أكل المال الحرام داء خطير ومرض عضال، خطرُه على الأفراد عظيم وفساده للمجتمع كبير، ما وقع فيه امرؤ إلّا ومُحِقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه وأسرته وعمره، وما تدنَّس به أحد إلّا وحُجبت دعوته، وذهبت مروءته، وفسدت أخلاقه، ونُزع حياؤه، وساء منْبَته، وخسرَ في دنياه وفي أخراه. يُسبّب الهلاك والخسران للمجتمعات، ويفسدُ أحوالها، وينشر الظّلم فيها، وما انتشر هذا الدّاء في مجتمع إلّا وغابت منه الفضيلة، وحلّت فيه الرّذيلة والكراهية والأحقاد، وما وقع في أمّة إلّا وحلَّ فيها الغشّ محلّ النصيحة، والخيانة محلّ الأمانة، والظّلم محلّ العدل، والخوف محلّ الأمن... يُحذّر ديننا الإسلامي من خطورة الحصول على المال الحرام بأيّ طريقة؛ قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: "إنّ لكلّ أمّة فتنة وإنّ فتنة أمّتي المال". ولقد وردت آيات كثيرة تحذّر من أكل المال الحرام، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: "... كل المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرْضُه". وفي أيّامنا هذه كثيرٌ من النّاس يتساهلون في أكل المال الحرام، كما جاء في الحديث الشّريف: "ليأتين على النّاس زمان لا يُبالي المرء بما أخذ المال أمن الحلال أم من الحرام"، وقال عمر رضي الله عنه: كنّا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام، وذلك امتثالًا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه". والّذي يأكل المال الحرام يعّرض نفسه للعقوبة في الدّنيا ويوم القيامة، أمّا في الدّنيا، فقد تكون العقوبة خسارة في ماله أو نزع البركة منه أو مصيبة في جسده، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، وأمّا في الآخرة، فعن كعب بن عجرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: "يا كعب لا يربو لحم نبت من سُحت إلّا كانت النّار أولى به". ومن عقوبة أكل المال الحرام في الدّنيا، عدم إجابة الدّعاء، وعدم قبول العبادة، قال صلّى الله عليه وسلّم: "يا أيّها النّاس إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبًا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيَّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، ثمّ ذكر الرجل يطيل السّفر أشعث أغْبَر يمُدّ يديه إلى السّماء ويقول: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّي بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك". ومن صور أكل المال الحرام الرّبا الّذي حرّمه الله ورسوله، ولعن آكله وكاتبه وشاهديه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، والاعتداء على أجور العمال وعدم إعطائهم حقوقهم في أوقاتها امتثالًا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه"، والحلف على السّلعة باليمين الكاذب، والغشّ في المعاملات التجارية والتّدليس وأخذ الرّشوة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّاشي والمرتشي، وكذلك بيع المسلم على بيع أخيه وشرائه على شرائه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتّى يبتاع أو يذر". والغصْبُ والسّرقة؛ وهذا داء يعاني منه مجتمعنا اليوم بشكل كبير، تغتصَبُ أموال النّاس وتُسْرَق تحت تهديد الخناجر والسيوف، وترتكبُ فيه أبشع الجرائم من قتل وجرح وتشويه. ولذلك شدّد فيه الإسلام ووضع له حَدًّا من الحدود، فقال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة فاقطعُوا أيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. ومن ذلك غصْبُ الأرض والاستيلاءُ عليها؛ فعندما ينعدم الخوف من الله، تصير القوّة والحيلة وبالًا على صاحبها، يستخدمها في الظّلم والعدوان، ويوظّفها في الاستيلاء على أموال الآخرين وهضم حقوقهم. وقد توعّد النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غصبَ أرضًا وانتزعها من صاحبه بأشدّ الوعيد، فعن عبد الله بن عمر قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَن أخذ من الأرض شيئًا بغير حقّه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين". وأكل مال اليتيم؛ فمن كان عنده مال ليتيم فأكله أو جحده فهو آكل لأموال النّاس بالباطل، وقد توعّد الله تعالى عليه بأشدّ الوعيد، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}. والإسلام حضّ المؤمنين وأمرهم بالأكل من الطيّبات والمباحات، واجتناب المحرّمات والخبائث والمكروهات، وتركِ الأشياء المشتبهات. ففي الحلال ما يغني عن الحرام، ذلك أنّ أكل الحرام يُثمِر ثمرًا خبيثًا مُرًّا، وهو ما ذكره النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيحِ: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ". اللّهمّ أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمّن سواك. اللّهمّ حبّب إلينا الحلال من الطيّبات، وكرّه إلينا الحرام من الخبائث والمنكرات.