إن نيل الاستقلال الوطني في 5 جويلية 1962 أفرز عدّة تحديات منها ما يتعلق بترميم الهوية الوطنية واسترجاع مقوماتها التي تصدعت طوال فترة الاحتلال جراء ما تعرضت إليه من دمار وقهر واستبداد وسلب للشخصية الوطنية. لم يكن الاستعمار احتلال للأرض ولخيراتها فحسب بل كان اغتصابا لهوية شعب ولتاريخه ولمقوماته الدينية واللغوية وإبادة عرقية وعنصرية لشعب رفض الانصياع والانهزام منذ أن وطأت أقدام الاستعمار أرضه وسلبه حقوقه وأنكر وجوده. ما دام أن الاستعمار كان استيطانيا فإن فلسفته قامت على محاربة ثقافة الشعب الجزائري المحتل بغرض محوها واستبدالها بثقافة المعمرين الدخلاء القائمة على مقومات لغوية ودينية وفلسفية غريبة وكان ذلك المسعى يندرج في سياق إضعاف مقومات المناعة التي تحصن بها الشعب الجزائري طوال 132 سنة. كان الاحتلال يدرك أن نجاح سياسته الاستيطانية لا يتأتى بالقتل والتنكيل وبإفقار الشعب فحسب، بل من خلال التأثير على مقومات مناعته التي يتغذى منها لرفض الاحتلال، فاستهدف العقل والفكر وأقمع حرية التعبير والابداع وآتى على المنظومة التربوية السائدة قبل الاحتلال وحارب الزوايا والمدارس القرآنية وشجّع الشعوذة واعتمد سياسة التفرقة بتغذية النعرة العرقية... بالمقابل، اعتمد الاحتلال سياسة ثقافية لصالح المعمرين من خلال توفير فضاءات ثقافية في المدن الكبرى وهي المرافق التي استحدثها لتلبية الحاجيات الثقافية للمعمرين على غرار المسارح والمتاحف وقاعات السينما التي سدت أبوابها في وجه الجزائريين دون إغفال المحتوى الثقافي الدعائي لصالح الاستعمار والذي كان يروج لأفكارهم ويقدم الإنسان الجزائري في صور نمطية سلبية ومحتقرة ولم ينجز ولو فيلما واحدا أو مسرحية واحدة تطرح إشكاليات جريئة أو موضوعية أو على الأقل محايدة. لم يكن الاستعمار وحده من عرف كيف يوظف الثقافة لتحقيق مخططاته بل كان الشعب الجزائري هو من عرف أيضا كيف يجعل من الثقافة عاملا من عوامل المقاومة وعاملا واكب الحركة الوطنية وسلاحا وظفه بعبقرية وذكاء خلال ثورته المظفرة. خلال الفترة كلها كان الفنان والأديب الجزائري منظرا حاشدا للهمم فمن خلال المؤلفات واللحن والمسرح والريشة والصورة ابقوا كلهم على شعلة المقاومة قائمة في النفوس والضمائر وساهموا إلى حدّ بعيد في التمهيد للثورة وتوصيل عدالة قضيتها إلى الرأي العام الدولي بما فيه الرأي العام الفرنسي وبلغة المستعمر التي وصفها كاتب ياسين ب"غنيمة حرب" لم يكن الاستقلال السياسي واسترجاع السيادة على التراب الوطني وحدهما كافيين بل كان لزاما أيضا استرجاع الهوية الثقافية والثقافة الوطنية وإعادة ترميمها جراء ما تعرضت إليه من تصدعات واهتزازات ومحاولا طمس عميقة إلى جانب الفراغ الرهيب الذي تركه المستعمر فيما يخص الفضاءات والمؤسسات الثقافية وفي الكفاءات البشرية دون أن نغفل ما قام به من سطو على الممتلكات الثقافية الجزائرية التي هربها واستحوذ عليها دون حق. لعل التحدي الأكبر غداة الاستقلال كان استرجاع اللغة العربية ودسترة اللغة الأمازيغية وتصحيح المفاهيم بالنسبة للبعد التاريخي للإنسان الجزائري في المنظومات التربوية والثقافية والإعلامية وهو المسار الذي تطلب كثير من الوقت بسبب الإرث الاستعماري الرهيب. إن الموروث الثقافي الاستعماري كان يشكل تهديدا خطيرا بالنسبة للسيادة الوطنية حيث أنه كان يحتوي على مفاهيم وقيم استعمارية متنكرة للهوية الوطنية ولتاريخ الأمة وهو ما جعل الدولة تستنجد بالنخبة الوطنية المثقفة رغم قلتها والتي واكبت الثورة التحريرية لمواصلة دورها الذي لم يتوقف بنيل الاستقلال. فكانت هذه النخبة هي من أطرت المشهد الثقافي طوال ما يقارب عقدين من الزمن إلى حين تكوين طلائع ثقافية من الجيل الجديد. وكان لقطاع الثقافة دورا مشهودا في ترميم الهوية الوطنية من خلال ما قدمه من إنجازات مسرحية وسينمائية وفكرية وإبداعية وفي الحفاظ على الموروث الحضاري