بعد سنوات قليلة من اندلاع الثورة الجزائرية، قرّرت جبهة التحرير الوطني فتح باب جديد للمقاومة ضدّ الاستعمار وهو الباب الفني والثقافي المجيد، وانبثق عن هذا الوعي إنشاء الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني بتونس في مارس 1958 تحت قيادة الفنان المرحوم مصطفى كاتب، وكان الخامس جويلية 1962 بمثابة الإعلان الرسمي لترميم الهوية الوطنية، واسترجاع مقوّماتها التي حاربها الاستعمار طيلة 132 سنة، حيث لم يكتف هذا الغاضب بالإبادة والنهب والحرق، بل سلب الهوية والتاريخ لفرض واقع الانهزام على شعبنا، إلاّ أنّ الثقافة الجزائرية قاومت ثقافة المستعمر لتساهم بعدها كلبنة ركن في بناء الدولة الفتية. وظّف الشعب الجزائري الثقافة لإحباط مخطّطات المستعمر العنصرية، وكان هذا الشعب بنخبه وأفراده وبكلّ عبقرية يصوب ضربة رجل واحد لوجه الاحتلال حتى افتك استقلاله ومن ثم بدأ العمل لإرساء سياسة ثقافية متكاملة، تعكس تراث التاريخ وثقل واقع البناء، حيث تمّ استدعاء الفنانين الجزائريين من عالميّ التمثيل والموسيقى في كلّ من الجزائر، فرنسا، المغرب، تونس وسويسرا ولبى الكثير منهم النداء (حوالي 40) والتحقوا بفيلا «باردو» بتونس لتنطلق التدريبات الفنية في غضون ستة أشهر كاملة كان فيها الفنان كالجندي يطبّق التعليمات ويحضّر نفسه لمهمته. كان أوّل عرض فني تحت اسم «نحو النور» بالمسرح البلدي لمدينة تونس، وهذا في 24 ماي 1958، وهو عرض مطوّر للعرض «الجزائر تسير»، الذي قدّمته فرقة المسرح الجزائري في المهرجان العالمي للشباب بموسكو، وهو عبارة عن لوحة فنية ضخمة تمثّل خصوصيات المناطق الجزائرية من خلال شاب فدائي يتلقى تعذيبا شرسا بعد القبض عليه من طرف المحتل، فيغمى عليه وتتراءى إليه امرأة تدعوه إلى القيام بجولة يرى فيها ذكرياته كختانه وأسفاره. انطلقت الفرقة في شهري جوان وجويلية من نفس السنة في جولة عبر التراب التونسي يعقبها عرض لمسرحية «مونسيرا» في تونس العاصمة والمدن المجاورة، وهذا في أوت وسبتمبر من نفس السنة، وفي أكتوبر ونوفمبر كانت أوّل جولة خارج حدود البلد المقيم وكانت الوجهة ليبيا، بعدها جولة إلى يوغسلافيا سابقا دامت عشرين يوما وغطّت عدّة جمهوريات مثل البوسنة، كرواتيا وصربيا. وبعد عودة الفرقة إلى تونس يوم 6 جانفي 1959 شرعت في تحضير مسرحية «أولاد القصبة» من تأليف عبد الحليم رايس، تحكي عن الكفاح الجزائري داخل المدن، وقدّمت هذه المسرحية التي استلهمت من الواقع الجزائري، في تونس وعلى الحدود وكان ذلك على شرف ألفي جندي كانوا سيعبرون خط موريس، وخلال العرض طلب مصطفى كاتب من القائد العسكري أن يفرغ الجنود بنادقهم من الرصاص خوفا من ردة فعلهم تجاه بعض المشاهد كمشهد الاغتصاب. قدّم أوّل عرض لمسرحية «الخالدون» في 12 أفريل 1960 في المسرح البلدي لتونس، وهي أيضا من كتابة عبد الحليم رايس وعرضت أيضا في الصين بعد دعوة من «اللجنة الصينية للصداقة والتضامن مع الشعوب الإفريقية»، وفي يوم 5 ماي من نفس السنة وصلت الفرقة إلى الاتحاد