في الفاتح نوفمبر من كل عام، تتناثر في الجزائر لآلئ الذاكرة، فتنعكس نورا يضيء دهاليز التاريخ ويوهج أرواحنا بالفخر وبعرفان للشهداء والمجاهدين لا ينتهي…. سبعون عاما منذ الميلاد الجديد للأمة الجزائرية التي انبعثت حية بعد حرب إبادة دامت 132 سنة، مارس خلالها الاحتلال الفرنسي كل أساليب البطش والقتل والتهجير والتجهيل وتزييف الجغرافيا وتسخير الإيديولوجيا وتفسير التاريخ بما يناسب أطروحته الاستعمارية... ميلاد عظيم بعد قرن ونصف من محاولات شيطانية لمسح الهوية الجزائرية من الذاكرة الإنسانية وتعويضها بمسخ عرقي هجين، إن كان لطائر العنقاء وجود خارج موروث الأسطورة لن يكون إلا الجزائر.. فقد أتقن الاستعمار جريمته وتجبر وطغى وتحصن بطول الزمن حتى اطمئن لانصهار الأمة بنار جحيمه، ووثق من انطفاء لهيب مقاومتها الشعبية التي سطرت ملاحم خالدة ودس أبطالها العظماء بذور الكفاح في ترابها قبل إفنائهم وقبل نفيهم... فأعلن الاستعمار اكتمال مشروعه الاستبدادي الخبيث كأقسى استعمار استيطاني مر على البشرية، وتباهى بنجاحه في تحويل الجزائر الحرة إلى مستعمرة استيطانية عنصرية، ينهل فيها الأوروبيون من خيراتها وثرواتها ويسومون القهر والذل والاستعباد لشعبها الحر الأصيل... لقد كان الاحتفال بمئوية احتلال الجزائر عام 1930 فكرة استفزازية تمخض عنها غباء المستعمر، الذي يبقى تلميذا غبيا مثلما قال ذات يوم صديق الجزائر والقائد الفيتنامي المحنك جياب (Le général Vo Nguyen Giap)، فقد عبرت عن رغبة المستعمر الفرنسي في تأكيد نعي الجزائر ونشر اليأس من إمكانية عودة الأرض إلى أصحابها.. ولم يعلم أن بذور المقاومة قد تمددت في أرض الأجداد الطاهرة، وتفرعت جذورها الصلبة وسترتوي بعد 15 عاما من الاحتفالية بدماء زكية في الثامن ماي 1945، لتثمر بعد أقل من ربع قرن، أعظم ثورة تحريرية في التاريخ المعاصر، لن تشهد فرنسا الاستعمارية بعدها احتفالية مئوية أخرى..
لقد خط بيان أول نوفمبر 1954 نعي فرنسا الاستعمارية واجتماع مجموعة الستة التاريخيين بالعاصمة في 23 أكتوبر 1954 والمنبثقة عن اجتماع مجموعة ال22، أيقظها من وهم الجزائر الفرنسية.. في أكتوبر تسارعت الأحداث وفي نوفمبر اندلعت وطوت بقرار لا رجعة فيه قرن الاحتلال والاضطهاد والإبادة، وأسدلت الستار على كافة المناهج والأساليب والمقاربات التي تبنتها الحركة الوطنية من أجل الوصول إلى حل عادل للقضية الجزائرية.. لقد كان الفاتح نوفمبر فاتحة كل شيء وانطوت ملاحمه على نهايات أكيدة، وبدايات جديدة بفكر تحرري جديد، وتنظيم جديد وقيادة ومفاهيم ثورية جديدة، وهدف واضح جديد لا يقبل التأويل ووسيلة وحيدة جديدة هي الكفاح المسلح في إطار الوحدة الوطنية، دون انتماءات حزبية من أجل تحقيق هدف واحد هو استقلال الجزائر... لقد شكل الظلم الذي تجرعه الشعب والتقتيل الجماعي لخمسة وأربعين ألف جزائرية وجزائري في مجازر الثامن ماي 1945، منعرجا حاسما في تاريخ النضال الوطني، فقد كانت جريمة دولية مكتملة الأركان تحمل وصف الإبادة الجماعية من منظور القانون الجنائي الدولي، وغدرا وخديعة بأبرياء مسالمين، وحلقة جديدة في سلسلة جرائم الإبادة والتصفية العرقية والتعذيب التي لم تتوقف منذ1830.. نفخت هذه المجازر شعلة الكفاح في وجدان الشعب، وتمخضت بعد تسع سنوات عن مشروع الثورة التحريرية المباركة... مشروع ثوري ميداني عظيم جمع السرية والعبقرية والحكمة والحماس والنضج، نسجته عقيدة راسخة آمنت بها مجموعة فذة من ستة شباب وطنيين واقعيين، تمرسوا على كل أشكال النضال وخاضوا معاركه الحزبية والسياسية وعايشوا مساراتها وانكساراتها وراقبوا انحرافاتها، واستنتجوا أن الكفاح المسلح هو الأداة النضالية الحقيقية الوحيدة التي ترد الحقوق وتهزم الاستعمار وتردع أذنابه، وأن القوة تُدك بالقوة، والاحتلال بالثورة، والدم بالدم، وما سوى ذلك سراب لا يزال البعض يحسبه ماء.. قد يبدو الأمر عاديا ومنطقيا اليوم، أن تنتفض مجموعة من الشباب ويعلنوا الحرب على رابع قوة عسكرية في العالم آنذاك، وان يضعوا من أجل ذلك إستراتيجية واضحة ومخططا عسكريا وسياسيا شاملا ثم يقومون بتجنيد ملايين الجزائريين وراء هدف واحد... ليس عاديا أبدا.. إن ما قاموا به هؤلاء العارفين البواسل يرقى إلى المعجزة، ولا تزال الصدمة التي أحدثها قرارهم البطولي ترتعش معها إلى اليوم أنامل المؤرخين وهم يدونون المراحل التي مرت بها ثورة نوفمبر المجيدة....
لقد تحمل الشباب الستة في المناطق الست ليس فقط شجاعة الإعلان عن قيام الثورة ورسم معالمها بوضوح وتسيير انطلاقتها باقتدار، بل أيضا مسؤولية تجنيد الشعب الجزائري وراء الهدف وإقناعه بيقينهم، ومواجهة الرافضين والخائفين والمشككين في القدرات والمتوجسين من النوايا والمتمسكين بأساليب النضال البائدة، لاسيما وأن الثورة ولدت بلا ذاكرة قيادية، دون زعيم ولا أمجاد شخصية ولا انتماء عرقي أو سياسي إلا للوطن،.. شباب الثورة المقدام، وحد الصفوف تحت راية الكفاح المسلح من أجل استقلال الجزائر، واختزل تنظيمات الثورة في مؤسستين فقط للتحرير الوطني هما جبهة التحرير الوطني (سياسية) وجيش التحرير الوطني (عسكري)، ومنح الشعب الجزائري بكافة فئاته وأطيافه ونخبه فرصة المشاركة في تغيير وجه التاريخ وتحرير البلاد من الاحتلال، وحدد اليوم والساعة وصاغ بدقة وبلاغة شهادة ميلاد الجزائر الحرة المستقلة، فكان بيان أول نوفمبر 1954. لذلك، كلما سُئلت عن الزمن، أقول إن الجزائريين ولدوا جميعا بشهادة ميلاد نوفمبرية واحدة لذلك فوحدتهم فريدة، والتحامهم بقيادتهم وبجيشهم الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني بحق وجدارة، لا تضاهيها إلا وحدتهم أثناء الثورة المظفرة بل هي انعكاس وامتداد لها ووحي منها واقتداء بها،.. والوحدة على رأس أولويات دبلوماسيتنا وأول ما نسعى إلى تحقيقه في وساطاتنا ولا نرى بديلا عنها كأول خطوة صحيحة في مسار التحرر من نير الاستعمار.. تاريخنا نوفمبري وقبل أول نوفمبر 54 كانت الأمة الجزائرية العريقة تسير على نفس أبعاده الإنسانية ومرجعيته السديدة، وها هي اليوم تستعيد هذه المرجعية لتؤسس على هداها الجزائر النوفمبرية الجديدة المنتصرة بقيادة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون.. جزائر أضاء فيها وهج الذاكرة الوطنية، وعاد البيان الخالد ليؤسس أرضية صلبة للجمهورية التي أرادها الشهداء الأبرار والمجاهدون الأخيار: الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة.. دولة الحق والعدل والحريات والقانون والعمل والتنمية والسلم والازدهار.. جزائر انتصرت لتبقى منتصرة على تحدياتها بالعمل والتنمية والابتكار، وعلى أعدائها والمتآمرين على شعبها بالوحدة واليقظة والتكاتف، مزدهرة بأبنائها المخلصين ومهارات شبابها، شامخة باستقلالها واستقلالية قراراتها وخياراتها، ومنتصرة لمواقفها المناهضة للاستعمار والمناصرة لحقوق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار، دامت الجزائر قوية وشامخة.