رغم قلة الإمكانات المتاحة في السنوات الأولى للاستقلال. إن تسليط الضوء من طرف البعض على قاعات السينما الموروثة من الحقبة الاستعمارية يغفل الحديث عن الفراغ الرهيب الذي تركه الاستعمار في المرافق والهياكل والمؤسسات الثقافية الأخرى. غداة الاستقلال لم ترث الجزائر سوى مكتبة وطنية ودار نشر واحدة وخمس مسارح وثلاث متاحف ومعهد واحد فقط للفنون الجميلة والتي كانت كلها لصالح المعمرين في بلد يتشكل من تسع ملايين نسمة من الجزائريات ومن الجزائريين. لقد أدركت الدولة منذ البداية أن مسار بناء الدولة لا يتأتى دون التكفل بالجانب الثقافي الذي يشكل محورا أساسيا إلى جانب المدرسة والسكن وبعث الصناعة والتكفل بضحايا الثورة والمعطوبين واليتامى والأرامل... فلم تمضي إلا سنوات قليلة حتى أنشأت مؤسسات للإنتاج والتوزيع السينمائي ومسارح ومعاهد للتكوين وجعلت من الجزائر إحدى المحطات الثقافية الهامة على الصعيد الجهوي باحتضانها المهرجان الثقافي الإفريقي الأول سنة 1969 وما تبعه من مقررات وتوصيات وإعلانات حول دور الثقافة في مواكبة حركات التحرير في العالم. وميزت سنوات السبعينيات تطورات مذهلة في مجال توسيع شبكة المرافق الثقافية عبر الوطن في إطار "الثورة الثقافية" التي جعلت من سياسة التوازن الجهوي أمرا ملموسا وفق قناعة الدولة بتوفير الخدمة الثقافية العمومية بخلق دور الثقافة والمراكز الثقافية وخلق مؤسسات التكوين الفني والمسارح والمتاحف إلى جانب تحقيق برنامج ضخم للتكوين في الخارج ودعم الدولة للإنتاج والتوزيع الثقافي الذي أثمر بتحقيق إنجازات عظيمة وهي الفترة التي يصفها الكثير بالعصر الذهبي للثقافة الجزائرية كما كانت فترة لوضع أسس قانونية وتنظيمية تتلاءم مع طبيعة المرحلة . خلال سنوات الثمانيات عرف القطاع تباينا في تحولاته حيث ميز النصف الأول منه تكفلا نسبيا بالتراث الثقافي من خلال تصنيف عديد من المواقع ومنها تصنيف سبع مواقع على قائمة التراث العالمي وخلق مؤسسات ثقافية كبرى على غرار ديوان رياض الفتح وقصر الثقافة والمركز الوطني للدراسات التاريخية وتنظيم الصالون الدولي للكتاب الذي أظهر تعطش المواطنات والمواطنين للثقافة كما ميز النصف الثاني منه إعادة هيكلة بعض المؤسسات دون أن تحقق الأهداف المرجوة. إن ما عصف بالجزائر من أحداث خلال سنوات التسعينيات لم يكن مواتيا لبعث الحركية الثقافية لاسيما وأن أيادي الغدر والإجرام استهدفت النخب المثقفة، ولم يكن ذلك مانعا لكي يقف الفنانون والأدباء في صف شعبهم في محنته وأبقوا على الفعل الثقافي بل وظفوه أحسن توظيف لتصحيح الصورة النمطية عن الجزائر في تلك الفترة. كما عرفت تلك السنوات في ضل الأزمة المالية الخانقة حل عدد من المؤسسات الثقافية العمومية الهامة والتنازل على ممتلكاتها أو تحويلها ممّا خلق فراغا رهيبا آل إلى وضعية خطيرة كادت تنسف بكل ما تحقق من إنجازات منذ الاستقلال. لم تسترجع الثقافة مكانتها في التنمية إلا في مطلع الألفية الحالية بفضل المكانة التي أولاها لها فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة. منذ سنة 2000 ما فتأت الثقافة تحقق تطورات إيجابية فاقت بكثير ما تحقق خلال أربع عقود وجعلتها رافدا من روافد التنمية المستدامة وحققت الأهداف التي كانت مختلف المواثيق قد حددتها لها من قبل. إن النقلة النوعية التي تشهدها الثقافة الوطنية اليوم تكمن في كثير من المحاور لاسيما ما يتعلق بالتمويل والاستثمار بما يحقق التوازن الجهوي وتجسيد الحقوق الثقافية للمواطن ووضع منظومة قانونية وتنظيمية ومؤسساتية مواكبة للتطورات السائدة والتي تضمن الحريات الفردية وحماية الحقوق ومصالح الدولة ودعم الدولة لحركية الإبداع ولصقل المواهب وإعطاء دينامكية حقيقية للعمل الثقافي بما يضمن إشعاع الثقافة الوطنية داخليا وخارجيا وحماية وترميم وتثمين التراث الثقافي الوطني.
