يواصل المحققون والعدالة البلجيكية، من خلال القاضي مايكل كليز، الخبير في الجرائم الاقتصادية، التحقيق في إحدى أكبر قضايا الفساد التي تهز البرلمان الأوروبي والتي من شأنها المساس بمصداقية الاتحاد الأوروبي بشكل عام، بعد بروز دلائل وقرائن تثبت تورط المخابرات المغربية في شراء ذمم برلمانيين أوروبيين للتأثير على قرارات هذه الهيئة التشريعية خصوصا في قضية الصحراء الغربية. وتحدّثت وسائل إعلام أوروبية بإسهاب عن قضية "تورط القطريين في رشوة" برلمانيين أوروبيين من أجل الدفاع على تنظيم قطر لكأس العالم، ردا على حملة الانتقادات التي تعرّض لها البلد الخليجي بسبب مزاعم عن انتهاك لحقوق العمال أثناء بناء المنشآت التي تحتضن مباريات المونديال. ولكن ما يعاب على الإعلام الأوروبي عموما هو تركيزه على قضية قطر، بينما يلتزم "الصمت" حول قضية تورط المغرب في فضيحة فساد جديدة تمتد خيوطها إلى داخل البرلمان الأوروبي. فاستنادا إلى صحيفة "ستاندار" البلجيكية، فإن التحقيقات التي فتحتها المخابرات البلجيكية تحت إشراف القاضي مايكل كليز، الخبير في الجرائم الاقتصادية، كشفت تلقي بعض البرلمانيين الأوروبيين لمبالغ مالية وهدايا ثمينة من مسؤولين مغاربة بغرض التأثير على القرارات التي تتخذ داخل البرلمان الأوروبي. وكشفت صحيفة "لاريبوبليكا" الإيطالية عن وثائق متعلقة بممارسات مشبوهة لبعض النواب في البرلمان الأوروبي ومقره بروكسل، قبل أن تكشف صحيفة "لوسوار" البلجيكية عن اعتقال نائبة رئيسة البرلمان الأوروبي اليونانية، إيفا كايلي، في إطار حملة اعتقالات طالت شخصيات برلمانية، أبرزهم النائب الاشتراكي السابق في البرلمان الأوروبي، الإيطالي بير بازيري، الذي أسس منظمة حقوقية بتمويل من مخابرات المخزن، من خلال كل من رئيس الإدارة العامة للدراسات والتوثيق وهو اسم المخابرات المغربية، بالإضافة إلى سفير المغرب ببولونيا، عبد اللطيف حموشي، الملقب في التسريبات ب "العملاق" في إشارة إلى نفوذه. العلاقات بين بانزيري والمغرب بدأت خلال عهدته البرلمانية الأولى بداية من 2011، إذ التقى آنذاك مع أعضاء وفد سفارة المغرب ببروكسل، وهذا لترتيب زيارته إلى الرباط بعد أسبوعين من اللقاء. وحتى يصرف الشكوك حول كونه مقرب من المغرب، قام بزيارة المخيمات الصحراوية بتندوف. وخلال عهداته الثلاث، تمكّن بانزيري من توطيد علاقاته مع "المخزن" بعد أن كان عضوا في لجنة العلاقات مع المغرب العربي، بينما تصفه الرباط بكونه شخصية مفتاحية داخل البرلمان الأوروبي من أجل مواجهة البرلمانيين الأوروبيين المساندين والمدافعين عن قضية الصحراء الغربية، بقيادة النائب البرلماني البريطاني تشارلز تانوك.
ملفات ملفقة وهدايا .. وإرهاب!