السوفياتي سابقا بعد تلقيها أيضا دعوة في إطار الاحتفالات بالذكرى الثالثة والأربعين لثورة أكتوبر فقدّمت مسرحية «نحو النور» في المسرح الشهير «مولي تياتر» علاوة على العديد من الحفلات الغنائية. بعد هذه الجولة بدأت في إعداد مسرحية «دم الأحرار» وعرضت لأوّل مرة في 29 ديسمبر 1961 في المسرح البلدي لتونس، وفي شهري جوان وجويلية في المغرب ومن ثم في العراق، لتكون هذه الجولات كلّها برهانا أكيدا على أنّ الجزائريين ليسوا فرنسيين وأنّ لهم باع طويل في الثقافة والتراث الأصيلين، وأنّ فرنسا لا تمتد، حسب أقاويل قادتها من دانكارك إلى تمنراست. إعادة ترميم البنية التحتية ولعلّ التحدي الذي واجه الجزائر غداة الاستقلال هو ذلك الفراغ الرهيب الذي تركه المستعمر فيما يتعلق بالفضاءات والمؤسسات الثقافية، وحتى في الكفاءات إضافة إلى اكتشاف الجزائر لمدى النهب الذي مسّ ممتلكاتها الثقافية التي هربها المستعمر وأعوانه إلى الخارج، وهكذا كانت تركة المستعمر ثقيلة وكان هذا الموروث تهديدا للسيادة الوطنية، بما يحويه من مفاهيم وقيم استعمارية ناكرة للهوية والتاريخ، فسارعت النخب المثقفة، على قلّتها، إلى التدخّل لتلتحق بمسيرة البناء الوطني، وكان لقطاع الثقافة دوره فيما تحقّق من إنجازات في شتى روافد الفكر والأدب والمسرح والسينما والموسيقى وغيرها رغم الفراغ الرهيب في المؤسّسات الثقافية غداة الاستقلال. أدركت الجزائر سريعا أنّ بناء الدولة الوطنية، لن يكون إذا ما أسقط المحور الثقافي من اختياراتها الاستراتيجية، لذلك سارعت إلى إنشاء العديد من المؤسسات منها مؤسسات السينما (إنتاج وتوزيع) والمسارح ومعاهد التكوين، ناهيك عن تنظيم المهرجانات التي سجلت حضورها القوي منذ المهرجان الثقافي الإفريقي الأول سنة 1969، وما تحقّق فيه من مكاسب ثقافية. انطلقت المشاريع الكبرى في المجال الثقافي بتوسيع المرافق والهياكل، وتعزّزت المكاسب بظهور «الثورة الثقافية» التي تبنت نهضة شاملة عبر كل مناطق الوطن في إطار ما سمي بسياسة «التوازن الجهوي»، وتتوالى التحوّلات وتتعزّز المكاسب وصولا إلى العشرية السوداء التي استهدفت النخب المثقفة إلاّ أن الفعل الثقافي لم يشل ليصبح هدفه بعث الأمل والحياة وتصحيح صورة الجزائر في تلك الفترة. الثقافة أحد أهم روافد التنمية استرجعت الثقافة مكانتها في مطلع القرن ال21 لتصبح رقما مهما في عملية التنمية الوطنية، مما سمح لها بالتطور واكتساب المزيد من الإبداع والاستمرارية والحريات وصقل المواهب وحماية وتثمين التراث. مسيرة 50 سنة تعكس الفرق المهول بين ما كان سنة 1962 وما تحقّق وفي ذلك لا يوحد أي مجال للمقارنة بين ما كان وما تحقق فالتحول تم من العدم، فهي مسيرة تحقّق فيها الإبداع والتكوين والتوظيف والتأطير والكفاءة ومنظومة مؤسساتية وقانونية متكاملة، وعرفت الجزائر المستقلة أجيالا من المبدعين كانوا امتدادا لجيل سبقهم أرسى قواعد الثقافة الجزائرية ودفعها إلى الاستقلال. أصبح للجزائري مسرحه الذي يضم العمالقة، مثل كاكي وعلولة