إن المتتبع للشأن الثقافي يلاحظ الفرق الشاسع للواقع الثقافي غداة الاستقلال وما تحقق خلال خمسون سنة من الانجازات فلا مجال للمقارنة إطلاقا مادام أن الامكانات المالية والمادية والبشرية كانت شبه منعدمة سنة 1962 كما لا يمكن إجراء مقارنة من حيث التكوين والتوظيف والتأطير والكفاءات ولا من حيث المنظومة المؤسساتية والقانونية المتعلقة بالثقافة. إن قطاع الثقافة اليوم يشمل على 149 مؤسسة تحت الوصاية توظف أكثر من 13.000 موظف أو عامل، بما فيها 48 مديرية ولائية للثقافة و 42 دار للثقافة و 17 مسرحا 48 متحفا أو متاحف المواقع و24 معهدا للتكوين و مركزين للبحث العلمي إلى جانب 06 دواوين الحظائر الثقافية و 1.600 مكتبة عمومية. كما أحدثت الدولة عدد معتبر من المؤسسات الثقافية على غرار وكالة إنجاز المشاريع الثقافية الكبرى ووكالة الإشعاع الثقافي والديوان الوطني للثقافة والإعلام والبالي الوطني والأركسترا الوطنية والمركز الوطني للكتاب وديوان تسيير واستغلال الممتلكات الثقافية ووكالة تسيير القطاعات المحفوظة والديوان الوطني لحق المؤلف والحقوق المجاورة والمركز الوطني للسينما والسمعي البصري، والمركز الجزائري للسينما، وديوان رياض الفتح ومركز الفنون والمعارض ومدرسة وطنية لترميم التراث الثقافي والمركز الجزائري للتراث الثقافي المبني بالطين... بحوزة قطاع الثقافة في سنة 2012 برنامج استثماري يتضمن 1.112 مشروعا ثقافيا عبر التراب الوطني. كما أضحى القطاع ينظم سنويا أكثر من 165 مهرجانا ثقافيا مؤسسا (علما أن لم يكن هناك أي مهرجان مؤسس قبل سنة 2000) إلى جانب الفعاليات الفنية والأدبية الأخرى التي تكاد أن تكون شبه يومية في مختلف الولايات ممّا تضفي على المدن أجواء ثقافية وحركية إبداعية معتبرة. وتضبط مختلف الأنشطة الثقافية منظومة تشريعية وتنظيمية متكاملة تتشكل لاسيما من قانون حماية التراث الثقافي لسنة 1998 وقانون حق المؤلف والحقوق المجاورة لسنة 2003 وقانون الإيداع القانوني لسنة 1996 وقانون السينما لسنة 2011 إلى جانب ترسانة تنظيمية ضخمة من مراسيم وقرارات وزارية. وفي هذا السياق يشكل إحداث المجلس الوطني للفنون والآداب لبنة أساسية في التكفل الأمثل بوضعية الفنانين وإيجاد الحلول الملائمة لمختلف انشغالاتهم. في مجال التراث الثقافي وفي سياق تثمين هذا التراث وتاريخ الأمة تم تصنيف أكثر من 300 معلم تاريخي وأثري وإحداث 13 قطاعا محفوظا وإخضاع إشكاليات البحث الأثري والتاريخي حول ما يتعلق بإسهامات الجزائر في الحضارة الإنسانية كما يسري العمل على جرد الممتلكات الثقافية لأول مرة منذ الاستقلال و في وضع بنك معطيات للتراث الثقافي غير المادي الذي يثمّن مكونات الثقافة الوطنية ومحاربة التهريب والمتاجرة غير المشروعة للتراث. في سياق آخر أضحت الجزائر منعطفا ثقافيا إقليميا ودوليا هاما حيث تستقطب مشاركة كثير من الدول من مختلف القارات في مختلف الفعاليات وتحتضن مؤتمرات دولية وجهوية هامة ويشهد لها عن دورها الريادي في وضع التصورات وإقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية في مختلف المحافل الدولية المختصة لاسيما في اليونسكو والألكسو والإيسسكو والاتحاد الإفريقي. وأكدت تظاهرات »الجزائر، عاصمة الثقافة العربية 2007« والمهرجان الثقافي الإفريقي 2009 وتظاهرة "تلمسان، عاصمة الثقافة الإسلامية 2011" على القدرات الإبداعية والقوة العلمية الوطنية وعلى تحكم الجزائر في تنظيم أكبر الفعاليات وفق المقاييس الدويلة ممّا يعزز مكانتها الثقافية على الصعيدين الإقليمي والدولي. كما يشهد على المستوى الدولي بقدرات الخبراء الجزائريين في إعداد المشاريع وتنظيم الفعاليات الكبرى وبالكفاءات العلمية للباحثين الجزائريين من جيل الاستقلال الذين تتسابق المنظمات للظفر للتعامل معهم. إن ما يميز قطاع الثقافة اليوم كون أن أغلبية طاقاته الإبداعية والعلمية هي من فئة الشباب التي أنجبتها جزائر الاستقلال والتي تقل عمرها عن خمسين سنة!