وحسب التسريبات، فقد انكشفت خيوط هذه العلاقة المشبوهة في 2019، مع نهاية العهدة الثالثة لبانزيري في البرلمان الأوروبي، إذ قام بإنشاء منظمة ظاهرها هو الدفاع عن حقوق الإنسان تسمى "محاربة اللاعقاب"، غير أن هذه المنظمة لم تكن سوى مطية لعقد صفقة مع مخابرات "المخزن"، إذ قام بانزيري بزيارة الرباط والتقى مع شخص "خطير" هناك يحمل اسم محمد.ب ويعمل لحساب سفير المغرب ببولونيا، عبد الرحيم عثمون، هذا الأخير الملقب ب"العملاق". وحسب نفس التسريبات، فإن محمد.ب مقيم بفرنسا وهو مكلف بتلفيق قضايا سرية حول جهاديين مزعومين. وبحسب ما كشفته صحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية، فبين عامي 2015 و2016، تحصّل محمد.ب على ما بين 100 و200 ملف من نقيب في شرطة الحدود في مطار أورلي يحتوون على معلومات سرية جمعتها الشرطة الفرنسية. ومقابل هذه الملفات، تلقى العملاء الفرنسيون المتورطون إقامات في فنادق فاخرة كهدايا. ولم تقدّم التسريبات تفاصيل أخرى حول هذه القضية، لكن الأكيد أنها الجزء الظاهر من جبل الجليد، ما يعني أن التحقيقات ستكشف مزيدا من التفاصيل في الأسابيع القادمة، خاصة وأن الأمر له علاقة بملف الإرهاب بما أن ملفات "جهاديين" مزعومين قد تم تلفيقهم، ومن المرجح أن التحقيقات ستكشف تورط "المخزن" والمخابرات الفرنسية في هذا الملف، مع إمكانية سقوط رؤوس كبيرة في أوروبا.
مخابرات المنصوري تشتري ذمم برلمانيين أوروبيين
واستنادا إلى نفس المصدر، فإن بانزيري كان مقربا من فرانشيسكو جيورجي عندما كان يعمل هذا الأخير مساعدًا في البرلمان الأوروبي، علما أن جيورجي هو صديق شريكة نائبة رئيس البرلمان الأوروبي، إيفا كايلي، التي اعتقلت يوم الجمعة الماضي بعد اكتشاف 150 ألف يورو في منزلها. أما رفيقها جيورجي، فاعترف للمحققين البلجيكيين، أنه كان ناشطا في المنظمة التي يديرها بانزيري والتي يستعملها المغرب بغرض التدخل والتأثير في قرارات البرلمان الأوروبي وأن دوره في المنظمة كان إدارة الأموال. كما تم القبض على والد إيفا كايلي في أحد الفنادق في بروكسل بحقيبة تحتوي على 600 ألف يورو. هذا ويتواصل التحقيق مع شخصين آخرين، وهما البرلماني الأوروبي الإيطالي، أندريا كوزولينو والبلجيكي مارك طرابيلا، للاشتباه في تلقيهما أموالا من بانزيري. واستنادا للوثائق التي تحصلت عليها صحيفتي "لوسوار" البلجيكية و"لاريبوبليكا" الإيطالية، فإن أنطونيو بانزيري وأندريا كوزولينو ومساعده فرانشيسكو جيورجي، كانوا على اتصال بالمخابرات المغربية من خلال المديرية العامة للدراسات والتوثيق التي يرأسها ياسين المنصوري، وكذا سفير المغرب في بولندا، بالإضافة إلى اثنين من عملاء المخابرات المغربية، دون تحديد جنسيتهم. وأضاف المصدر أن بعض الموظفين في مقرات البرلمان الأوروبي في كل من بروكسل وستراسبورغ، عملوا كذلك في المنظمة التي أسسها بانزيري الواقعة في بروكسل. كما قرر القضاء البلجيكي إبقاء بانزيري وجورجي في السجن لمدة شهر إضافي، بينما تم تأجيل جلسة الاستماع لكايلي إلى يوم 22 ديسمبر الجاري، لتبقى هي الأخرى محتجزة في السجن.
سمعة ومصداقية أوروبا على المحك
هذه القضايا التي تورطت فيها المخابرات المغربية والفرنسية وشخصيات أوروبية، من خلال شراء ذممهم تعكس الأساليب "القذرة" التي يستعملها المغرب منذ عقود من أجل الحصول على تأييد المجتمع الدولي في قضية الصحراء الغربية، التي تعتبر مسألة تصفية استعمار ومطروحة على طاولة الأممالمتحدة. وتسعى الرباط إلى تمويل اللوبيات في مختلف العواصم، من خلال تنظيم ندوات ولقاءات سرية وعلنية واستقبال وفود لزيارة الأراضي الصحراوية لتغليط الرأي العام حول هذه القضية. والأكيد أن الاتحاد الأوروبي يجد نفسه في ورطة حقيقية وهو الذي يرفع شعارات العدالة والدفاع عن حقوق الإنسان كمبادئ سامية تأسس عليها، علما أن مصادر من داخل الهيئة الأوروبية أكدت بدء إصلاحات جدية من أجل احتواء هذه الأزمة "الأخلاقية" التي تهدد مصداقية أوروبا بصفة عامة.