ومصطفى كاتب ومجوبي وسيراط بومدين وغيرهم ممن قدموا روائع أصبحت من عيون المسرح الجزائري، كذلك السينما التي أنجبت جيلا فتح سجل التاريخ وأخذ منه مادة ناطقة عكستها الكاميرا وكأنها واقع، ورافقت السينما هي أيضا التحوّلات الكبرى في المجتمع الجزائري فكانت الشاهد والراصد لها بالعرض والنقد. قس على ذلك باقي فنون الإبداع من موسيقى ورقص وفن تشكيلي وأدب خطي إلى الواقع بالارتكاز على التقاليد والحب والمرأة والروح الجماعية وبرز جيل من الشباب ازدهرت معه لغة الضاد والبنية الاجتماعية في الأدب ناهيك عن البعد الجمالي، وأصبح الإبداع من جهة أخرى، ناقدا لاذعا لبعض السائدة في محاولة حادة (أحيانا بأسلوب ساخر) لإعطاء مساحة للرأي والنقد البناء. أنشأت الدولة المستقلة العديد من المؤسسات الثقافية منها وكالة إنجاز المشاريع الثقافية الكبرى ووكالة الإشعاع الثقافي والديوان الوطني للثقافة والإعلام، والبالي الوطني، والأوركسترا الوطنية والمرصد الوطني للكتاب وديوان تسيير واستغلال الممتلكات الثقافية وغيرها كثير. وتدعّمت الثقافة أكثر في السنوات الماضية بفضل إرساء إستراتيجية ثقافية وطنية تراعي عدد من العوامل المشكّلة للشخصية الجزائرية من أهمها إبراز تنوّع وثراء التراث الثقافي المادي وغير المادي ونقاط التقائه مع الامتداد الثقافي والحضاري الجزائري، الإفريقي، الإسلامي، العربي والمتوسطي، مع إبراز الديناميكية الإبداعية في الجزائر في جميع الحقول والميادين الثقافية وإبراز الأسماء الثقافية والفنية الجزائرية وتسويقها دوليا، ومن هذا المنطلق عاشت الجزائر خلال السنوات الماضية، حركية ثقافية دعّمت تواجدها على مختلف الأصعدة الإبداعية والفكرية من خلال عدد من الإنجازات الثقافية التي يشهد لها القاصي والداني، كيف لا وهي التي أعادت للجزائر ألقها داخليا وعزّزت تواجدها في شتى المحافل العالمية عبر التزامها تجاه مختلف الهيئات الدولية الإقليمية والدولية. تعزيز الجانب التشريعي لقد وضعت الجزائر على رأس أولوياتها مسألتين في غاية الأهمية كونهما ركيزتين ثقافيتين حيويتين، هما الحفاظ على التراث وتثمينه وكذا وضع معالم واضحة لسياسة الكتاب، علاوة على مسائل ثقافية أخرى لها علاقة مباشرة بالمشهد الثقافي الوطني وامتداده على المستوى الدولي، ولا يمكن جزما الحديث عن الحركية الثقافية والإبداعية التي عاشتها الجزائر خلال السنوات الماضية دون التوقف عند أهم النصوص التشريعية؛ التي جاءت لتنظّم الحياة الثقافية الوطنية وتعطيها دفعا يجعلها أكثر حضورا ووضوحا، وذلك في شتى دروب الثقافة الوطنية بداية من التراث، الكتاب، السينما، النشاطات الثقافية التي أعطت مختلف ربوع الجزائر ذاك المتنفّس الذي خنق لسنوات عرفت خلالها الجزائر جمودا ثقافيا محليا وحصارا إعلاميا خارجيا، إلى جانب أهم التظاهرات التي شهدتها الجزائر وفاء منها لالتزاماتها مع الهيئات الدولية ومحطات أخرى شكلت بامتياز ملامح المشهد الثقافي في بلادنا التي تتهيأ لاستقبال مطلع 2015 تظاهرة كبرى أخرى هي «قسنطينة