ورجالهُ، والمقاومة المؤلمة تأتي من المنطقة المُحاصرة صهيونيًا والمُعاقبة فلسطينيًا، وأقصد هنا بعض الإجراءات من قبل سلطة رام الله ضد قطاع غزة. المعركة الحالية أطلقت سهمًا في خاصرة المُراهنين على التطبيع مع الكيان الصهيوني أو المراهنين على علاقات طبيعية مع الاستعمار، خاصة سياسة التنسيق الأمني المقدس ومشاريع التعايش في المحتل من العام 1948، هذا السهم لن يعود إلى غمدهِ بعدَ اليوم، فما بُنيَ وأنجزَ من وحدة وطنية ميدانية ومن قوة للردع في وجه ما يُسمى "أقوى جيوش المنطقة"، لن يكون إلا مغيرا في مسار الصراع مستقبلًا.
طالبت قيادات سياسية ووسائل إعلام الكيان الإسرائيلي بوقف الحرب وهاجمت إستراتيجية نتنياهو في الحرب.. ما سبب هذا التغيير؟ هل يمكن أن نتحدث عن خوف تسرب إلى نفوس الإسرائيليين؟ الحرب السياسية الداخلية المستعرة بينَ بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال وبين المُعسكر المُنافس لهُ والذي يسعى إلى تغييرهِ منذُ سنوات، دون جدوى، هي المحرك وراء الهجوم على إستراتيجية نتنياهو في الحرب، فقد اتهمهُ بعض مُنافسيه بأنَّهُ يسعى للحرب بسبب فشلهِ في تشكيل الحكومة الحالية وانتقال التكليف إلى منافسه يائير لبيد. وبرأيي، هذا الهجوم يأتي من باب أنَّ الإعلام الصهيوني ومعهُ بعض قادة الأحزاب الصهيونية على إدراك تام بأنَّ مخرج نتنياهو من أزمته السياسية الداخلية هو بالتصعيد ضد الفلسطينيين، وفعلا قد أنجزَ بعضًا من مبتغاه في هذا المسعى على مستوى الاصطفافات الحزبية الداخلية. هذه المعركة وبلا أدنى شك، قد أدخلت الرعب إلى نفوس الصهاينة في الكيان الصهيوني، الصواريخ التي تحدّثَ عنها الصحفيون والكتّاب والسياسيون، وعن كيفَ أنها أدخلت الرعب إلى نفوس السكان، وأحبطت معنوياتهم بعد أن فقدت القوة العسكرية قدرة "الردع" التي كان يتغنى بها الصهاينة، وكيف أن القبة الحديدية التي سَوَّقها الاحتلال لجمهورهِ على أنّها ستحميه من ضربات المقاومة، قد باءت بالفشل الذريع وأصبحوا يطلقون عليها القُبة الورقية، كل هذه العوامل أدخلت المجتمع الصهيوني في حالة من الارتباك والهوس الوجودي، وليسَ صُدفة الحديث من قبل عدد منهم عن خيار مُغادرة الكيان للبحث عن أمان وأمن أكثر، وهذا يقودنا لما تناقلهُ بعض كتّاب وسياسيو الصهاينة عن الخطر الوجودي المُحدّق بكيانهم.
في تقديركم، هل الحرب الأخيرة ستضع حدا لأطماع الإسرائيليين في تهجير الفلسطينيين؟ وهل يمكن الحديث عن طي صفحة حلم القدس الموحدة؟ لا، لا يُمكن الحديث الآن عن طي صفحة حلم "القدس الموحدة" لدى المؤسسة الصهيونية، فهذا الحُلم هو وقود وجودها، ففي الفترة القادمة سنشهد ممارسات عديدة بالقبضة "الحريرية" إلى جانب القبضة الحديدية في محاولة تطبيق هذا الحلم، أو بناء مداميك جديدة على طريق تحقيقهِ، ولهذا وجبَ الحذر والاستمرار في النضال والكفاح ضد هذه المخطّطات الصهيونية.
أفشل الاحتلال الإسرائيلي إقامة الانتخابات الأخيرة برفض تنظيمها بالقدس، وظهر من جديد حجم الانقسامات في الصف الفلسطيني.. في تقديركم، كيف يمكن استثمار نتائج الحرب الأخيرة في بناء وحدة فلسطينية حقيقية؟ انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني تمّ إلغاؤها بسبب الحالة الداخلية لحركة فتح، حزب السُلطة، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أنَّ خوض ثلاث قوائم منبثقة عن حركة فتح سوف يضرب الحركة في صندوق الانتخابات، كما أبرزت الاستطلاعات بوضوح فوز الأسير مروان البرغوثي على الرئيس محمود عباس في انتخابات الرئاسة، وعليه لم يكن أمام أبومازن إلا إلغاء الانتخابات لتفادي الهزيمة. ولتبرير هذا القرار، أعلن أنَّ لا انتخابات من دون القدس، وباعتقادي الجميع كان يعرف مسبقًا موقف الكيان الصهيوني من إجراء الانتخابات في مدينة القدس، وكانَ بالإمكان تفادي الأمر من خلال عدة إجراءات فلسطينية في هذا الصدد. الحرب الأخيرة ورغم شراستها على شعبنا إلا أنها حملت رسائل واضحة، المقاومة في غزة استطاعت ردع الجيش الصهيوني وأرعبت العُمق الصهيوني بصواريخها وبتهديداتها التي كانت سبَبًا في منع الجيش الصهيوني من توجيه ضربة كانَ مُعدًا لها لتكون خاتمة العدوان، والتحام الفلسطينيين في الداخل المحتل والقدس والضفة الغربية والشتات، أربكَ المؤسّسة الصهيونية وبعثَ الأمل في قوة هذه الوحدة الحاصلة في الميدان، وهذا ما يجب البناء عليه، استعادة الوحدة الوطنية الكفاحية على قاعدة برنامج وطني تحرّري ومغادرة مربع التنسيق الأمني المقدس، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على قاعدة الميثاق الوطني الفلسطيني.
المقاومة يتصدرها اليوم شباب ولد بعد أوسلو، هل يمكن التعويل عليهم لإحداث القطيعة مع أساليب إدارة الحرب مع الاحتلال وفرض قواعد جديدة، لمسنا نتائجها خلال جولة الحرب الأخيرة؟ لقد كان الشباب الفلسطيني هو المحرك الأساس للانتفاضة الحالية، فقد أدت الحركات الشبابية والطلابية في الداخل المحتل عام 48 وفي القدس تحديدًا دورًا رئيسيًا في تحريك الساحة الفلسطينية شعبيًا، هذا الجيل المولود بمعظمهِ ليسَ بعد أوسلو، وإنما في محيط انتفاضة القدس والأقصى عام 2000، هذا الجيل قد فاجأ الاحتلال وفاجأ أيضًا القيادة السياسية الفلسطينية، فقد ظن البعض أن هؤلاء قد انغمسوا في حياتهم بعيدًا عن الهم الوطني العام، وها هم قد ألهبوا الدنيا عزّة وكرامة في بسالتهم وشجاعتهم وانتمائهم.. هؤلاء هم قادة المُستقبل القريب.
في تقديركم، هل المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي تمكن من التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، خاصة بعد الحرب الأخيرة؟ العقيدة الصهيونية تقوم على إجماع صهيوني على قاعدة يهودية الدولة، وعلى أنَّ لا يوجد حق تقرير المصير بين النهر والبحر لغير اليهود، وهذا من بنود ما سُمي بقانون القومية، وهذه العقيدة تعتمد على رفض حق العودة للفلسطينيين ورفض وجود جيش ثالث على ضفتي نهر الأردن، وأن القدس عاصمة موحّدة وأبدية لكيان الاحتلال. هذه "الثوابت" في العقيدة الصهيونية تجعل من ما يُسمى بالمفاوضات لحل القضية الفلسطينية مجرد مفاوضات عبثية لا تخدم غير الاحتلال، لا يمكن حل القضية الفلسطينية بوجود الصهيونية، فالاشتباك معها مفتوح وطويل.
رصد تغير أو بداية تغيير في مواقف الرأي العام بعدد من الدول الأوروبية وبالولاياتالمتحدة تجاه إسرائيل، كيف تتابعون ذلك وكيف يمكن استثماره لصالح القضية الفلسطينية؟ لطالما كانت القضية الفلسطينية تحظى بتأييد شعبي أممي كبير، اتفاقات أوسلو والانقسام الفلسطيني أضرَّ بهذا التأييد، فالكوفية الفلسطينية كانت رمزًا للحرّية وللمقاومة حول العالم، في المعركة الأخيرة شاهدنا تغيرًا ملحوظًا في الشارع الأوروبي تحديدًا، وأيضًا في الولاياتالمتحدة، هذا يعود إلى قوة تأثير الشباب الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي وفظاعة المشاهد من قطاع غزة والقمع في المسجد الأقصى والشيخ جراح. هذه الحملة الإعلامية التي خاضها صبايا وشباب الشعب الفلسطيني قد أربكت الاحتلال، وكما يقال فقد كانت الصورة بألف كلمة، المطلوب الاستمرار في الحشد الإعلامي والتحريض المستمر على جرائم الاحتلال والتشبيك مع القوى الديمقراطية والمناصرة للقضية الفلسطينية، خاصة مع وجود جاليات فلسطينية وعربية كبيرة حول العالم.
ما تقييمكم لموقف الدول العربية والجامعة العربية، ولماذا هذا التراجع في دعم الشعب الفلسطيني؟ وكيف تقيمون أداء مؤسسة القدس؟ الدول العربية رسميًا وبمعظمها تخاذلت في دعم الشعب الفلسطيني، فالعلاقات السرية مع الكيان الصهيوني كانت بمعظمها علاقات تآمرية على الثورة الفلسطينية وعلى المناضلين العرب وحركات التحرّر، وليسَ غريبًا أن يكون هناك تراجع في ظل تطبيع القيادة الفلسطينية المتمثلة بسلطة أوسلو مع الكيان الصهيوني وغياب الوحدة الوطنية وترسيخ الانقسام الفلسطيني. مؤسسة القدس تحتكم إلى علاقات مع المؤسسة الصهيونية، خاصة في ظل التطبيع الأخير العلني للرباط مع تل أبيب، مع علمنا بأنّ العلاقات كانت على قدمٍ وساق بينهما، خاصة في المجال الاستخباري والأمني والاقتصادي، هذه المؤسسة يجب تحريرها أولا من براثن التطبيع حتى تستطيع أن تقوم بدورها الطبيعي في مساندة القدس والشعب الفلسطيني.
كيف تنظرون إلى الدول التي طبعت مع إسرائيل، وأي رسالة توجهونها لها اليوم؟ وهل يمكن الحديث عن سلام عبر التطبيع كما رافعت له هذه الدول؟ التطبيع ليس خيانة للقضية الفلسطينية فقط، بل وللأمّة وقضاياها، فالقدس قلب الأمّة وقضية فلسطين هي قضية العرب الأولى، وهذه الأنظمة المطبعة مع الاستعمار الذي ينتهك عاصمة الأمة هي أنظمة وظيفية عميلة بعيدة عن نبض الشارع العربي وعن مطلب شعوبها ليسَ فقط برفض التطبيع، بل وبواجب الانضمام إلى محور المقاومة والاصطفاف في معركة التحرير، هذا هو نبض الشارع العربي.. شاهدنا المظاهرات الجبارة المؤيدة لفلسطين في كل العواصم والمدن العربية. التطبيع يخدم فقط الكيان الصهيوني، أمنيًا واقتصاديًا، ولن يجلب للشعب الفلسطيني غير التآمر عليه وعلى قضيتهِ العادلة.
ما هي الرسالة التي يوجهها أبناء الداخل الفلسطيني إلى الشعب الجزائري وإلى كل الشعوب العربية؟ للجزائر في قلوب الفلسطينيين وذاكرتهم مكانة خاصة، ونحنُ في الداخل المحتل عام 1948 نتحدث كثيرًا عن الجزائر، عن الثورة والمليون شهيد، نحنُ دائما نقول إن لا مستحيل أمام الإرادة والجزائر هي بوصلتنا، الجزائر في قلوب فلسطينيي الداخل المُحتل عام 1948 تعني النور، الشعب الجزائري لم يتخل عن فلسطين حتى في أقسى أوضاعه، بقيت فلسطين قضيتهُ القومية، نحيي الجزائر وشعبها البطل العظيم على وقفتهم المعهودة وعلى سعيهم الدائم ليكونوا السباقين في دعم فلسطين، هي رسالة أيضًا عبركم إلى الشعوب العربية، فالقضية الفلسطينية هي قضيّتكم ودفاعكم عنها ودعمكم لها هو دعم لوحدة الأمة وقوتها ومناعتها. إن التطبيع والهرولة باتجاه تل أبيب ما هو إلا تآمر عليكم وعلينا جميعا.. إنَّ التحرير ليس ببعيد.