عاصمة الثقافة العربية». وعملت الدولة جاهدة من أجل إدخال مزيد من الديمقراطية في الحياة الثقافية بالبلاد، بالإضافة إلى دراسة التمويل والاستثمار وتنسيق مختلف أعمال الترقية الثقافية مع احترام التوازن بين متطلّبات السوق وضرورات تدعيم القطاع، كما اقترحت وزارة الثقافة برنامجا لمختلف الأشكال ينطلق من التشجيع على الإبداع ونشر أعمال الفن والفكر، إلى إعادة فحص ومراجعة التراث الثقافي الوطني لتوضيح الأشكال الأصيلة، مرورا بضبط مخطط للثقافة الموجّهة للطفولة والشباب، وكذلك إنعاش الصناعات المرتبطة بنشر الثقافة وتكييف المؤسسات الثقافية بالمعطيات الاجتماعية الجديدة. وتضبط مختلف الأنشطة الثقافية منظومة تشريعية وتنظيمية متكاملة تتشكل لاسيما من قانون حماية التراث الثقافي لسنة 1998، قانون حق المؤلف والحقوق المجاورة لسنة 2003، قانون الإيداع القانوني لسنة 1996 وقانون السينما لسنة 2011 إلى جانب ترسانة تنظيمية ضخمة من مراسيم وقرارات وزارية. يعرف المشهد الثقافي الكثير من التجاذبات التي تجعله على الدوام محط إعجاب تارة وانتقاد تارات أخرى، فالرافضون للسياسة الثقافية الوطنية وحتى الذين يؤكّدون عدم وجودها أصلا، يبرّرون موقفهم هذا بهيمنة الفلكلور على المشهد الثقافي، غير معترفين بكلّ ما عرفته الجزائر من إنجازات ثقافية من حيث المنشآت التي شيّدت هنا وهناك وكذا حضور الجزائر في مختلف المحافل الدولية، إذ يعتقدون أنّ تسيير المشهد الثقافي يشوبه الفوضى والضبابية واستحواذ أقلية معينة عليه، فيما هناك من يؤكّد أن ما تقدّمه الدولة في المشهد الثقافي يجعلها في مصاف الدول النشطة ثقافيا، ويؤكّد الراضون عما أنجز «أنّ التظاهرات التي نظمتها الجزائر في السّنوات الأخيرة، مكّنت الممارسة الثقافية في الجزائر من إيجاد الدعم الضروري لوضع استراتيجيات بعيدة المدى وأن تبنى هياكل ثقافية جديدة بالمقاييس العالمية، وأن ترمم المعالم الأثرية، وتنظم عدة نشاطات في مختلف المجالات، وأن تنال كل الفنون دعما لإخراج الأعمال التي تشكّل إضافة للمشهد الثقافي، وهناك أيضا استفادة كبيرة على الصعيد الرمزي من خلال تقديم صورة الجزائر للآخر». ويضيف هذا الفريق، أن التظاهرات الثقافية الكبرى أعادت الوجه الحقيقي للجزائر بعد خروج مضن وحالك من الانعزال والعشرية السوداء، كما أعادت لها مكانتها وسمحت لها بالتعريف بهويتها التي استعادتها من خلال هذه التظاهرات، ومكّنت بلادنا من الحضور على الساحة الثقافية العربية والعالمية وسمحت لمثقفينا بالاحتكاك بزملائهم من مختلف الأقطار والانتماءات، وهذه التظاهرات ستبقى دليلا على حرض الجزائر على القطاع الثقافي الذي يعتبر شريان أي بلد وأي أمة. كما استطعنا أن نتعرّف من خلالها على حضارتنا وعراقة تاريخنا، لا بل وتمت أرشفة كل ذلك بأفلام وثائقية وكتب جاءت من صنيع الشباب الذي أعطيت له الفرصة وفتحت في وجهه الأبواب طيلة التظاهرات، بدءا بسنة الجزائر بباريس وصولا إلى «تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية».